ارتكب رفيق الحريري جريمة لا تغتفر. حوّل الحلم اللبناني الى حقيقة. أعاد لبنان الى خريطة المنطقة. بالغ الى حدّ الجنون في رهانه على لبنان واللبنانيين. بالغ الى درجة جعل اللبنانيين يصدّقون بعد حربهم الطويلة بين 1975 و 1990 انّ لبنان عاد بلدا يمكن العودة اليه والعيش فيه في ظلّ بحبوحة ورغد. اقتنع هؤلاء بان لبنان بلد تحلو فيه الحياة، بلد فيه مدرسة وجامعة ومستشفى وكهرباء وماء ومن يجمع النفايات. فيه أيضا فنادق ومطاعم وفيه خدمات وفيه مسرح وسينما وطرقات… وفيه، قبل كلّ شيء، بيروت التي عادت بين ليلة وضحاها الى اجمل مدن المتوسط، بل لؤلؤة المدن، التي تعجّ بالحياة والفرح، الموجودة على شاطئ هذا البحر.
رفضت بيروت ان يكون مصيرها مصير الإسكندرية في مصر او سميرنا (ازمير حاليا) في تركيا. استعادت بيروت امجادها. عاد اليها العرب والأجانب لم يعد من غرفة شاغرة في فنادقها. بدأت بيروت تتحوّل فعلا الى مدينة عالميّة بعدما ضاق مطارها بعدد الذين يسافرون او يأتون عبره.
اثبت رفيق الحريري ان بيروت ترفض الموت وترفض “الخط الأخضر” الذي استعان حافظ الأسد في مرحلة معيّنة بجيش التحرير الفلسطيني كي يثبّته ويفصل بين الشرقية المسيحية والغربية المسلمة!
لعلّ أسوأ ما في جريمة رفيق الحريري، التي بدأت بإعادة الحياة الى بيروت تمهيدا لاعادة الحياة إلى لبنان، ان اللبنانيين صدّقوه. عاد كثيرون الى البلد. بين الذين عادوا واستثمروا في لبنان عدد لا بأس به من المسيحيين الذين هجرتهم حرب الالغاء التي شنّها ميشال عون على “القوات اللبنانية” في اثناء وجوده في قصر بعبدا في 1989 و 1990 كرئيس لحكومة موقتة. عملت تلك الحكومة، التي استقال منها الوزراء المسلمون، كلّ شيء باستثناء ما كان عليها عمله. لم تؤمّن انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس امين الجميّل الذي غادر القصر فور انتهاء ولايته.
كان لا بدّ من معاقبة رفيق الحريري على جريمته الموصوفة، بما في ذلك إعادة بيروت عاصمة للاعلام العربي والاجنبي. في ايّام رفيق الحريري، عادت الفضائيات والصحف العالمية ووكالات الانباء الى بيروت حيث انشأت مكاتب لها تغطي منها كلّ المنطقة. في ايّام رفيق الحريري كان موسم الهجرة الى بيروت وليس الهجرة منها كما هو حاصل حاليا.
كان لا بدّ من معاقبة رفيق الحريري. ما نراه اليوم من مشاهد محزنة، من نوع ارتكابات رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل اللذين يعتقدان ان في الإمكان استعادة حقوق المسيحيين بسلاح “حزب الله”، تتويج لمسار طويل. صار عمر هذا المسار 16عاما. لم يكتف الذين أرادوا معاقبة رفيق الحريري بتفجيره مع رفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. ذهبوا الى ابعد من ذلك. فككوا كلّ ما بناه الرجل مؤسسة تلو الأخرى وحجرا بعد حجر. مطلوب ان تكون بيروت مدينة اشباح ولا شيء آخر. هذا ما يفسّر الحملات التي تعرّضت لها المصارف في مرحلة معيّنة تحت شعار “ليسقط حكم المصرف”. هذا ما يفسّر الحملة على الجامعة الأميركية في بيروت وعلى كلّ ما له علاقة بالعلم والمعرفة في لبنان.
في الطريق الى الانتقام من رفيق الحريري، جرى تحطيم بيروت كي لا تقوم لها قيامة يوما. لم يعد لبنان في تصنيف الأمم المتحدة غير بلد فقير انهارت عملته. ثمّة خوف حقيقي على اللبنانيين الفقراء من الموت جوعا. لم يعد لبنان يقارن سوى بسوريا، حيث حرب يشنها النظام على شعبه منذ عشر سنوات، واليمن والصومال.
تحوّل الانتقام من رفيق الحريري الى انتقام من لبنان واللبنانيين من كل المذاهب والطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية. تبيّن انّه لم يكن كافيا تفجير الرجل. تبيّن ان المطلوب الذهاب الى افقار لبنان وتحويله الى صحراء. صحراء في كلّ شيء، سياسيا واقتصاديا وفكريا وانسانيا. هل من قحل اكثر من ذلك الذي كشفته طريقة تعاطي رئيس الجمهورية مع رئيس الوزراء المكلّف، وهي طريقة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها تعبير عن انفلات للغرائز البدائية.
هناك رئيس للجمهورية، لم يأخذ علما بعد بتفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب – أغسطس الماضي، ولا بالآثار التي ترتبت على ذلك. يعتقد ان حقوق المسيحيين تستعاد عن طريق الغاء موقع رئيس مجلس الوزراء الذي أعاد له رفيق الحريري هيبته. هناك رئيس للجمهورية لا يريد معرفة انّ صهره لم يستطع إعادة الكهرباء الى البلد على الرغم من اشرافه المباشر وغير المباشر على وزارة الطاقة طوال 12 عاما. هناك رئيس للجمهورية يرفض اخذ العلم بعزلة لبنان العربيّة والدوليّة!
ما يحصل حاليا على ارض الواقع يتمثّل في معاقبة لبنان واللبنانيين قبل معاقبة رفيق الحريري على جريمته التي اقتصرت على تلاوة فعل ايمان بلبنان. ليس ما يلخّص الوضع القائم افضل من كلام وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لو دريان الذي يردّد ان “لبنان على وشك الانهيار”. الواقع ان البلد انهار وليس على وشك الانهيار. لم يعد يوجد لبناني يريد العودة الى بلده. يوجد لبناني يبحث عن مكان يستقبله خارج لبنان.
كلّما مرّ يوم يتأكّد أنّ إصرار “حزب الله” على ان يكون ميشال عون رئيسا للجمهورية قرار مدروس بدقّة ليس بعدها دقّة. لم يجد الحزب في ميشال عون شخصا لا يمكن ان يعترض على أي قرار من قراراته فحسب، بل عثر أيضا على من يكره رفيق الحريري ويحقد عليه وعلى بيروت اكثر منه…