حسن خضر
قرأت في الأيام القليلة الماضية كتاب عبد الرحمن شلقم “أشخاص حول القذافي”. هذا الكتاب مفيد جداً للمؤرخين والباحثين في علم النفس السياسي، وعلوم السياسة والاجتماع، ولكل الراغبين في استراق النظر والتلصص على جماهيرية العقيد، ولو بأثر رجعي.
الكتاب ضخم، يتكوّن من عدة مئات من الصفحات، ويمثل قراءة تحليلية لعدد من الشخصيات الرئيسة، التي أحاطت بمعمر القذافي، وكانت أدواته في ممارسة السلطة المطلقة، والبقاء في سدة الحكم على مدار أربعة عقود من الزمن. العقود التي شهدت تفكيك الدولة الليبية، وتخريب المجتمع، وتجهيل جيلين، على الأقل، من الليبيين.
كان السيد شلقم أحد أعمدة النظام، وقد اختار القفز من سفينته الغارقة في وقت مبكّر، وأسهمت محاولته تلك في تحريض آخرين في سلك الدبلوماسية الليبية على الانشقاق. وهذا ما يُحسب له. وبالقدر نفسه يُحسب له، بعد هذا الكتاب، تقديم شهادة عن جماهيرية، وشخصية العقيد، وأدوات حكمه تفيض بالتفاصيل، وتنم عن معرفة بدقائق الأمور.
قبل طرح أسئلة من نوع: إذا كانت جماهيرية العقيد على هذا القدر من البشاعة والتفاهة، وكنتَ على هذا القدر من النـزاهة والحساسية، لماذا تأخرت أربعين عاماً في القفز من السفينة؟
قبل أسئلة كهذه ثمة ما يستحق النظر في الصور القلمية، التي رسمها السيد شلقم، لرجال القذافي ونسائه، فقد استخدم منهج التحليل النفسي، وحاول بتأثير من ميول أدبية واضحة، تقصي المصائر التراجيدية لأشخاص ألقت بهم الأقدار على باب خيمة القذافي، أو سعوا بأرجلهم إليها.
وما يستحق النظر، هنا، يعيد التذكير بما ذهبت إليه حنا آرنت في تحليلها لشخصية أيخمان، وللنظام النازي بشكل عام. وأعني بذلك تفاهة الشر. فالشر سواء تجسّد في نظام بعينه، أو تجلى في شخصية من شخصياته، يبدو عادياً وتافهاً إلى حد بعيد. لا شيء في سيرة معمر القذافي، والشخصيات التي أحاطت به يوحي بمواهب خاصة، أو قدرات ذهنية استثنائية، أو حتى بمشاغل وهموم غير اعتيادية. ثمة ما لا يحصى من تجليات التفاهة، التي غالباً ما تتاخم حد كوميديا هزلية رخيصة. وفي هذا الحد، بالذات، تكتمل كل عناصر المأساة.
فلنفكر في الطرفة التالية المذكورة في الكتاب: في أحد مؤتمرات اللجان الشعبية انتخب الحاضرون عدداً من الأشخاص لشغل مناصب وزارية، وكان بينهم شخصان يرد في اسميهما (الاسم الأول أو الثاني أو اسم العائلة) اسم الزناتي وأبو زيد.
عندما عُرضت قائمة الأسماء على القذافي للموافقة عليها طلب من حاملي القائمة البحث عن امرأة اسمها الجازية، وتعيينها بمرتبة وزير، ليكتمل في الحكومة مثلث السيرة الهلالية: أبو زيد، والزناتي، والجازية. بمعنى آخر كان يمكن لامرأة تحمل اسم الجازية أن تصبح وزيرة في ليبيا لتمكين الأخ القائد من إعادة إنتاج وتمثيل وإخراج السيرة الهلالية على الأرض، وفي السياسة.
ولكن إذا تغاضينا عن تفاهة الأخ القائد وشخصيات نظامه، تجدر بنا العودة إلى سؤال سابق: لماذا تأخر شلقم في القفز من السفينة. يقدّم شلقم في الفصل الأخير إجابة محتملة، عندما يضع نفسه بين تلك الشخصيات، ويحلل نفسه ومواقفه بقدر مدروس من التجرّد والموضوعية، فقد أخذته موجة القذافي وسبحت به بعيداً، لكنه لم يغمض عينيه، على غرار شخصيات أخرى، عن الحقيقة، وحاول قدر الإمكان أن يؤدي واجبه. وهذا التحليل، للأسف، غير مُقنع.
يوفر الكتاب نفسه إجابة مغايرة. في الكتاب ما لا يحصى من الأخطاء الطباعية، والنحوية، والتراكيب اللغوية المغلوطة، إلى حد يوحي بأن الكاتب أملى كتابه على شخص آخر. إذا كان الأمر كذلك، فإن أمراً كهذا يحسب عليه، إذ يستحق الكتاب جهداً وجدية أكبر مما تجلى فيه.
ومن ناحية أخرى، إذا افترضنا أن الأمر السابق لم يحدث، نجد أنفسنا أمام مشكلة حقيقية. فقد بدأ السيد شلقم حياته المهنية صحافياً في أوائل السبعينيات، ثم تولى تحرير صحيفتين من صحف القذافي، وبعدها تقلّد مناصب رفيعة في دولة العقيد ما بين وزير، ورئيس للوزراء، ووزير للخارجية، ومندوب في الأمم المتحدة. فكيف يستقيم الأمر، خاصة وأن اهتمام الكاتب بالشعر والأدب يتجلى في ما لا يحصى من الصفحات، التي يرصع بعضها بأبيات من الشعر العربي للتدليل على هذا الموقف أو ذاك؟
لا يمكن للأمر أن يستقيم (بمعنى أن تكون ضعيفاً في اللغة والثقافة والتحليل، وأن تصبح مثقفاً كبيراً، ورئيساً للتحرير، ثم تتولى مقاليد الوزارة وما شئت من المناصب العامة) إلا في الأنظمة الشعبوية، التي لا يعتمد النجاح فيها على الكفاءة بل على الولاء. وفي عالم العرب الكثير من هؤلاء، إذا قلت لهذا الشخص أو ذاك: أنت لا تجيد الكتابة يتهمك بالعمالة للإمبريالية، والعداء للنظام، وخيانة الأمة.
على أية حال، يتحلى السيد شلقم بحس الفكاهة، وبقدرة واضحة على حسن التصرّف، وسرعة البديهة، وكما يتجلى في الكتاب فقد أسهمت أبيات من الشعر، وطرائف ونوادر يحفظ منها الكثير، في إخراجه من مآزق صعبة، ومواقف حرجة، في زمن القذافي. وهذه ميزة إضافية، وكفاءة نادرة تمكّن هذا الشخص أو ذاك من التأقلم مع أنظمة الطغاة.
مهما يكن من أمر، الكتاب ممتع ومفيد في فهم آليات الولاء، وكفاءة البقاء في سدة الحكم، وعلى حوافها، في ليبيا وغيرها. وفي السياق نفسه ضروري لفهم معنى ومبنى تفاهة الشر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني- برلين