ليس كل يوم تقول “الأخبار” كلاماً يشبه المديح عن الخصم القواتي، ولهذا يلفت مقال “نادر فوز” (الذي لم يُعرَف بـ”طراوته” تجاه الخصوم!) الإنتباه.
والتحليل بمجمله منطقي ولو أنه أغفل مثلاً مسألة “النقد الذاتي” الذي مارسه جعجع علناً، وحده من بين أمراء الحروب الأهلية اللبنانية، عن ممارسات “القوات” أثناء الحروب الأهلية! وهذه نقطة مهمة جداً، ليس فقط لأنها تتضمّن “إعتذاراً” من “المسلمين”، بل ومن “مسيحيين” كثيرين أدانوا ممارسات “القوات” الماضية (بغض النظر عن موقفها السياسي)! وهنا لا مفرّ من المقارنة بين النقد الذاتي لجعجع و”القوات”، وكلام نصرالله عن “اليوم المجيد” لـ”غزوة بيروت” الذي أضاف الإستفزاز والإهانة إلى جرح اللبنانيين الذين أذهلهم منظر استباحة عاصمة بلادهم.. والجيش يتفرج!
لكن، وأبعد من طموحات جعجع للرئاسة أو لتزعّم المسيحيين (والمسلمين)، فالتطوّر “الناصري” لسمير جعجع لا يلقى رفضاً من جمهوره الذي يُفتَرَض أنه “إنعزالي”، حسب تعابيرٍ كنا (نحن أيضاً) نستخدمها بسهولة في ماضٍ سحيق!
لماذا؟
نقترح ثلاثة أسباب: “يوم 14 آذار”، الذي يعادل “عامية أنطلياس” حديثة تآ’خت فيه كل الطوائف وانتهى بدحر جيش الإحتلال وإخراجه من البلاد. و”الربيع العربي” الذي رفع شعارات “سلمية” (وهذا شعار “مسيحي” بامتياز..)، و”حرية” و”كرامة” و”حكم القانون”، و”الديمقراطية”..، وهي شعارات يرتاح لها جمهور مسيحي منفتح ثقافياً على الغرب وتراته الديمقراطي. ثم التغيير الحاصل في المنطقة العربية نفسها في النظرة إلى “العروبة” وإلى الصراع العربي-الإسرائيلي. فلم يخطئ السيد كمال شاتيلا حينما خاطب “الإخوان المسلمين السوريين” بعد إصدار وثيقتهم الجديدة مستهجناً: “أين عروبة سوريا”؟… “العروبة” القومجية المرادفة للإستبداد وحكم العسكر لم تعد رائجة، لا في سوريا ولا في “البسطة” أو “صيدا” أو “طرابلس” (“سنّة” لبنان حققوا نقلة تاريخية جعلت “كيان” لبنان ممكناً لأول مرة. الجمهور “الشيعي” لا يختلف كثيراً، ولكنه مصاب بـ”إنفصام شخصية” بين المذهب والإنتماء الوطني.. وهذا موضوع آخر لمرة أخرى..). هنالك قدر من “الإنعزالية” في “الإنتفاضات” العربية لا تخطئه العين. “إنعزالية” ترغب في إعادة بلدها (وخصوصاً “سوريا”) إلى “بلد” و”دولة” بعد أن ظل “”قطراً” بعثياً منذ الستينات. “عروبة” القوات وجمهورها تلتقي إذاً، مع وطنية سورية تبتعد كثيراً عن كذبة “قلب العروبة النابض”! و”انعزالية” عن الصراع العبثي مع إسرائيل الذي تخلّى عنه الشعب الفلسطيني نفسه.
الأغرب من تحوّل جعجع إلى زعيم “ناصري” هو التطوّر “الأقلّوي”، والمعادي صراحةً لـ”الربيع العربي”، للتيار المسيحي المتحالف مع حزب الله! من ميشال عون، إلى البطريرك الراعي.. فكرة “تحالف الأقليات”، التي تبنّتها “القوات” في بعض مراحل السبعينات والثمانينات، باتت الآن النظرية المعتمدة للقيادة العونية وجمهورها! و”الإشكال” هنا هو هذه العلاقة المريبة بين “المقاومة” و”الإنعزالية الأقلوية الجديدة”!
بل وأبعد، فهنالك “إشكال” آخر: لماذا يحمل “الجنرال” و”المقاومة” عداءً مستحكماً لمبدأ تحرّر الشعوب العربية، أي لـ”أهلية” العرب للديمقراطية والحرية؟ وإلا، فكيف يبدو الربيع العربي “خطراً أصولياً داهماً على المسيحيين” في نظر عون والراعي، ومؤامرة أميركية في نظر “المقاومة”؟
والقصد، هنا، فتح باب نقاش وليس المماحكة..
بيار عقل
*
خرج رئيس القوات اللبنانية من «قمقم الغبن المسيحي» وبدأ يوسّع مساحته خارج الحدود. تلبس دور الناطق باسم الثورات العربية. خاطب المسيحيين في سوريا وتناول أحداثها بدون انفعال. مقترحا «الاستفتاء الجدي» لتحديد الأغلبية والأكثرية هناك. تصرف جعجع وكأنه في الطريق نحو قصر بعبدا
نادر فوز
في الذكرى الثامنة عشرة لحل الحزب، باتت القوات اللبنانية في مكان آخر. العداء للمسلمين والعرب لم يعد موجوداً، وتعميم هذه النظرة انتفى. بات القواتيون يستمعون بهدوء إلى امرأة ليبية محجبة تحدثهم عن مآسي العزيزية وطرابلس الغرب والغابة القاحلة في زمن الكتاب الأخضر. لم تعد «بسملة» شاب مصري تستفزّهم وهو يتحدث عن الثورة في بلاد جمال عبد الناصر. كان ينقص القواتيين أن يُنشدوا «الله وأكبر فوق كيد المعتدي». باختصار، «بعبع» الأمس زال.
قائد القوات اللبنانية بات هو أيضاً في مكان آخر. تغيّر طموحه من جمهورية «كفرشيما – المدفون» إلى الجمهورية اللبنانية بكاملها. لا بل أوسع من ذلك، فبدأ يتوجّه إلى المسيحيين في كل الشرق، في سوريا والعراق ومصر. وعبارات مثل «العرب» و«العربية» لم تعد تفارق خطابه، وكأنه أصبح مقتنعاً بأنه ليس بالإمكان فصل لبنان عن محيطه، وبأنّ الحال هي نفسها «في بيروت وتونس والقاهرة وبنغازي وصنعاء» والآن «تهيأ دمشق، فللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق». تبدلات خطاب سمير جعجع في الأشهر الأخيرة تؤكد نيته وطموحه الوصول إلى رئاسة الجمهورية: يتحدث عن المسيحيين وموقعهم في لبنان والمحيط وينفتح على الدول العربية. غادر للتو قمقم «الغبن المسيحي».
ترك جعجع هذا الانطباع لدى كثيرين ممن حضروا إلى “البيال” أو تابعوا كلمته عبر وسائل الإعلام. لكن في مسيرة جعجع العربية بعضاً من الشوائب، منها ما هو حالي وأساسي ومنها ما يعود إلى زمن ما قبل الربيع. مثلاً، من لا يذكر العلاقة الممتازة التي كانت تجمعه بمسؤولي نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك؟ والأكيد أنّ جعجع حافظ على هذه العلاقة لحين سقوط نظام الحزب الوطني في مصر، فزار «الحكيم» القاهرة خلال الثورة وتابع تواصله مع وزير الخارجية حينها احمد أبو الغيط. وبالتالي، ثمة علامات استفهام على تبدّل موقف جعجع من السلطة في مصر وتأكيده اليوم الوقوف إلى جانب الربيع العربي.. عدا أنه لا يزال يغفل حتى اليوم ما حصل ويحصل في البحرين؟
جعجع كغيره من أقطاب ومسؤولي قوى 14 آذار، يجيب عن هذا التساؤل في مجالسه مشيراً إلى أنّ حراك المنامة دوافعه الأساسية مذهبية قبل أي شيء آخر. لو أضاف جعجع البحرين إلى خطابه في البيال لكان احتفظ بالعصفور الذي يمكسه بيده ولكان أسقط أيضاً بعضاً من العصافير العشرة الموجودة على الشجرة. كان بإمكانه ذكر البحرين مقترحاً إيجاد المبادرة السياسية اللازمة لحل الأزمة، تحت عنوان حماية الشعب المنتفض ومنحه حقوقه وفي الوقت نفسه حماية الخليج العربي من النفوذ الإيراني. هذا الأمر يحفظ له ماء الوجه لدى الجانبين، الأنظمة العربية الحليفة له والشعوب العربية المطالبة بالتغيير. كما كان ذلك ليشكل مناسبة تمهّد له الطريق للحوار مع جزء من «الطرف المذهبي» الذي يعتبره مسؤولاً عن الحراك البحريني.
غير ذلك، بدا جعجع قوياً في البيال. رسائله وصلت إلى حلفائه وخصومه على حد سواء. وصوله إلى القاعة دلّ على ذلك، فهو لم يسبق له أن دخل مهرجان كما فعل يوم السبت. ترك وراءه النائب ستريدا جعجع التي تأخرّت عنه بخطوات وسارعت إلى اللحاق به. مرّ على الجالسين في الصف الأول وحيّاهم. عانق الرئيس أمين الجميّل وربّت على كتف نجله سامي وشدّ على ذراع ابن أخيه نديم. كان لافتاً غياب رئيس كتلة المستقبل، النائب فؤاد السنيورة، إلا أنّ الكتلة تمثّلت بـ12 نائباً. قوى 14 آذار كانت كلها حاضرة، بكتلها ووزرائها السابقين ومسؤوليها وناشطيها.
بدا الأمر وكأنّ القوات اللبنانية تعطي حلفاءها درساً في تنظيم الاحتفالات. قاعة مليئة لا بل تفيض بالحاضرين. كلهم من أصحاب ربطات العنق، الذين لم تجمع منهم قوى 14 آذار إلا عدداً قليلاً في ذكراها السابعة. تنظيم متقن في ترقيم الكراسي ومساعدة الضيوف على إيجاد أماكنهم، عكس فوضى 14 شباط وآذار. هنا ثمة حزب منظم يدير الأمور، هناك ثمة «خبصة» تيارات ومستقلين يعمل كل منهم ما في رأسه. في الشكل لا مجال للمقارنة بين 14 آذار 2012 و31 آذار 2012.
المضمون لم يختلف كثيراً من حيث دعم الثورات العربية. لكن القوات أثبتت مرة جديدة تفوّقها على حلفائها. جعجع تجرأ على دعوة ممثلين عن الثورات العربية، الحلفاء لم يفعلوا. الأهم في هذا الموضوع، جرأة القواتيين على فتح الخطابات أمام المعارضين السوريين، الأمر الذي هربت منه قوى 14 آذار بشتى الوسائل لدى تحضيرها لمهرجان 14 شباط الأخير. رفضت هذه القوى دعوة ممثل عن المجلس الوطني السوري بادعاء حجة المحافظة على أمنه. امتنعوا عن تسجيل كلمة للمجلس لكي تبقى المخاطبة عبر شاشة حكراً على الرئيس سعد الحريري وحتى لا يقارن به أحد. أما القواتيون فسجّلوا رسالة لناشطة في المعارضة. اختاروها من الطائفة المسيحية علّها تعبّر عن رأي شارعها في سوريا. عبّر جعجع عن موقفه المعروف من السلطة السورية، فانتقدها وحمّلها مسؤولية هدر الدماء ودفع السوريين إلى التطرّف: «كل ما يجري لن يفيد النظام، ولا من يقف وراءه أو أمامه بشيء، سوى زيادة التطرف». دعا «الى استفتاء شعبي حقيقي، برعاية جامعة الدول العربية ومجلس الأمن حول بقاء النظام أو عدمه». وخارج هذا السبيل الديموقراطي «مزيد من الدماء والدمار والموت». توجه إلى المسيحيين السوريين وطلب منهم البقاء في أرضهم والمشاركة في الحياة السياسية عبر انفتاحهم وتوسيع تحالفاتهم.
وفي انتقاد الحكومة اللبنانية، بدا جعجع أكثر تماسكاً من حلفائه. عدّد أخطاء الحكومة في كل المجالات وانتقد إصلاحاتها مشيراً إلى أنّ «التغيير الوحيد الذي اقدموا عليه كان تغيير شربل نحاس، الوزير الوحيد من بينهم الذي كان يحمل أفكاراً إصلاحية وتغييرية، ولو كنا لا نوافق على معظمها».
إطلالة جعجع كان عنوانها «لا يصح إلا الصحيح». قال للجيمع ما معناه: كنت مقيّداً ومنبوذاً وها أنا اليوم حر طليق أخوض المعارك السياسية. اختصر ذلك بالقول: «في العام 1994 حلوا حزب القوات وفي العام 2005 حلوا عن أرضنا وعن سمانا»، وعبّر عما ينتظره: «وكلي أمل أنه في وقت قريب رح يحلوا عن ضهر الشعب السوري إذا ألله راد».
جعجع بنظر “الأخبار”: “قوات لبنانية بخطاب عبد الناصر”!
أهو جعجع يا ترى وجعجع فقط، من تغيّر، و”تعرّب”؟ أم أن الدفق المجتمعي العربي الشامل المستمر هو أيضاً “قد تَجَعجَعَ”؟ حاملاً جملة مستجدات، منها الكثير المقترب جداً مما يمثله جعجع من “تغرّب” مزمن (دولة استقلال، سيادة القانون، قيم الحريات العامة والديموقراطية والتعددية). أما الأستاذ نادر فواز، “الصحافي” (!!) في “جريدة” (!!!) الأخبار، فلشبه “تَجَعجِعِه” البادي هنا نكهة بالفعل exotique، من جنس نكهة “جريدته”. وبعد أفَلَيس لبنان (خاصة هذا “لبنان” السُليقاتي الحالي) علبة الأعجوبات والأعاجيب والتمعجبات والتعجّبات والاستعجابات؟