ما يحدث في غزة، وفي الضفة الغربية، بعد العثور على جثث المستوطنين الثلاثة، واختطاف إسرائيليين للفتى الفلسطيني في شعفاط وقتله، تفصيل صغير في تقدير الموقف العام للعالم العربي، في الوقت الراهن.
الحدث الأهم يتمثل في الصعود المفاجئ لداعش، ونجاحها في الاستيلاء على مدن وبلدات وآبار للنفط، في العراق، ناهيك عن رقعة انتشارها ونفوذها في الأراضي السورية. وقد اكتسب هذا الصعود دلالات إضافية عندما عيّن زعيم داعش نفسه “خليفة للمسلمين”، وبايعت ميليشيات في بلدان عربية مختلفة الخليفة العراقي، على السمع والطاعة.
وإذا أردنا اختزال التحدي الذي تمثله داعش في عبارة واحدة فلنقل: إذا لم يتمكن العالم العربي من تدمير داعش فإن داعش ستدمّر العالم العربي. وبالقدر نفسه يمكن القول: واهم من يعتقد أن معارضة النصرة والقاعدة للخليفة العراقي تجعل من هذه أو تلك أفضل من داعش. وواهم من يعتقد أن العشائر والبعث والصحوات أفضل من داعش.
وفوق هذا وذاك، ومع هذا وذاك: واهم من يعتقد أن الأميركيين يمكن أن يستنكفوا عن عقد صفقات مع داعش أو غيرها، إذا استدعت المصالح الأميركية ذلك، وواهم أكثر من يعتقد أن الغرب سيكون حريصاً على تمكين العرب من “اقتلاع” أشواكهم أكثر من العرب أنفسهم. والأسوأ من هذا وذاك: واهم من يعتقد أن العرب في وضع يمكنهم من تدمير داعش وما يدخل في حكمها بشكل حاسم وسريع في زمن البربرية الجديدة.
هذه هي الصورة العامة، مع ملاحظة أن مفردة “العرب” أصبحت على قدر كبير من السيولة والعمومية. فقد انهارت دولتان هما العراق وسورية، ناهيك عن دولة فاشلة في اليمن وليبيا والسودان، وكلها مرشحة لمصير لا يختلف كثيراً عن المصيرين العراقي والسوري. وفي كل مكان آخر بؤر وحاضنات طبيعية للإرهاب، وقابلية للتفكك والفوضى.
والأسوأ من هذا وذاك، أن الكل مشغول بهمومه الخاصة، في ظل وضع يستدعي وجود تصوّرات وتفاهمات عربية ـ عربية لتفادي الانهيار الشامل، وسيادة البربرية، والتوّحش، والخلافة. فإذا استمر الحال على هذا المنوال سيظهر أكثر من منافس “للخليفة” العرقي، وتنشب أكثر من حرب بين “الخلفاء”، وأكثر من حرب أهلية.
فلنعد إلى التفصيل الفلسطيني الصغير: لا يوجد موقف إسرائيلي واحد وموّحد إزاء طريقة التعامل مع حماس في غزة. فمن مصلحة إسرائيل بقاء غزة تحت سيطرة حماس لتكريس الفصل بين غزة والضفة الغربية. ولكن ليس من مصلحة إسرائيل حصول الميليشيات في غزة، وبينها حماس، على صواريخ تصل إلى تل أبيب. وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل صغير، فإسرائيل مريضة بعقدة الأمن، وفكرة الردع، لذلك تمثل صواريخ حماس وبقية الميليشيات تحريضاً يومياً ومباشراً على استعراض العضلات العسكرية الإسرائيلية.
لا تمثل ميليشيات غزة تحدياً عسكرياً يعتد به بالنسبة للإسرائيليين، ولكن مشكلتهم تتمثل في حقيقة أن القضاء على خطر الصواريخ يستدعي ضرورة احتلال قطاع غزة مرّة أخرى، والبقاء هناك “لمدة عام” على الأقل، كما ذكر مسؤول أمني سابق. وهذا أمر مكلف بالمعنى المادي والسياسي، ويصعب التحكّم بنتائجه النهائية، فكثير من العمليات العسكرية تبدو على الأرض مختلفة تماماً عن عمّا كانت عليه في الخطط والخرائط. وبهذا المعنى، وفيه، تتجلى معضلة الإسرائيليين، بصرف النظر عن البلاغة السياسية لحكوماتهم المتعاقبة.
لذلك، وعلى الرغم من التلويح بعملية عسكرية واسعة، بعد اختطاف المستوطنين الثلاثة، والعثور على جثثهم، واتهام إسرائيل لحماس بالوقوف وراء العملية، إلا أن احتلال قطاع غزة لمدة عام لن يكون، على الأرجح، على رأس قائمة الأهداف الإسرائيلية. ومرّد هذا الأمر، علاوة على ما ذكرنا سابقاً، محاولة إسرائيل تفادي فقدان السيطرة على الأرض في الضفة الغربية، واندلاع انتفاضة ثالثة.
وبمناسبة الانتفاضة الثالثة، فإن ما جرى منذ عملية قتل المستوطنين الثلاثة، والرد عليها بقتل الشاب الفلسطيني من شعفاط، وما أثارته الحادثة من ردود فعل غاضبة من جانب الفلسطينيين، خاصة داخل الخط الأخضر، ينبغي القول أن الانتفاضة الثالثة، إذا وقعت، وعندما تقع، لن تكون مشابهة لتجربتين سابقتين في الانتفاضة الأولى والثانية بل ستكون سمتها الرئيسة القتل والقتل المضاد، في حرب مفتوحة بين المواطنين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين ضمن حدود الدولة الإسرائيلية.
شخصياً، لا أعتقد أن هذا السيناريو مرشح لاحتلال صدارة المشهد في وقت قريب، ولكن استمرار الاحتقان، وانسداد الأفق السياسي، وغياب الحل، وديمومة الاحتلال، أشياء تبرر وضعه على قائمة الاحتمالات.
وهذه، على الأقل، خلاصة تفصيل فلسطيني صغير في مشهد عربي يحتل مكان الصدارة فيه الخليفة الداعشي، ودولته، وجواز سفره، وساعته الرولكس، ورايته السوداء…الخ..الخ.
khaderhas1@hotmail.com