شعار الفكر الأحادي والمتشدد: لا للاختلاف، لا للحوار، لا للكتابة، نعم للرأي الواحد، نعم لتكميم الأفواه، نعم لقصف العقول الحرّة، نعم للإقصاء والتهميش. هذا ما بليت به الأمّة الإسلامية منذ عقود من الزمن ولا يعني أنها تختصّ به دون الأمم. ولكن موضوعي أمّة الإسلام التي ترفع شعار الأخوة والمحبّة والعفو عند المقدرة، وإن لم تخل مسيرة الإسلام من هذه المبادئ السمحة، إلا أن تاريخ العنف المتخفي في جلباب الدّين كان ضحيّته عدد من العلماء الأجلاء قديما وحديثا، منهم الأئمة الأجلاء: مالك بن أنس وأبو حنيفة النعمان والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري وسفيان الثوري وابن خزيمة وابن جرير الطبري. وسأخص بالذكر في هذا المقال شيخ المفسرين وأب المؤرخين، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفي في القرن الثالث للهجرة/التاسع للميلاد.
تعرض الطبري لمحنة كبيرة تزعّمها أهل الحديث وجماعة من الحنابلة. وقبل الحديث عن هذه المحنة أعرّف بالطبري بكل إيجاز من خلال شهادة أبي بكر الخطيب فيه ونصّها: “كان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله عزّ وجلّ، بصيرا بالمعاني، فقيها بأحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها،عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام النّاس وأخبارهم، له الكتاب المشهور في “تاريخ الأمم والملوك”،وكتاب “في تفسير القرآن”لم يصنّف أحد مثله، وكتاب سمّاه “تهذيب الآثار” لم أر سواه في معناه، لم يتمّه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار في أقاويل الفقهاء، وتفرّد بمسائل حفظت عنه”.
هذا العلامة، “واحد الدهر وفريد كل عصره”، تهاجمه مجموعة متشددة من أهل الحديث وخصومه من الحنابلة في بغداد لأنه اختلف معهم في الرأي والتأويل، وأراد أن يتخذ مذهبا خاصا به بعد أن استوعب علوم عصره. ولأنّهم عجزوا عن دفع الحجّة بالحجّة، وقد تملّكهم الحسد والحقد، استعملوا العنف ضدّ العالم المؤمن ابن جرير الطبري ودسّوا له الدسائس، وشغبواعليه وقالوا فيه ما أرادوا ووقعوا فيه حسبما ورد في كتاب “سيرأعلام النبلاء” للذهبي: “ومن الجهلة من رماه بالإلحاد وحاشاه من ذلك كله، بل كان أحد أيمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّما تقلّدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن أبي داود السجستاني الظاهري”. كما جاء في “الكامل”لابن الأثير:
وزعيمهم أبوبكر هذا قال فيه أبوه: “ابني هذا كذاب”، وقال فيه إبراهيم الأصفهان: “أبو بكر بن أبي داود كذاب” على حدّ عبارة ابن حجر في كتابه”لسان الميزان”,
فما هو تعليقكم على كذّاب يتّهم العلماء ويسلّط عليهم أتباعه من الانتهازيين والجهلة؟
ما هو ذنب الطبري -، حتّى يسام أبشع أنواع الإقصاء والتهميش والعقاب؟
ذنبه أنه استعمل عقله واختلف مع من يرفض الاختلاف، ودافع عن حقّ أهل البيت. وذنبه أنه استقرّ في بغداد في آخر حياته وكانت تعجّ بالحنابلة وبأهل الحديث -كما ذكر ابن الأثير في كتابه”الكامل”-، ونشر فيها علمه وعرّف بمؤلفاته، وخلص إلى إرساء مذهبه الجريري، مما جرّ عليه حقد الحاقدين وحسد الحاسدين من الذين تفوّق عليهم علميّا في المناظرات والمحاورات. وإضافة إلى أبي بكر بن أبي داود “تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبيّاضي”، حسب رواية ياقوت الحموي، وقصده عدد ممّن حرّضهم هؤلاء وهو في الجامع يوم الجمعة وسألوه عن الإمام أحمد بن حنبل وعن تفسيره لمصطلح “المقام المحمود” في الأية 53 من سورة الإسراء،وكيفيّة الجلوس على العرش،
فأجاب أبوجعفر: أمّا أحمد بن حنبل فلا يُعدُّ خلافُه،
فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف،
فأجاب: ما رأيته رُوي عنه ولا رأيت له أصحابا يُعوّل عليهم
وأمّا الجلوس على العرش فمحال، وأنشد:
سبحان مَنْ ليس له أنيس *** ولا له على عرشه جليس
وفسّر “المقام المحمود”بالشفاعة التي يخصّ بها الله رسوله يوم القيامة ليشفع في أمته، بعد أن ذكر مختلف التأويلات للمصطلح، ومنها أن الله يُجلس رسوله معه على العرش، وعلق أنها تأويلات ممكنة ولكنّه رفض أن يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله على العرش وأدلى برأيه في الموضوع.
وعوض أن تتحاور معه الجماعة لعلها تفنّد رأيه، وحالما سمعوا منه الأجوبة ضربوه بمحابرهم وهجموا عليه فدخل أبو جعفر داره فرموه بالحجارة حتّى صار على بابه كالتلّ العظيم، مما اضطرّ مجيء صاحب الشرطة في آلاف من الجند يمنع عنه العامّة، ووقف على بابه يوما إلى اللّيل وأمر برفع الحجارة عنه، وأمر صاحب الشرطة بمحو ما كتب الطبري على بابه:
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له على عرشه جليس
وكتب المتشدّدون من المحدثين والخصوم من الحنابلة على باب الطبري
لأحمد منزل-لاشك-عـال *** إذا وافى إلى الرّحمان وافـــد
فيًُدنيه ويُقعدُه كريمـــا *** على رغم لهم في أنف حاسـد
على عرش يُغلَََفُهُ بطيب *** على الأكباد من باغ وعانــــد
له هذا المقام الفرد حقّـا *** كذاك رواه ليث ومجاهــــــــد
ومنعوه من الخروج من داره، ومنعوا مريديه من الفقهاء ومن العلماء من الدّخول عليه، ولم يتركوا أحدا من طلبته يجلس إليه ويستمع منه. وهذا هو عين الإرهاب الفكري الذي أساء إلى هذا العالم وضايقه في حياته فأثر على إنتاجه العلمي الذي لم يتمّه، كل هذا بسبب خلاف بسيط جرّ على الطبري المحنة الكبرى”محنة مجلس الجمعة”.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل تواصل ليحاسبوا الطبري على كتابين ألّفهما. الأوّل كتاب “حديث غدير خمّ” الذي ردّ فيه على أبي بكر بن أبي داود السجستاني الحنبلي لأنّه تكلم في الحديث، فتصدى له الطبري بالكلمة وبالقلم -وليس بالحجارة كما فعل هو وجماعته-، ودحض آراء بعض العلماء الذين أرادوا تغييب الحقائق الدّينية بسبب الخلافات المذهبية والنزعات الدّينية . ودافع في كتابه -بكل شجاعة وجرأة- عن عليّ بن أبي طاب كرّم الله وجهه، وعن أهل البيت في زمن كان فيه من العلماء مَن يتزلّف للسّلطان ويتقرّب له بالطعن في أهل البيت، فاستغل أعداؤه هذا الكتاب لاتّهامه بالتشيع، والتشنيع عليه.
أما الكتاب الثاني فهو”اختلاف الفقهاء”. ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل لأنّّه يعتبره محدّثا وليس فقيها.
وهكذا يتّضح لنا أنّ كل ذنوب الطبري أنه صاحب رأي مخالف لآرائهم، وأنهم عالم جريء “تتجلى فيه شجاعته واستماتته في الدفاع عن الحقّ -الذي يراه بالقلم والجدال- وإيمانه بالحريّة الفكريّة في العقيدة والمذهب والرأي في منظور الشرع ومنطقه الإيماني في المأثور والمنقول والقياس المشروع”.
ولدفع الضّرر عن نفسه، صنّف الطبري كتابا ذكر فيه فضل الإمام أحمد بن حنبل، ومذهبه، وتصويب اعتقاده، وقرأه عليهم، ولم يزل في ذكره إلى أن مات. ولكن ذلك لم يجد نفعا، وظل كتابه في”اختلاف الفقهاء” مخفيا حتى مات فوجدوه مدفونا في التراب فأخرجه العلماء ونسخوه، وحققه أحد المستشرقين.
ورغم هذا الاعتذار تواصل ضرب الحصار على الطبري إلى أن مات فدفن في بيته خوفا من أن تنبش العامّة من الحنابلة ومن المحدثين قبره. ولا يعرف قدر الاعتذار إلا الكرماء من النّاس،ولن يقبل الاعتذار مَنْ هم “منشأ الشرّ وأصل الفتن في الدّين وهم الذين لم يمعنوا في العلم حتى يرتقوا إلى رتبة العلماء ولا تُركوا حتى يكونوا من أهل الجهل فإنهم إذا رأوا أحدا من أهل الطبقة العليا من العلماء يقول ما لا يعرفونه مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيه القصور وجهوا إليه سهام التقريع ونسبوه إلى كل قول شنيع… فعند ذلك تقوم الفتن الدّينية على ساق”.
ولكي ننصف العلماء ونتجنب التّعميم، فإن علماء الحنابلة الأجلاء أهل المعرفة حقّا انصفوا الطبري واعتبروه من المظلومين، وهذا شأن” العلماء الأكابر وهم من يعرفون الحق والباطل وإن اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفتن لعلمهم بما عند بعضهم بعضا”.
ما تعرّض له الإمام الطبري يتعرّض له أهل الفكر في كل زمان وفي كل بلد حيث تجد فئة حاقدة متزلفة طامعة في بعض المناصب الزّائلة، تجمع حولها الانتهازيين و المتشددين والاقصائيين بالطبع والعادة، العاملين على تكميم الأفواه لمنع حرّية التعبير،والداعين إلى قتل المختلف، وترشيحهم ليعتدوا على المفكرين. وها هو إرهاب الفكر والمفكرين يطلّ علينا بعد الثورات في العالم العربي، هذه الثورات التي استبشرنا بها لأنّها خلصتنا من الخوف ومن إرهاب الدّولة، ليتعرّض المثقفون والجامعيون لمثل هذه التصرفات الرّعناء التي لا صلة لها بالإسلام، ولا بالتحضّر، ولا بالآداب العامة ولا بالأخلاق، ولا بالأعراف. فأيّ دين، وأيّة أخلاق، وأيّة قيم تسمح لمجموعة من المتشددين ومن تبعهم أن يقتحموا على الأساتذة الفصل ويتهموهم بالإلحاد والكفر والخروج عن الدّين في جامعة دينية، ويمنعوا الطلبة من الاستماع إليهم وحضور دروسهم؟ ويصل الأمر إلى حدّ التعنيف، ،ويصفوا الأستاذات الجامعيات بالعاهرات وبالكافرات، وبالمتفرنسات ويهدّدوهن بالاغتصاب يمارسون ضدّهم العنف اللفظي والجسدي، ويعنفون الإعلاميين لمجرّد الاختلاف معهم.
وما نختم به أن الأقلام لن تجفّ، وأن الأفواه لن تسكت؛ لأنّ الثورات في الوطن العربي منحتنا حرية الفكر وحرية التعبير، ولن نتنازل عنها، وقد استشهد من أجلها شباب في عمر الزهور.
nfzimzin@yahoo.fr
• جامعية تونسية