“كأن قدر العربي أن ينحر نفسه.
أن يقتل نفسه بنفسه.
أن يوفر على الغريب مشقة اغتياله.
أن يكتب بنفسه استمارة موته ويوقع على عقد دفنه وهو يضحك كالمعتوه.
كأن قدره أن يكون أحمقا”. (صدى الأنين، بيروت دار الساقي، 2005)
…..
عندما يجف مداد قلمك، تدرك أن جللاً طرأ على حياتك.
وأنا الدماء تحيط بي من كل جانب.
فكيف أكتب؟
هل يصبح الدم مدادي؟
كيف نكتب؟
وعمن؟
أسألكم، فردوا علي.
عن العربي الذي تاه في الطريق؟
أراد أن يمشي إلى القدس، فوجد نفسه في كازاخستان!
آه يا حلم الفلسطيني.
أرادها دولة فبعثرها أشلاءاً.
عمن نكتب؟
دلوني على جواب.
فأنا لم أعرف سؤالاً حرق فؤادي مثله.
عن أنفسنا؟
تلك التي وقفت واجمة صامتة، مبهوتة ذاهلة، لا تدري من تعزي.
هل نعزي أنفسنا؟
بل نعزيهم هم الفلسطينيين.
لكننا كنا هم دوماً.
ألم نكن كذلك؟
فلنعزي الجميع إذن.
ونحن واجمون.
ونعزيهم على ماذا؟
على الدم الذي سال لا حرمة له؟
نعزيهم على ماذا؟
على الأخ يقتل أخيه؟
أم على الحلم، ذاك الذي رأيناه يُولد منحوراً، ثم واريناه تحت الثري ونحن خجلون.
ثم نواسيهم بماذا؟
بمستقبل لا مستقبل فيه؟
لا نور فيه، فكيف نحلم بعد ذلك؟
كيف نشتهي الحياة بلا ضياء؟
من قبل قالت واشنطن “غزة أولاً”، وخرجت إسرائيل من غزة دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية ممثلة بفتح حينها، لتترك الساحة خالية.. لولا أن حماس كانت تنتظر.
واليوم يقولون “الضفة الغربية أولاً”، لولا أن الوعود المدهونة بالعسل لن تجدي كثيراً ما دامت حركة فتح ينخرها الفساد.
هل تفهمون لماذا ارتفعت أسهم حركة الإسلام السياسي؟
البديل كان دائماً مترهلاً شرهاً فاسداً متهتكاً.
لا يفكر سوى في بطنه.
كثعبان خالة أبي.
وحماس لن تغيب وراء الشمس.
هي باقية ما بقي الفساد.
ونحن، وذاك الشعب، بينهما بلا بديل.
وواشنطن العزيزة تصف عباس ب”المعتدل”.
كل الأنظمة العربية اليوم باستثناء واحدة أو أثنتين أصبحت “معتدلة”.
حتى السعودية بنظامها الديني القروأوسطي، المنتهك لأبسط قواعد حقوق الإنسان، تظل “معتدلة” بالمعيار الواشنطني.
حلم نشر الديمقراطية في العالم العربي تحول إلى كابوس فيتنامي، وكانت العودة إلى سياسة التحالف مع
“الأصدقاء المعتدلين”، المستبدين حتماً، مجرد تحصيل حاصل.
ريما العزيزة عادت إلى عادتها القديمة.
هل نلومها هي؟ قد حاولت، وأظنها كانت صادقة في البداية، لتكتشف أن الديمقراطية لن تجلب لها سوى وجع الرأس، أم نلوم أنفسنا؟
ذاك سؤال أخر لا محل له من الإعراب في حديثنا اليوم.
لكن ليبيا تحولت هي الأخرى بقدرة قادر إلى “معتدلة”.
لولا أن الأخيرة تحولت إلى “الاعتدال” قبل عودة واشنطن عن سياستها المثالية.
اوه، ما أجمل أن تكون “معتدلاً”، كالطقس، ليس حاراً مثقلاً ولا بارداً قارصاً.
والمعيار في النهاية لا علاقة له بمدى مصداقية قادة هذه البلدان أمام شعوبها.
بل بمدى قربهم من بوصلة إسرائيل.
وفي الواقع لا أعرف كلمة أكثر صفاقة من “معتدلة” هذه. .
مزجة. مرة.
كزيت حوت البحر الذي كانت أمي تجبرني على شربه وأنا طفلة.
سموني “متطرفة” لو سمحتم.
“متطرفة” في علمانيتي.
“متطرفة” في عقلانيتي.
و”متطرفة” في إيماني بالإنسان.
لكن لا تسموني “معتدلة”.
فقد أصبحت اليوم “ماركة”، توزع بحساب من أصحابنا في واشنطن، و يتحول معها كل من يوصف بها إلى “خائن” أو “عميل”.
لكن مهلاً.
مهلاً.
لا تتسرعوا.
محمود عباس ليس بالخائن ولا بالعميل. صفحته بيضاء. نعرفها جيداً. يده ليست ملوثة بالفساد.
بل رجل يحب وطنه وأبناء شعبه.
لو كان غير ذلك، ما وقف متردداً في لحظة كان الكل فيها يدعوه إلى سفك الدم الفلسطيني. وهو يرفض.
كانت أوامره لرجاله في غزه “لا تطلقوا النار إلا دفاعاً عن النفس”. غيرُه ما كان سيتردد.
لكنه تردد. وتردده يحسب له، لا عليه.
بيد أن أوطاننا لا تؤمن بالملائكة يا للحسرة. تريدهم جبابرة يسفكون الدم ثم يشربوه.
ولذا نهمس من وراء ظهره قائلين: “ضعيف هو”. “كان من الممكن تفادي ما حدث، لو أنه تحرك بحسم أكبر”.
ولو كان الضعف هكذا، فما أنبل أن تكون ضعيفاً.
لا.
الأفضل من وجهة نظر هؤلاء أن نصفي خصومنا في وضح النهار.
أن نعدمهم رمياً بالرصاص.
أو أن نقذف بهم من فوق أسطح البيوت.
وقناة الجزيرة تهلل، فرحة بنصر أخوانها المسلمين، وملعون أبو الدم الفلسطيني، والقرضاوي يهنأ الأخوة غير عابيء، وملعون أبو الدم الفلسطيني.
طريق المستقبل يفرشونه بالدماء وهم يهللون.
ونحن؟
نقف واجمين مبهوتين صامتين.
نرقب بصمت ونأكل شفاهنا ونحن نرقب.
ثم نبتلع ألسنتا ونحن نمضغها كي لا تنطق.
كيف نكتب؟
بالله عليكم أجيبوني.
ثم عمن نكتب؟
دلوني.
ولو كتبنا، مَن نعزي؟
لاتشهقوا بالدموع، وأفيدوني.
فحبر قلمي جف.
ومداده كان الدم.
ودمي رخيص،
كدم الإنسان في وطني.
elham.thomas@hispeed.ch