“المساجد ثكناتنا والقباب خوذاتنا والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا”، هذه الصور البيانية لشاعر تركي أيام الحكم العسكري، والتي تبناها رجب طيب أردوغان في خطاب شهير له عام 1998، كانت نوعا من جواز المرور إلى الساحة السياسية، إذ أن أردوغان، أول رئيس لتركيا عبر الانتخاب الشعبي المباشر، أتقن سحر الكلمة المرفقة بتوجه ديني إيديولوجي، ونهج اقتصادي ليبرالي كي ينتقل من عمادة إسطنبول (1994 – 1998) إلى رئاسة الحكومة (2003 – 2014) محققا نقلة نحو “تركيا الجديدة” أي جمهورية تستمد أساس نهجها من أتاتورك، ولكن مع تفصيلها على قياس سلطان جديد هو أردوغان. بيْد أن النجاح الداخلي النسبي لم يترافق مع نجاح إقليمي يبلور “عثمانية جديدة” تحاشى الزعيم التركي الاعتراف بالسعي إليها، لكن كل ممارساته كانت تشي بذلك.
من خلال تجاوز مرحلة أربكان، تمكن أردوغان من خلال حزب العدالة والتنمية، الإسلامي المحافظ و”العلماني”، في آن، أن يعيد الإسلاميين الأتراك إلى قلب المعادلة السياسية. وكان الاتحاد الأوروبي خير نصير له في التدرج الديمقراطي ومواجهة المؤسسة العسكرية وغُلاة الكماليين وسعيه لحل المشكلة الكردية. نظرا إلى ضحالة القيادات المعارضة وإلى الغزل مع الأكراد، تمكن أردوغان مع عبدالله غول وداوود أوغلو من إنجاز نجاح اقتصادي مشهود (العقوبات ضد إيران ودور الوسيط أسهما في ذلك) لكن أحداث “تقسيم” في 2013 كشفت استمرار الصراع حول تطوير الديمقراطية، وبدء مرحلة صراع جديد حول الهوية الملتبسة لتركيا بين الإسلام والغرب والإرث العثماني.
من الحلم الأوروبي بعيد المنال، نقل أردوغان بلاده إلى قلب اللعبة شرق الأوسطية وعينه على العالم العربي “الرجل المريض في بداية القرن”، وكأنه يريد ضخّ أكسير القيادة الإسلامية في عروق بلاد خبت إمبراطوريتها منذ قرن، بسبب رغبة العرب في التحرر. روّج أردوغان بدهاء لموقع تركيا، وأراد منافسة إيران في الموضوع الفلسطيني، وراقب شارعا عربيا يفتش عن أبطال بالوكالة.
على ضوء التحولات العربية منذ 2011، سرعان ما تلاقى المشروع التركي المتبلور مع أردوغان والهادف إلى استعادة النفوذ المفقود، مع مشروع الإخوان المسلمين الذي حاول تحويل “الربيع العربي” إلى “ربيع إسلامي” ولكن الحسابات أخطأت انطلاقا من الحالة المصرية وسرعان ما تراجع المشروع.
سارت رياح الإقليم عكس ما تشتهي أنقرة، لأن الاقتصاد الإقليمي المهيمن (نظرية داوود أوغلو عن تركيا “برازيل الشرق الأوسط”) أو تصفير المشاكل لم يصمدا أمام العواصف الهادرة. وهنا انغمست تركيا في الحرب السورية ودعمت الأكراد في وجه حكومة بغداد. كما تماهت حكومة أردوغان مع إخوان ليبيا وسوريا ومصر. وقد قامت أنقرة بكلّ ذلك أملا في أن تصبح القوة الإقليمية الأولى.
وحتى الآن يبدو الحصاد محدودا والنتيجة عكسية، إذ يطغى التوتر على العلاقة مع مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، ويسود الحذر مع المملكة العربية السعودية. ومع أن العلاقات الاقتصادية مع إيران بقيت متينة، إلا أن انقرة تجد نفسها في حروب بالوكالة في سوريا والعراق. إذن باستثناء قطر وبعض أكراد العراق، تجد تركيا نفسها شبه منعزلة في جوارها، خاصة أن العلاقة التركية- الإسرائيلية شبه مقطوعة، بعدما كانت مركزية للطرفين حتى 2002.
تتفاقم الحصيلة بالنسبة إلى المحيط الإقليمي مع تمركز “داعش” على حدود تركيا، ونسبة الحرج الكبيرة لأن الدول الغربية تآخذ عليها مرور مئات المقاتلين الأجانب عبرها نحو سوريا، بينما تتكلم مصادر تركية عن تغاضي العالم عن وصول آلاف المقاتلين من الخط الموالي لإيران إلى سوريا. ويزداد الإحراج التركي مع وجود خمسين رهينة تركية بيد داعش منذ معركة الموصل.
راهن البعض على أن يكون التحالف الدولي ضد داعش فرصة ذهبية للثنائي أردوغان- أوغلو من أجل إصلاح العلاقات مع أوروبا والغرب، وعدم إعطاء الأولوية للبعد شرق الأوسطي في السياسة الخارجية، لكن رفض أنقرة الانخراط في التحالف بعد اجتماع جدة في 11 سبتمبر، يدل على أن “السلطان أردوغان”، له حسابات أخرى لا تصب ضرورة في خانة تعزيز نفوذ بلاده. إنه تعبير عن تبرمه من عدم لعب دور الشريك الضروري والأساسي لواشنطن في الإقليم.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب