باختصار شديد، ليست هناك سوى خلاصة وحيدة من كل ما تشهده ارض فلسطين هذه الايّام. تتمثّل هذه الخلاصة في ان القضيّة الفلسطينية ما زالت حيّة ترزق وانّ لا مفرّ في نهاية المطاف من إيجاد تسوية سياسيّة تأخذ في الاعتبار السقوط المدوي للخيار الذي اعتمده بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في 12 سنة الاخيرة والقاضي بإلخلاص من القضيّة الفلسطينية وإلغاء الشعب الفلسطيني.
تكمن المشكلة الأساسية في ان الوصول الى هذه الخلاصة ما زال يحتاج وقتا وضحايا كثيرة في غياب الرؤية السياسية ذات الطابع العقلاني في إسرائيل من جهة ووجود حركة “حماس” من جهة أخرى. يضاف الى ذلك، في طبيعة الحال، غياب قيادة فلسطينية في مستوى الاحداث في رام الله.
ثمّة مصلحة مشتركة بين اليمين الإسرائيلي و”حماس” في استمرار التصعيد والابتعاد عن كلّ ما من شأنه التوصّل الى ايّ تسوية سلميّة تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية لشعب قدّم الكثير من التضحيات وارتكبت قياداته الكثير من الأخطاء.
في مقدّم هذه الأخطاء السماح لقوى خارجية، على رأسها ايران، بالمتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة بالجملة والمفرّق في الوقت ذاته. لم تعترض إسرائيل يوما على سلوك “حماس”. كانت تعرف دائما بارتباطاتها الخارجية، خصوصا بايران. كانت تعرف تماما ان ممارسات تلك الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، تصبّ في تبرير الجمود السياسي. يعني هذا الجمود اوّل ما يعنيه استمرار الاستيطان في الضفّة الغربيّة وذلك تحت شعار “لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه”.
لعلّ افضل هديّة قدمتها “حماس” لليمين الإسرائيلي، ولـ”بيبي” نتانياهو بالذات، الصواريخ التي اطلقتها من غزّة. عوّمت الصواريخ “بيبي” بعدما كان الانطباع السائد انّ حياته السياسيّة انتهت. من الواضح انّه لم يعد ممكنا القول ان هذه الصواريخ من النوع المضحك المبكي. على العكس من ذلك، تبيّن ان “حماس” استطاعت الحصول على صواريخ فعّالة بكميات كبيرة أخيرا. يمكن لهذه الصواريخ بلوغ العمق الإسرائيلي. ادّى اطلاق الصواريخ الى التغطية على ثورة اهل القدس على الاحتلال في ظلّ محاولة الاحتلال مصادرة ممتلكات فلسطينية في حي الشيخ جرّاح القريب من المسجد الأقصى.
فجأة، انتقل اهتمام العالم الى غزّة وصواريخ “حماس” التي تسببت في كارثة أخرى على اهل غزّة في ضوء رد الفعل الإسرائيلي الذي يمكن وصفه بالوحشي والذي الذي لا يفرق بين مقاتل ورجل وامرأة وطفل. ما هو مخيف، الى اللحظة، ان “حماس” لا تحدّد ما الذي تريده باستثناء انّها تريد إقامة توازن رعب مع إسرائيل بما يسمح لها بالبقاء في غزّة والسعي الى التمدّد لاحقا في الضفّة الغربيّة. لا تمتلك الحركة، التي اقامت امارة اسلاميّة في غزّة على الطريقة الطالبانية (نسبة الى طالبان) حدّا ادنى من الوعي السياسي يسمح لها بادراك انّ المشروع الوطني الفلسطيني شيء وخدمة إسرائيل شيء آخر.
مخيف الدور الذي تلعبه “حماس”. ما هو مخيف آخر رفض القيام بايّ عمليّة نقد للذات وذلك منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزّة كلّها في آب – أغسطس من العام 2005 تمهيدا لطرد “فتح” من القطاع والتفرّد بحكمه.
ستؤدي تصرّفات “حماس” الى تدمير كبير في غزّة على كلّ المستويات. سيزداد وضع الغزّاويين سوءا. لا تريد الحركة العودة بالذاكرة الى الماضي القريب حين كان في استطاعتها تحويل غزّة بعد الانسحاب الإسرائيلي الى كيان ناجح يدحض ادعاءات الإسرائيليين الذين يقولون ان الفلسطينيين لا يستحقّون دولة مستقلة.
سترتكب إسرائيل مزيدا من الجرائم. سيتفرّج العالم على ما تقوم به. لا وجود لايّ تعاطف مع “حماس” في حين اكتفت الإدارة الأميركية بارسال مبعوث الى المنطقة من درجة دنيا ليس معروفا هل لديه قناة اتصال مباشرة مع وزير الخارجية انطوني بلينكن.
في ظلّ المزايدات الحمساوية التي لا حدود لها والتي لا يمكن سوى ان تؤدي الى الحاق مزيد من التدمير في غزّة، وفي ظلّ غياب العقل السياسي الإسرائيلي، لا يمكن تجاهل ان الشعب الفلسطيني الذي ثار في القدس على الاحتلال سجّل نقاطا تصلح للمستقبل. اثبت قبل كلّ شيء ان قضيّته حيّة وانّه موجود على الخريطة السياسيّة للمنطقة وانّ لا مفر من ترجمة ذات طابع جغرافي لهذا الوجود. عاجلا ام آجلا سيتغيّر الوضع في غزّة. لا يمكن للقطاع الذي مساحته 360 كيلومترا مربّعا ان يبقى سجنا كبيرا في الهواء الطلق لمليوني مواطن فلسطيني. ما لن يتغيّر في المقابل هو صمود الشعب الفلسطيني الذي لم يعترض، انطلاقا من القدس، على “حماس” والسلطة الوطنيّة المترهّلة فحسب، بل حرّك كلّ فلسطيني في فلسطين، بما في ذلك أولئك الذين بقوا في حيفا ويافا واللد وغيرها بعد العام 1948 رافضين الخروج من ارضهم.
اثبت الفلسطينيون مرّة أخرى انّ قضيتهم غير قابلة للالغاء، مثلما ان حقوقهم كشعب موجود في المنطقة ومنشر في العالم غير قابلة للتصرّف. يدركون انّهم يواجهون حلفا يضمّ متطرفين من كلّ حدب وصوب وان ليس امامهم من خيار سوى الصمود. ما لا يمكن تجاهله في نهاية المطاف انّ معطيات جديدة مختلفة ستولد من الحرب الدائرة حاليا.
لا شكّ انّ “حماس” استطاعت إيجاد تحدّ في غاية الاهمّية في وجه إسرائيل، خصوصا بعدما بلغت صواريخ الحركة تلّ ابيب. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه ماذا بعد ذلك؟ وما الفائدة من الصواريخ اذا كانت ستستخدم في التغطية على ثورة اهل القدس بدل توفير الدعم لها؟
عندما يتعلّق الامر بالمواجهة السلميّة، يخرج الفلسطينيون منتصرين وعندما تكون المواجهة مسلّحة يفقدون كلّ ما حققوه في السياسة. خيمن هذا المنطلق، هناك خوف على ثورة القدس بعدما سعت “حماس” الى خطفها واخذها الى غزّة… وكانت النتيجة إعادة تعويم لـ”بيبي” واليمين الاسرائيلي اللذين كانت دائما على تناغم معهما من حيث تدري او لا تدري!