في 12 كانون الثاني/يناير، وبينما كان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري يستعد للقاء الرئيس الأمريكي أوباما في البيت الأبيض، سحبت المعارضة اللبنانية التي يتزعمها «حزب الله» دعمها من حكومة بيروت مما أدى بها إلى الانهيار. ومن المقرر أن تعقد «المحكمة الخاصة بلبنان» في الساعة الثامنة بتوقيت شرق الولايات المتحدة من صباح يوم الجمعة الرابع عشر من كانون الثاني/يناير مؤتمراً صحفياً في لاهاي بشأن تحقيقها في الاغتيال الذي وقع في شباط/فبراير 2005 لوالد سعد الحريري رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. ومن المتوقع على نطاق واسع أن تعلن «المحكمة الخاصة بلبنان» عن إدانتين إلى ست إدانات لشيعة لبنانيين منتسبين إلى «حزب الله». وكان فرض الأزمة السياسية بالقوة آخر بطاقة للمليشيا الشيعية في حملتها للحد من دعم الحكومة اللبنانية للتحقيق والملاحقة القضائية اللذين يجري اتخاذهما بتفويض من الأمم المتحدة. وسوف يكون للطريقة التي تنتهي بها هذه المسرحية السياسية تداعيات خطيرة على مكانة واشنطن في الشرق الأوسط، فضلاً عن حلفاء «حزب الله»، سوريا وإيران.
تاريخ غير مستقر في مجلس الوزراء
في أعقاب الاغتيال الذي وقع عام 2005، تم انتخاب «تحالف 14 آذار» الموالي للغرب لتولي السلطة في لبنان متغلباً بذلك على «قوى 8 آذار» بزعامة «حزب الله». وفي وقت مبكر، أصبح تأسيس محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري النقطة المحورية في الخلاف. فبينما عارضت «قوى 8 آذار» هذا التحرك، كان تأسيس المحكمة أولوية عليا لسعد الحريري وائتلاف «تحالف 14 آذار» الذي يترأسه.
وهناك نقطة أخرى ذات صلة كانت محل خلاف وهي عدد المقاعد في مجلس الوزراء التي ستوزع على المعارضة. فقد طالب «حزب الله» بثلث المقاعد على الأقل بالإضافة إلى أحد المقاعد الإجمالية. ومن شأن هذا “الثلث المُعطل” أن يمنح المعارضة سلطة نقض المبادرات الحكومية المستقبلية — بما في ذلك الأمور ذات الصلة بالمحكمة — ومن ناحية أهم، يتيح للميليشيا الشيعية إسقاط الحكومة وفقاً لرغبتها.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2006، عندما رفضت الحكومة التي كان يترأسها في ذلك الحين فؤاد السنيورة تلبية الطلب، انسحب — بصفة مؤقتة — ستة وزراء من المعارضة من مجلس الوزراء، مما أصاب الحكومة بالشلل. وقد واصل «حزب الله» الضغط للحصول على الثلث المُعطل لكنه لم يحصل عليه حتى أيار/مايو 2008، بعد أن قامت الميليشيا الشيعية بغزو بيروت لإسقاط مرسومين حكوميين غير مواتيين. وتحت تهديد السلاح، رضخ «تحالف 14 آذار» لمطالب «حزب الله» أثناء المفاوضات التي جرت في قطر في أعقاب الهجوم، مما منح المعارضة أحد عشر مقعداً من مقاعد مجلس الوزراء الثلاثين. وقد استمرت هذه الصيغة لـ “المشاركة في السلطة” حتى بعد عودة «تحالف 14 آذار» إلى الحكم في أعقاب انتخابات عام 2009.
هلع «حزب الله»
على الرغم من الموقف داخل مجلس الوزراء — وتنفيذ نحو إثنا عشر عملية اغتيال لسياسيين ولشخصيات متحيزين مع «تحالف 14 آذار» — استمر دعم الحكومة للمحكمة الدولية. وقد حاول «حزب الله» مؤخراً — مدعوماً بالثلث المُعطل الذي حصل عليه — أن يقلص من دعم الحكومة المالي لـ «المحكمة الخاصة بلبنان» في خريف عام 2010، من خلال معركة مطولة على الميزانية الوطنية لعام 2011، لكن دون جدوى.
ولا يصعب على المرء أن يقف على سبب هذه المعارضة الصاخبة من جانب الميليشيا لـ «المحكمة الخاصة بلبنان». فلو حاكت الإدانات — حتى عن بُعد — ما ورد في مجلة “دير شبيجل” الألمانية في إحدى نشراتها في أيار/مايو 2009، فسيكون الشيعة هم المشتبه فيهم الرئيسيون وراء اغتيال زعيم الطائفة السنية المسلمة في لبنان. ولن يُضر هذا بسمعة «حزب الله» داخلياً وخارجياً فحسب، بل قد يترتب عليه قيام أعمال انتقامية داخلية أيضاً.
وفي أعقاب تقرير في صحيفة “لوموند” الباريسية من شباط/فبراير 2010، الذي أكد على زاوية «حزب الله» والطلبات اللاحقة من قبل محققي المحكمة الدولية لاستجواب عدد من أعضاء المنظمة، ظهر زعيم الحركة حسن نصر الله من على موجات الأثير في محاولة للسيطرة على الضرر الناجم عن ذلك التقرير. ففي 28 تشرين الثاني/نوفمبر، وعبر دائرة تلفزيونية مغلقة مطولة تم بثها في جميع أنحاء المنطقة، حاول توريط إسرائيل في عملية الاغتيال. كما أدان المحكمة كأداة سياسية أمريكية حيث افترض أن جواسيس إسرائيليين قاموا بتلفيق أدلة الاتصالات المقنعة التي تدعم القضية.
الوساطة السعودية – السورية
بالإضافة إلى تقويض شرعية المحكمة، يقوم «حزب الله» وحلفاؤه بممارسة الضغط على سعد الحريري لإضعاف الثقة في «المحكمة الخاصة بلبنان». وقد تم القيام بهذه الخطوة وراء أبواب مغلقة عن طريق جهود وساطة قامت بها السعودية وسوريا.
إن عملية اغتيال رفيق الحريري، المواطن الذي يحمل الجنسيتين اللبنانية والسعودية، عام 2005 — والذي يسود اعتقاد واسع النطاق بأنها قد أًرتكبت بالتواطؤ مع دمشق — أدى إلى حدوث صدع في العلاقات السعودية – السورية. ومع ذلك، بدأت الرياض عام 2009 باستطلاع سبل للتقارب مع دمشق، بهدف حشد الدعم لحكومة سعد الحريري الجديدة في بيروت، بما يعزز سيادة لبنان ويضمن استقراره الداخلي. وقد قام عاهل السعودية الملك عبد الله بزيارة إلى دمشق في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام في محاولة للوصول إلى تفاهم بشأن لبنان، وذكرت التقارير أنه حمل معه حزمة مساعدات ضخمة.
وبعد شهرين — فيما بدا أنه إشارة حسن نية أخرى من جانب السعودية تجاه سوريا — ضغطت الرياض على رئيس الوزراء الحريري للقاء الرئيس السوري بشار الأسد، وهو رجل يسود اعتقاد واسع النطاق بأنه لعب دوراً في عملية الاغتيال. وفي أيلول/سبتمبر 2010، واصل الحريري نهجه التصالحي بإعفائه الظاهري لسوريا من مسؤولية اغتيال والده، واصفاً اتهاماته السابقة ضد دمشق بأنها كانت “مُسيّسة”.
لكن تملّق الحريري وجهود الرياض لم تفعل كثيراً للحد من التوترات الطائفية المتنامية على أرض الواقع. ومع اقتراب توجيه لوائح الاتهام، أصبحت المناقشات السعودية السورية خبراً يومياً ثابتاً في الصحافة العربية. ورغم أنه لم تظهر سوى القليل من التفاصيل الموثوقة بشأن موضوع الوساطة، ركزت معظم التقارير على محاولات الرياض ودمشق صياغة “اتفاق” بشأن «المحكمة الخاصة بلبنان» من أجل التخفيف من حدة التعرض لـ «حزب الله» والحيلولة دون انزلاق لبنان في حرب أهلية في أعقاب تقديم لوائح الاتهام.
وفي وقت مُبكر من الأسبوع الثاني من كانون الثاني/يناير الحالي، وبعد الإعلان عن فشل الوساطة السعودية – السورية، ألقى «حزب الله» وحلفاؤه اللوم على الحريري حول هذا المأزق. بيد، لم يكن أمام جهود الوساطة سوى فرصة نجاح ضئيلة جداً منذ البداية. فلقد كان أمام الحريري (والسعودية) تنازلات قليلة متبقية [يستطيعون] تقديمها بعد إصلاح العلاقات مع دمشق و– إذا كان لنا أن نصدق نصر الله — قيامهم بتقديم العرض غير المتبادل للتشهير بالأعضاء المتهمين من «حزب الله» وتسميتهم أفراد خارجين عن النظام أو عناصر “مارقة” لا تمثل المنظمة ككل. وعلى أية حال، فإن إضعاف الثقة في «المحكمة الخاصة بلبنان» وإعفاء الميليشيا الشيعية كلية من المسؤولية سوف يشكل انتحاراً سياسياً للحريري. وفي غضون ذلك، من المرجح ألا تتمكن دمشق، حتى إن كانت تميل إلى ذلك إلى حد كبير، من إقناع نصر الله — الذي رفض بالفعل التسوية الداعية للإعلان عن “العناصر المارقة” — بقبول سيناريو آخر لا ينأي الحريري فيه بنفسه كلية عن المحكمة.
التداعيات
هناك توقعات على نطاق واسع بأن يعلن المدعون العامون [الدوليون] في «المحكمة الخاصة بلبنان» أثناء المؤتمر الصحفي الذي سيُعقد في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير عن تقديمهم لائحة اتهام إلى قاضي ما قبل المحاكمة [قاضي الإجراءات التمهيدية]. وسوف تؤدي لائحة الاتهام — التي ربما تبقى طي الكتمان — إلى عملية يقوم فيها قاضي ما قبل المحاكمة، بمراجعة المسودة وإقرار ما إذا كان سيؤكد لوائح الاتهام ويصدر مذكرات توقيف أم لا. وفي حالة إصدار مذكرات توقيف، سوف تبدأ فترة الإعداد للمحاكمة تستغرق بين أربعة إلى ستة أشهر. ومن المرجح أن يُحاكم المشتبه بهم — سواء كانوا حاضرين في المحكمة أم غيابياً — في لاهاي في موعد لا يتجاوز أيلول/سبتمبر أو تشرين الأول/أكتوبر 2011.
لقد كان «حزب الله» وسوريا يشيرون على مدى شهور، في محاولة لتقديم خيار بين “العدالة والاستقرار”، بأنه ستنشب أعمال عنف إذا استهدفت لوائح الاتهام الميليشيا الشيعية. وفي أيار/مايو 2008، أصبح واضحاً أن «حزب الله» لا يشعر بأي تأنيب للضمير بشأن تحويل “أسلحة المقاومة” ضد شعب لبنان. ويبدو أيضاً أن الحركة قد قامت ببعض التخطيط العملياتي — إذ أجرت عمليات مراقبة لمقار المحكمة في لاهاي ومحققيها على الأرض في لبنان — فيما إذا قررت استهداف متهمِيها.
وعلى المدى القريب، بينما قد يحاول «حزب الله» شن هجمات وغلق طرق وإغلاق وسط بيروت وتطويق مباني الحكومة في “السراي الكبير”، إلا أنه من غير المرجح أن تلجأ المليشيا هذه المرة إلى العنف الشامل ضد «تحالف 14 آذار» والدولة، الخاضعة لحكومة انتقالية حالياً. ونظراً للبيئة السياسية، لن تكون أي قوة لبنانية مستعدة للقيام بعمليات اعتقال وتسليم المجرمين، حتى إذا أُدين أعضاء «حزب الله» في النهاية. كما أن إعادة غزو بيروت لن يلحق سوى المزيد من الدمار بصورة «حزب الله» في العالم الإسلامي السني. ومع ذلك، فقد تتغير حسابات الميليشيا الشيعية بمرور الوقت.
خيارات للسياسة الأمريكية
بينما تنكشف الإدانات خلال الأشهر القادمة، سيكون العامل الرئيسي بالنسبة لواشنطن هو الإبقاء على الدعم الدولي للمحكمة إزاء الضغوط المتزايدة وربما العنف المتقطع. وأثناء لقائهما الموجز في 12 كانون الثاني/يناير، ذكرت التقارير أن الرئيس أوباما أكد لرئيس الوزراء الحريري “أهمية عمل «المحكمة الخاصة بلبنان» كوسيلة للمساعدة في إنهاء عهد الاغتيالات السياسية بدون عقاب في لبنان”. كما أشارت الإدارة الأمريكية بأنها تأمل في توسيع دائرة الجهات الفاعلة الإقليمية الضالعة [في حل المشكلة]. إن المخاطر المنطوية على ذلك هي أنه من خلال تضمين الشركاء الخطأ — على سبيل المثال دول كقطر، التي تتفق مع وجهات نظر «حزب الله» أكثر من توافقها مع «تحالف 14 آذار» — فإن واشنطن قد تحدث ضرراً أكبر مما تحدثه من نفع. وبدلاً من انتزاع تنازلات إضافية من حلفاء الولايات المتحدة، يجب على الإدارة الأمريكية أن تواصل التأكيد على أهمية قيام «المحكمة الخاصة بلبنان» بإنهاء عملها.
ديفيد شينكر هو زميل أوفزين ومدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن. ماثيو ليفيت هو مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات.