ظهرت على الساحة بعض الآراء التي تطالب بتعديل لائحة انتخابات بابا الإسكندرية للأقباط الأرثوذكس (الصادرة بقرار جمهوري في سنة 1957) في اتجاه أو في آخر. ونظرا لأهمية الموضوع، ولضرورة التعرض له أثناء فترات الاستقرار (وخاصة أثناء حبرية واحد من أفضل باباوات الكنيسة على مر التاريخ)، وليس عندما يخلو الكرسي البطريركي (بعد عمر طويل) وتبرز الاختلافات، إن لم يكن الصراعات؛ فإننا نود المشاركة بهذه الملاحظات العامة فيما يتعلق تحديدا بالمرشح والناخب والعملية الانتخابية.
أولا: المرشح
تقول اللائحة الحالية أن المرشح يجب أن يكون (ساعة خلو الكرسي): “من طغمة الرهبنة المتبتلين الذين لم يسبق لهم الزواج سواء كان مطراناً أو أسقفاً أو راهباً، وأن تتوافر فيه جميع الشروط المقررة في القوانين والقواعد والتقاليد الكنسية.”
يتركز الجدل الحالي، فيما يتعلق بالمرشح، بين إمكانية اختيار “أسقف”، وبين ضرورة أن يكون راهبا
ننوه أولا أن بابوات وبطاركة ورؤساء الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والأنجليكانية، في مختلف أنحاء العالم، يُختارون من بين الأساقفة الحاليين.
وبالنسبة للكنيسة القبطية على مر التاريخ، فقد كان الباباوات يأتون من خلفيات متباينة، ولا توجد قاعدة عامة حول العلاقة بين الخلفية وبين سمعة وأداء من تولى المنصب. وعلى سبيل المثال ففي خلال القرنين الماضيين، لا شك أن أفضل الباباوات هم (بالترتيب الزمني): كيرلس الرابع الشهير بأبي الإصلاح (وكان رئيس دير ثم مطرانا) وكيرلس السادس (وكان راهبا متوحدا) وشنودة الثالث (وكان راهبا متوحدا ثم أسقفا عاما).
دعاة إمكانية ترشيح “أسقف” (وهم عادة يتحدثون عن “أسقف عام”، وأحيانا عن أي أسقف، أي تمت “سيامته” على إبارشية) يرون أن المنصب البابوي ليس مجرد رئاسة دينية ومسئولية رعوية، بل قد أصبح في العصور الحديثة ذا جوانب متعددة ويتطلب خبرات اجتماعية وسياسية وثقافية وقدرات تنظيمية وقيادية؛ ومن الصعب الاتكال على فرصة، قد تكون ضئيلة، لوجود راهب متمرس في كل هذا بينما هو منقطع عن العالم في ديره.
أما دعاة الاقتصار على “الرهبان” فقط فهم يرتكنون إلى عدم جواز انتقال الأسقف من إبارشيته إلى أخرى يعاد “سيامته” عليها، إذ لو فتح الباب لأدى ذلك إلى منزلق يبعد بالخدمة عن روح التفاني وقد يؤدي إلى التطلع “للترقي” إلى إبارشيات أكبر أو أغنى الخ.. (وإن كان العرف في الماضي جرى على أن يستمر البابا في رعاية الإبارشية التي سبق سيامته أسقفا عليها، مع الاستعانة بمن يمكن أن يساعده). وهم يرون كذلك أن “الأسقف العام” هو منصب مستحدث، يجب أن ينظر إلى من يتقلده على أنه “أسقف” وليس “راهبا”. لكن المطلب هنا يخفي سببا أهم؛ وهو أن يكون المرشح ليس فقط روحانيا تقيا ورعا وحكيما، بل زاهدا في المناصب.
المهم، إذن، في كل الأحوال، أن يجلس على الكرسي من هو جدير به ومن “يسعى المنصب إليه”، وليس من “يسعى هو إلى المنصب”. ولذا فالدعوة إلى الاقتصار على الرهبان هي، في حد ذاتها، تزيد من فرص تحقيق الهدف ولكنها ليست ضامنة له. ولذلك جاءت إمكانية اختيار “أسقف عام” كحل وسط معقول يجب الاحتفاظ به.
لكننا، من ناحية أخرى، نتفهم تماما أن التمسك بترشيح الرهبان (غير الأساقفة) يرجع في الحقيقة إلى مخاوف لها ما يبررها من أن ينتهي الأمر بجلوس أشخاص “غير جديرين” على الكرسي البابوي (مثل بعض الشخصيات التي عرفت بكونها خلافية أو تصادمية أو استبدادية الخ)؛ أو أن تتلاعب جهات معينة في عملية الاختيار لتفرض من تراه في مصلحتها. ونحن نشارك هذه المخاوف ونعتقد أن خطر الانقسامات داخل الكنيسة، وما هو أسوأ، ماثلٌ تماما إذا ما حدث ـ لا سمح الله ـ ما نخشاه جميعا. لكن الحل لا يكون في “تفصيل” اللائحة لكي تمنع “هذا” أو تسمح “لذاك”، بل بالعمل على التمسك بالمبدأ، خصوصا وأن اللائحة تقول بوضوح أن المرشح يجب أن “تتوافر فيه جميع الشروط المقررة في القوانين والقواعد والتقاليد الكنسية”؛ وعلى الشعب وجمهور الإكليروس الوقوف بوضوح في وجه أي محاولة للعبث بالمنصب البابوي.
الأمر الوحيد الذي نرى أهمية تعديله بشأن “المرشح” هو المدة الزمنية التي مضت على رهبنته، والتي نرى زيادتها إلى عشرين سنة (بدلا من خمس عشرة) ـ مما يعني ضمنيا رفع الحد الأدنى لعمر المرشح إلى حوالي خمسين سنة.
ثانيا: الناخبون:
مرة أخرى، يجدر أن نبدأ بالتذكير بما يحدث في الكنائس الأخرى:
كان البابا في الكنيسة الكاثوليكية يُنتخب ـ بصفة عامة ـ بتوافق الأساقفة ووجهاء روما حتى القرن العاشر. وبعدها أصبح الأمر مقتصرا على الكرادلة، ترشيحا وانتخابا. بل إنه لا يوجد “مرشحون” أصلا، لأن الكرادلة، الذين يجتمعون ويبقون في عزلة تامة عن العالم، يعطي كل منهم صوته (سرا) لمن يعتقد أنه الأفضل من بينهم. وبعد عدة دورات تتضح فيها اتجاهات التصويت ينتهي الأمر بانتخاب البابا الجديد، وينبعث من مدخنة الفاتيكان الدخان الأسود الشهير. ولا يعلن بعدها عن أسماء المنافسين. وحتى إذا كانت هناك تخمينات عند المتابعين، فالأمر يبقى في طي الكتمان حرصا على مهابة المنصب ومن يتقلده.
وفيما نعلم، فإن الكنائس الأرثوذكسية الكبرى (اليونان وروسيا) تتبع تقليدا لا يختلف في جوهره عن نفس الأسلوب. أما الكنائس الأنجليكانية والبروتستانتية فالانتخاب فيها يتم بواسطة مجمع من رجال الدين وبعض “الشيوخ” العلمانيين المنخرطين في نشاطات إدارة الكنيسة.
أما في الكنيسة القبطية، فقد كان اختيار البابا على مر العصور يتم غالبا بالتوافق بين رجال الإكليروس و “أراخنة” الشعب (جمع “أرخن” من اليونانية التي تعني رأس أو رئيس أو كبير)، أي من “قادة الشعب” الذين يتمتعون بمركز اجتماعي أو سياسي أو إداري هام.
تنص اللائحة بشأن الناخب على:
“أن يكون حاصلاً على شهادة دراسية عالية أو أن يكون موظفاً حالياً أو سابقاً فى الحكومة المصرية والهيئات ولا يقل مرتبه عن أربعمائة وثمانون جنيهاً سنوياً، أو موظفاً بأحد المصارف أو الشركات أو المحال التجارية أو ما يماثلها ولا يقل مرتبه عن ستمائة جنيه سنوياً، أو يكون ممن يدفعون ضرائب لا تقل عن مائة جنيه سنوياً ويشترط فى الحالة الأخيرة أن يكون الناخب ممن يجيدون القراءة والكتابة “.
وتحدد اللائحة عددا من الأشخاص من فئات معينة يحق لها القيد في جداول الانتخاب.
ومن ناحية المبدأ نرى أن مشاركة الشعب في انتخاب البابا، التي هي أمر فريد في الكنيسة القبطية، يجب الحفاظ عليها، لكننا نعتقد أن الشروط المذكورة في اللائحة قد عفا عليها الزمن تماما؛ وهي أهم وأخطر ما يجب العمل على تعديله.
السؤال هو: هل يُفتح الباب لكافة أفراد الشعب القبطي، أم يقتصر الأمر على “الأراخنة”؟
نعتقد بأهمية الاحتفاظ بمبدأ “الأراخنة” مع ضرورة تحديثه عن طريق تكوين “مجمع انتخابي” يتكون من الأقباط المهتمين مباشرة بالشأن الكنسي والشأن العام، وذلك من الفئات والخلفيات التالية (ساعة
خلو الكرسي البابوي):
1ـ كافة رجال الإكليروس، بكل درجاتهم.
2ـ العلمانيون في رتبة “دياكون أو “أرشيدياكون” أو “مُكرّس”.
3ـ أساتذة كليات اللاهوت الحاليون والسابقون، وخريجوها.
4ـ أعضاء مجالس الكنائس (الصادر بهم قرارات بابوية أو أسقفية)، الحاليون والسابقون.
5ـ أعضاء المجالس المِليّة العامة والمحلية، الحاليون والسابقون.
6ـ الوزراء وأعضاء مجلسي الشعب والشورى ومجالس الحكم المحلي بالمحافظات، الحاليون والسابقون.
7ـ أعضاء مجالس إدارة الجمعيات الخيرية القبطية والجمعيات المدنية المسجلة.
8ـ رجال القضاء (بدرجة مستشار+) وأساتذة الجامعة، والعسكريون (بدرجة مقدم+)، وأعضاء مجالس النقابات المهنية العامة والفرعية، والموظفون بالحكومة والشركات العامة والخاصة (درجة مدير عام+)؛ الحاليون والسابقون.
9ـ رؤساء تحرير وكتاب ومحررو الصحف.
وربما كانت هناك بعض إضافات أخرى، بشرط سهولة تحديد المواصفات.
ويتضح مما سبق أن عدد أعضاء هذا المجمع الانتخابي سيكون في حدود 25 ألفا، مقارنة ببضعة آلاف لهم حق الانتخاب طبقا للائحة الحالية، أي سيوسع من دائرة التمثيل والمشاركة بينما يستند إلى مبدأ واضح. كما نؤكد أن المجمع الانتخابي يتحتم أن يشمل الأقباط الأرثوذكس في كافة أنحاء العالم، بغض النظر عن الجنسية، من الفئات 1 إلى 4 أعلاه.
ويجب أن يفتح باب التسجيل في المجمع الانتخابي فور إقراره، على أن يجرى تحديثه بصفة دورية (شهر ديسمبر من كل عام؟) ليكون صالحا لاستخدامه أيضا في انتخابات المجالس المليّة (التي يحتاج اسمها ودورها إلى إعادة نظر ـ لكن هذا موضوع آخر..).
ثالثا: عملية الانتخاب
نرى أن يتم الانتخاب داخل مصر كما هو منصوص عليه في اللائحة الحالية (باستثناء بعض التعديلات الإجرائية “العملية” الطفيفة، تمشيا مع العصر).
أما بالنسبة للخارج فتتم الانتخابات في كل كنيسة قبطية في أي مكان بالعالم تحت إشراف لجنة ثلاثية يعينها الأسقف الذي تتبعه الكنيسة، وبحضور “موثق” معتمد (Public Notary)، وتجري عملية التصويت قبل موعد الانتخاب في مصر بمدة كافية (لا تتعدى الأسبوعين) ليتسنى إرسال الأصوات بواسطة الموثق بالبريد المباشر إلى اللجنة الانتخابية.
بعد الانتخابات، تعلن اللجنة عن الفائزين الثلاثة الحائزين على أعلى الأصوات؛ وهؤلاء تجرى عليهم “القرعة الهيكلية” كما هو منصوص عليه في اللائحة الحالية.
وهنا نجد أن هناك من يطالب بإلغاء القرعة. لكن، وبغض النظر عن اعتقاد البعض بالتدخل الإلهي أو قول الآخرين بكون العملية مجرد “صدفة”، فالقرعة الهيكلية هي ـ في رأينا ـ خطوة هامة يتحتم الاحتفاظ بها، وذلك، إضافة لكونها تستند إلى ممارسات الكنيسة الأولى كما ذكر في سفر أعمال الرسل، لعدة أسباب من بينها:
1ـ “الانتخابات” قد تعني “برنامجا انتخابيا”، وبالتالي ـ إذا كانت المعيار الوحيد للاختيار ـ السعي للحصول على “أعلى الأصوات” مما قد يؤدي للجوء لتصرفات أو تصريحات أو وعود “شعبوية” بهدف جذب الناخبين..
2ـ عملية الترشيح والانتخاب، حتى لو كانت تتم بين “ملائكة” وليس بشرا، سوف تتسم مباشرة أو غير مباشرة بالمنافسة والمشاحنة وإبراز فضائل ومزايا الواحد، وعيوب ونقائص الآخر. وإن لم يقم المرشحون بذلك، فمريدوهم ومساندوهم سوف يفعلون، ناهيك عما هو متوقع من تدخلات مجتمعية وإعلامية وسياسية، ومن محاولات ضرب وخبص وتحريض ممن يهمهم الأمر! ولذا فمن الصعب تصور إمكانية رأب الصدع والعمل معا يدا في يد بين “منتصر” و “مهزوم”، لأن هذا يفوق طبائع البشر، مهما حسنت النوايا.
3ـ منصب البابا، الذي نتفق على أن يأتي من يحتله باختيار ورضا الشعب، هو في الأصل ديني وروحي رفيع، وليس زعامة سياسية ترتهن بالانتخابات وظروفها. والغريب أن معظم من يطالبون بإلغاء القرعة الهيكلية هم من بين أكثر منتقدي الرئاسة الكنسية، موجهين لها انتقادات (ظالمة) “بالتدخل في السياسة” ـ وإذا بهم يريدون للمنصب أن يصبح سياسيا تماما.
4ـ طبقا لدراسة بالغة الأهمية للدكتور سعد ميخائيل سعد (نشرت في “وطني الدولي” في مارس 2002 ـ ويجدر إعادة نشرها)، فإنه من بين التسعين حالة التي سجل فيها التاريخ أسلوب الانتخاب، طُبق أسلوب القرعة الهيكلية على الأقل عشر مرات (الباباوات رقم 3 و48 و71 و102 و103 و104 و105 و108 و116 و117). وهو يأتي كالأسلوب الثالث بعد “التوافق العام” بين الإكليروس وأراخنة الشعب (35 حالة)، والاختيار بواسطة إكليروس الإسكندرية وحدهم (16 حالة آخرها البابا 34، سنة 567). [باقي الأساليب تشمل تسمية المرشح بواسطة البابا الأسبق قبل رحيله (7 مرات حتى البابا 88)، وضغوط الحكام والولاة (6 مرات حتى البابا 78)، والتعيين بواسطة الأراخنة بمفردهم (5 مرات)]
5ـ دعاة حجة أن القرعة “تفتح الباب للتلاعب”، يجب أن يتذكروا قدرات “الجهات المعنية” الخارقة على ترتيب و “تستيف” (أي باختصار تزوير!) نتائج الانتخابات، بما في ذلك استبدال صناديق بأكملها إذا لزم الأمر ـ قارن هذا بسهولة “مراقبة” ثلاثة أظرف أثناء صلاة القداس، وتحت إشراف لجنة محايدة تستعين بالتسجيل التلفزيوني المستمر!
***
الخلاصة: نرى الاحتفاظ باللائحة الحالية، فيما عدا تعديل فترة رهبانية المرشح (لتصبح 20 سنة)، وتشكيل “مجمع انتخابي”؛ إضافة لبعض التعديلات الإجرائية الطفيفة التي قد يرى المختصون ضرورة الأخذ بها لتتواكب العملية الانتخابية مع العصر. كما يجدر إضافة مادة تحظر تعديل اللائحة خلال فترات خلو الكرسي البطريركي.
adel.guindy@gmail.com