الكل يخسر بشكل أو بآخر في معركة أسعار النفط التي تهز الاقتصاد العالمي، لكن بالنسبة للرياض هي معركة دفاعية لتحصين المملكة في المواجهة المصيرية الراهنة.
من يراقب التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط والخليج يتضح له وجود صلة بين تقلبات أسعار النفط واندلاع الحروب أو تفاقم النزاعات. ومن يتابع تطور سوق الطاقة منذ 2010 إلى اليوم يستنتج الخلفية الجيوسياسية للصراعات حول الطاقة وأسعارها، ومن البديهي أن الخط الانحداري لسعر الخام ستكون له تداعياته الاقتصادية والسياسية، وربما العسكرية لارتباطه ببلورة المشهد الإستراتيجي في الشرق الأوسط وانعكاسات ذلك على موازين القوى الدولية.
من يكسب ومن يخسر في هذا التجاذب المندرج في سياق اللعبة الكبرى الجديدة للقرن الحالي والممتدة من شرق المتوسط والخليج إلى البحر الأسود؟ كيف تدير المملكة العربية السعودية هذا الصراع للحفاظ على مصالحها وحلفائها؟
منذ بداية هذا العام خسرت الأسواق العالمية ما يقارب 10 بالمئة من قيمتها بسبب تضافر عوامل تباطؤ النمو، وانهيار أسعار البترول الخام بالإضافة إلى النقص الحاد في السيولة. ولا يستبعد أكثر من مراقب احتمال حدوث أزمة نقدية ومالية شبيهة بأزمة العام 2008 التي لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم. وفي هذا الإطار وصل سعر برميل الخام إلى حوالي 27 دولارا يوم الأربعاء 20 يناير الحالي أي بتراجع مقداره 75 بالمئة بالقياس لأسعار العام 2014. ومما لا شك فيه أن هذا الانهيار في الأسعار يتصل بالوضع الاقتصادي المتدهور بشكل عام، وكذلك بوجود وفرة في العرض تتجاوز ثلاثة ملايين برميل، وهي معرضة للتزايد بعد رفع العقوبات عن إيران واستمرار ضخ النفط الصخري. وما يدفع الأمور نحو التفاقم عدم وجود تفاهمات بين المنتجين من داخل أوبك وخارجها، مما يترك مسار السوق سيد اللعبة بغياب آليات ضبط وتوجيه. ويتبارى أكثر من طرف ومن دولة في تحميل المملكة العربية السعودية المسؤولية مع الافتراض أن أصحاب القرار في الرياض يتمسكون بعدم تخفيض حصتهم في السوق مما يؤدي إلى استمرار انخفاض الأسعار، وذلك ليس فقط لأسباب تتعلق بالتنافسية والحفاظ على الموقع الريادي في سوق الطاقة، بل كذلك لدواع جيوإستراتيجية في مواجهة إيران وروسيا بشكل مباشر، والولايات المتحدة الأميركية بشكل عابر.
لهذه المقاربة مبرراتها ومسوّغاتها ولقواعد السوق أحكامها ومنطقها، لكن تاريخ المملكة العربية السعودية في تأمين استقرار سوق الطاقة وتدفق النفط نحو الأسواق وميزات نفطها وقلة كلفة استخراجه تدفعنا للتأكيد بأن الرياض تدافع عن مصالحها بكفاءة، وإذا كان ذلك يحرج أو يزعج خصومها أو منافسيها فهو لا يصنف بمثابة استهداف مقصود بل اختبار قوة للحفاظ على المصالح في نطاق لعبة تنافسية لا ترحم. وإذا أسهم التجاذب في تحسين الوضع الإستراتيجي للمملكة ولمن يقفون في نفس صفها من سوريا إلى اليمن، لا يعتبر ذلك خروجا عن المألوف في منطق الصراعات.
للتذكير تقلبت أسعار النفط وفق التطورات الجيوسياسية، وحصلت الصدمة الأولى البترولية إثر الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1973 وحينها ارتفع سعر النفط أربع مرات ليصل إلى 16 دولارا للبرميل، ثم حلت الصدمة الثانية مع الثورة الإيرانية سنة 1979 ووصل السعر إلى حوالي 40 دولارا. بعدها قامت الحرب العراقية الإيرانية وهبط السعر إلى سبعة دولارات في 1986. وأعطى البعض تفسيرا لذلك إذ كان وراء الانخفاض اتفاق أميركي – سعودي لإنهاك الاتحاد السوفييتي السابق اقتصاديا ضمن آخر جولات الحرب الباردة. بيد أن توافق واشنطن والرياض لم يكن على طول الخط بالرغم من ديمومة اتفاق كوينسي، وكانت الولايات المتحدة مستفيدة دائما من تدوير فائض عائدات النفط في تمويل صفقات ضخمة لصادراتها التجارية والعسكرية نحو الدول العربية في الخليج (بعد حرب الخليج الثانية في 1991 بلغ مجمل استفادة واشنطن من رساميل الخليج 55 مليار دولار).
ما بين نزع التغطية الذهبية عن الدولار في 1971 وارتفاع سعر النفط حتى 2009 بقيت العلاقة متينة بين واشنطن والرياض في سوق الطاقة مع احترام اتفاق كوينسي المرتكز على التبادل بين الأمن والنفط. لكن منذ إنتاج النفط الصخري حيث كانت واشنطن في 2010 بصدد انتزاع الموقع الأول في إنتاج البترول من المملكة العربية السعودية، بدأ الحذر بين الجانبين، وفي الأسابيع المقبلة ستبدأ واشنطن بتصدير النفط إلى الخارج مما يعني استغناءها الكامل عن الطاقة الآتية من الخليج ويرتبط الأمر بإستراتيجية انكفائها عن الشرق الأوسط وإعطاء الأولوية لآسيا والمحيط الهادئ، وكل ما سبق يبرر السياسة المستقلة والجريئة التي تتبعها الرياض استباقا ومواكبة لهذا التحول.
لكن ليس من المنطقي تحميل الرياض لوحدها مسؤولية انهيار الأسعار، إذ لو افترضنا حصول اتفاق ضمن منظمة أوبك فهذا لا يفي بغرض رفع الأسعار حيث لا تنتج أوبك أكثر من 40 بالمئة من الإنتاج العالمي، وتعتبر روسيا والولايات المتحدة من كبار المنتجين من خارج المنظمة. من هنا كان يشك البعض في خريف 2014 أن سياسة الرياض منسقة مع واشنطن بهدف تحجيم طموحات فلاديمير بوتين واستهداف الاقتصاد الروسي، لكن ليس من إثبات على هذا الأمر ويصر أصحاب نظرية المؤامرة على تصريحات قديمة جدا لوزير النفط السعودي الأسبق، أحمد زكي يماني، عن دور واشنطن المحوري في تحديد الأسعار في فترة سابقة.
هذه المرة الإدارة السعودية لحرب الأسعار تبدو مستقلة ولخدمة المصالح السعودية في المقام الأول. وبعض من ينزعج من المنحى الحالي للسياسة الهجومية السعودية (من اليمن إلى قطع العلاقات مع طهران) يهلل لمتاعب المملكة وخطواتها التقشفية ويعتبر أنها خسرت حرب الأسعار لأن اقتصادها، الذي يعتمد على النفط بنسبة كبيرة، أخذ يتضرر. لكن خبراء عالميين موثوقين ومنهم الفرنسي باتريك أرتيس (مدير أبحاث ودراسات ناتيكسيز) يؤكدون أنه باستثناء السعودية القادرة على تحمل الصدمة (بسبب حجم احتياطها النقدي) فإن باقي الدول المنتجة مثل روسيا والجزائر وإيران والعراق ونيجيريا وفنزويلا تعاني من متاعب نقدية ملموسة، ويمكن أن تتأثر ثلث الشركات المنتجة للنفط الصخري في الولايات المتحدة وتضطر للخروج من الأسواق لعدم القدرة على تحمّل المزيد من الخسائر (مصادر أميركية تقول إنه جرى بدء تجاوز عقبة تخفيض سعر النفط، عبر خفض بواسطة التكنولوجيا لتكلفة استخراج النفط الصخري، ليتناسب مع سعر النفط الحالي ويصبح ذا جدوى).
ويبدو أنّ هذه الحرب مستمرة وقد تقود أسعار النفط إلى ما دون العشرين دولارا للبرميل. عدا الخشية من وضع السوق تبرز الخشية من مفاعيل التوتر بين الرياض وطهران، إذ تمتلك السعودية مع إيران، مخزونات تصل إلى 400 مليار برميل، ومعظم تلك الكميات موجودة في حقول قريبة من مضيق هرمز الذي يمكن لأي مواجهة بينهما أن تؤدي إلى تعطيل الملاحة فيه وقطع إمدادات نفطية تقدر بـ17 مليون برميل يوميا عن الأسواق العالمية، ما يعني أن المواجهة بين البلدين يفترض أن تشعل قلق الأسواق العالمية. ويرى محللون أن هناك أكثر من سبب لثبات الأسعار وعدم تأثرها بما يحصل، لأن المواجهة بين البلدين لن تصل على الأرجح إلى مستوى الصراع العسكري المباشر، وفي مطلق الأحوال هناك بدائل تتمثل في كميات النفط الصخري الهائلة المنتجة بأميركا والغرب، إلى جانب كثرة المعروض من النفط في الأسواق.
مما لا شك فيه أن المملكة العربية السعودية تعاني من تداعيات انهيار سعر النفط الخام، لكن احتياطها النقدي سيمكنها من تجاوز مرحلة الخطر عبر إرشاد الإنفاق وتنويع المداخيل وخصخصة جزئية لبعض الشركات. أما منافسو المملكة وأولهم إيران فإن الطريق سيكون طويلا أمامهم للتوسع وتطوير صناعة النفط والغاز، وربما يأخذ ذلك عشر سنوات. ومن ناحية حسابية بددت خسائر قطاع النفط في العامين الماضيين الآمال التي علقت على الإفراج عن الأصول الإيرانية ورفع العقوبات بشكل عام. وعلى صعيد آخر تبرز الآثار السلبية على الاقتصاد الروسي، لكن عناد موسكو في رفض أي تنسيق مع أوبك لا يسهل رفع الأسعار.
الكل يخسر بشكل أو بآخر في معركة أسعار النفط التي تهز الاقتصاد العالمي، لكن بالنسبة للرياض هي معركة دفاعية بامتياز لتحصين المملكة العربية السعودية في المواجهة المصيرية الراهنة الدائرة في الإقليم ولضمان حصتها المستقبلية في سوق الطاقة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس