خاص بـ”الشفاف”
لمناسبة الذكرى الـ23 لفوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2002، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن حكوماته كانت “الأكثر نجاحًا في تاريخ تركيا”. قليلون من يجرؤون على الاعتراض: فإعادة تعريف “النجاح” على أنه “القدرة على البقاء” هو فن بحد ذاته. ولو كان الفقر رياضة أولمبية، لكانت تركيا قد وقفت على منصة التتويج لسنوات، متقلدةً ميدالية ذهبية مصنوعة من النحاس!
بينما كان الرئيس يتحدث عن “معجزاته الاقتصادية”، كان باقي الشعب مشغولًا بعدّ النقود المعدنية، لا الإنجازات. التضخم، ذلك العدو الوهمي الذي لا يموت أبدًا، ما زال يتجول بحرية. ووزير الخزانة والمالية “محمد شيمشك” يواصل حملة التفاؤل، معلنًا بفخر عن “التقدم”. وقد يكون على حق — على الورق على الأقل. أما في الواقع، فالإيجارات تحلق في السماء، والخضروات أصبحت سلعًا فاخرة، وكل زيارة إلى السوق باتت كزيارة إلى متحف للسلع غير القابلة للشراء.
في بلدٍ وَعدَ ذات يوم بأن “لا أحد سيذهب إلى النوم جائعًا”، أصبح الإفطار نفسه امتيازًا طبقيًا. طفل يبلغ 14 عامًا يموت في ورشة بناء، وحارس يبلغ 69 عامًا يموت وهو لا يزال يعمل. في تركيا أردوغان، الشباب رفاهية، والتقاعد أسطورة.
كيمياء الأرقام
كان المعهد التركي للإحصاء (تويك)Turkish Statistical Institute (TÜİK) في الماضي مكتبًا متواضعًا تعبّر فيه الأرقام عن أشياء ملموسة فحسب، لكنه تطوّر على مر السنين إلى ما يشبه مصنعًا للمعجزات. فهو اليوم يؤدي تحولات تستحق رتبة المعجزات: فهو يحوّل الألم إلى تقدم، والأزمة إلى مخططات بيانية، والجوع إلى انسجام. وفي كل شهر، يقدّم كتابه المقدّش بدقة شبه إلهية: في أكتوبر، ارتفع التضخم بنسبة 2.55٪ على أساس شهري و32.87٪ على أساس سنوي. هللويا! يبدو أن الخلاص أصبح يُقاس الآن بالنقطة العشرية.
لكن هذه “المعجزة الاقتصادية” لا تكافئ إلا من لا يدخل السوق أبدًا. أما البقية — أولئك الذين يشترون الخبز أو البصل أو زجاجة زيت الطهي — فالتجربة بالنسبة لهم تكاد تكون كُفراً. إيصال الصراف أصبح النص المقدس الجديد، وهو يروي نبوءة مختلفة تمامًا.
الاقتصاديون المستقلون — أولئك الذين ما زالوا يدورون في مدار الواقع لا في مجرة تويـك — يروون قصة أقل قداسة. فـ”مجموعة أبحاث التضخم” (إيناغ) Inflation Research Group (ENAG)، التي تتعقب الأسعار يوميًا في الزمن الحقيقي لا في الزمن السياسي، تشير إلى أن التضخم الفعلي في أكتوبر بلغ 3.74٪ شهريًا ونحو 60٪ سنويًا. الفجوة بين وحي “تويـك” وحسابات “إيناغ” لم تعد إحصائية؛ بل أصبحت ميتافيزيقية. “تويـك” يبشر بالإيمان، و”إيناغ” يسجل الجوع. أحدهما يتحدث بلغة المعجزات، والآخر بلغة الأسواق.
الفرق بين 32٪ و60٪ قد يبدو مجرد رقم، لكنه يرسم الحدود بين الراحة والانهيار. إنه يفرق بين من يناقشون التضخم في استوديوهات مكيفة، ومن يعيشونه في مطابخ خانقة. فالأمر لم يعد مجرد اقتصاد — بل عقيدة. المؤمنون يصدقون النص المقدس؛ والجائعون يعرفون الحقيقة.
وخلف تلك الأرقام المصقولة يختبئ اقتصاد يلهث وسط تناقضاته. الإنتاج يعرج، والتفاؤل يركض. في المصانع، ربع الآلات صامت، شاهدٌ على التدهور خلف الشعارات. الدين الخارجي للقطاع الحقيقي تجاوز الآن 350 مليار دولار، جبل من الديون يلقي بظله على كل وعد بالنمو. كلما عطست الليرة، يصاب الاقتصاد بالتهاب رئوي.
أما الزراعة، التي كانت يومًا فخر الأناضول وشِعرها، فتتقلص أسرع من ضمير سياسي قبل الانتخابات. إنتاج القمح تراجع؛ وبساتين بحر إيجة وسهول قونية تهمس بحكايات الإهمال. المزارعون يبيعون أراضيهم لشراء الأسمدة؛ والبلد الذي كان يصدر الفاكهة أصبح يستورد نِعمةَ الصبر.
ومع ذلك، يصر كل من يقف على المنابر الرسمية، بإيقاع ثابت، على أن “تركيا تنمو”. ربما هذا صحيح — لكن ليس بالطريقة التي يقصدونها. إنها تنمو في الإرهاق. تنمو في السخرية. تنمو في اعتياد مشاهدة معجزات لا تطعمها.
في النهاية، قد يكون تويـك محقًا في شيء واحد: الأرقام لا تكذب أبدًا.
إنها فقط تتعلم، مع مرور الوقت، لِمَن تستطيع (ولمن لا يحق لها) أن تقول الحقيقة.
عِملة الوهم
إذا كان هناك رسم بياني واحد يروي القصة الكاملة لتحوّل الاقتصاد التركي — من معجزة إلى سراب — فهو رحلة الليرة التركية نفسها. في عام 2002، عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كان الدولار الأميركي الواحد يساوي 1.6 ليرة فقط، وكان “اليورو” يكلّف نحو 1.5 ليرة. آنذاك، كانت الحكومة الجديدة تتفاخر بـ«العملة القوية» التي ترمز إلى الثقة والإصلاح والقطيعة مع الماضي التضخمي.
لكن، بعد 23 عامًا، أصبحت تلك الليرة الفخورة عملةً خاضت حربًا طويلة وخسرت معظم معاركها. فبحلول ديسمبر 2025، أصبح الدولار الواحد يساوي نحو 37 ليرة، وتجاوز اليورو حاجز 40 ليرة. الورقة النقدية التي كانت تدفع ثمن عشاء عائلي لم تعد تكفي اليوم سوى لشراء رغيف خبز وتذكرة باص.
كل عام مرّ جاء معه تبريرٌ جديد: أزمات عالمية، مؤامرات على أسعار الفائدة، «لوبيات أجنبية»، أوبئة، حروب، وأخيرًا «القوة الغامضة للنموذج الاقتصادي التركي الفريد». لكن النمط بقي واضحًا — بينما تتأرجح العملات الأخرى صعودًا وهبوطًا، تتخصّص الليرة في السقوط الحر. لم تعد تنافس في القيمة، بل في سرعة الانهيار.
لقد أعادت الليرة رسم الخطوط الطبقية بصمت. فقد خلقت جزيرة صغيرة من المترفين الذين يتقاضون رواتبهم بالعملات الأجنبية — دبلوماسيون، ومصدّرون، وقلة محظوظة تتقاضى بالدولار أو اليورو — تديحيط بها بحرٌ من المواطنين الذين تتبخر أجورهم أسرع من آمالهم. أصبحت الأدوية المستوردة، والوقود، وحتى حليب الأطفال من الكماليات؛ أما السفر إلى الخارج، فتحوّل إلى حلم طبقي بعيد المنال.
في تركيا الجديدة هذه، لم يعد سعر الصرف مجرد رقم — بل مرآة. كل صفر يُضاف إلى ضعف الليرة يعكس وعدًا مكسورًا، وسياسةً منقلبة، وحياةً صارت أضيق. الليرة لا تزال تحمل صورة أتاتورك، لكنها لم تعد تحمل روحه. فهي تعيش على الشعارات لا على الاستقرار.
ومع ذلك، لا تزال الأصوات الرسمية تصف هذا بأنه تقدم. يقولون: «الاقتصاد التركي متين». حقًا — لا بد أنه كذلك. فالبقاء على قيد الحياة كل هذا الوقت في مواجهة عِلم الحساب نفسه يتطلب صلابةً تكاد تبلغ حدّ المعجزة.
الخبز، والزيت، وأسطورة الوفرة
لقياس التقدم الاقتصادي في تركيا، لا حاجة للمواقع التي تنشر البيانات الإقتصادية أو لجداول “تويك” الغامضة. الإجابة واضحة على طاولة المطبخ — في سلة الخبز، أو ما تبقى منها.
في عام 2002، حين وصلت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كان سعر رغيف الخبز أقل من ليرة واحدة. كان أكثر الأطعمة ديمقراطية: لا أحد يُحرم منه، ولا أحد يتباهى به. اليوم، يبلغ سعر الرغيف نحو اثنتي عشرة ليرة. في بعض المخابز، أصبح يُعامل كسلعة فاخرة متوسطة الثمن، لا كحاجة يومية. لقد تحوّل الخبز — الأساس المقدس لكل وجبة تركية — بصمت إلى مؤشرٍ على الانحدار.
البصل والبطاطس، أبسط المواد الغذائية، التي كانت تُشترى بالأكياس، باتت تُختار واحدةً واحدة كأنها قطع أثرية هشة. لم تعد ربّات البيوت يسألن: “كم كيلو؟” بل “كم يمكنني أن أشتري اليوم؟” وعندما يصبح سعر البصل عنوانًا لنشرات الأخبار المسائية، فالمشكلة ليست في المزارعين — بل في صُنّاع القرار.
أما زيت الزيتون، الذي كان يومًا رمزًا هادئًا لوفرة البحر الأبيض المتوسط، فقد أصبح الآن يلمع على رفوف المتاجر كسلعةٍ فاخرة. الزجاجات أصغر، الأسعار أكبر، والمستهلكون ابتكروا طقوسًا جديدة للتقشف — يشترون نصف لتر بدل لترين، يقتصدون في الملاعق أثناء الطهي، ويمدّدون كل قطرة كما لو كانت عطرًا. الزيت الذي جمع بين الثقافة والمطبخ والراحة، أصبح اليوم رمزًا لأناقةٍ مستسلمة: طبقةٌ وسطى تتظاهر بالوفرة بينما تعدّ الملاعق.
قبل عقدين، كانت العائلات تُعدّ موائدها بلا حساب. اليوم، كل وجبة تحتاج إلى عملية حسابية. أصبحت زيارة السوق اختبارًا أخلاقيًا للصبر. تسمع بين الممرات عباراتٍ من السخرية الهادئة — “يقولون إن التضخم ينخفض” — وكأن تكرارها قد يجعلها حقيقة.
تُصرّ الحكومة على أن الأسعار “تستقر”. وربما هي كذلك — عند مستوياتٍ جديدة، مستحيلة. تُظهر الرسوم البيانية الرسمية نوعًا من الاعتدال؛ أما الواقع فيسخر منها. الخبز، البصل، البطاطس، زيت الزيتون — كلها تروي القصة نفسها: بلد لم يعد يتغذى من إنتاجه، بل من دعايته.
وفي الوقت نفسه، يزداد بريق القصر أكثر من فرن الخباز. قاعاته مصقولة، موائده عامرة، ورسائله ثابتة: “الأسوأ قد مضى.” ربما. لكن الأسوأ، مثل التضخم ذاته، تعلّم أن يتبعنا.
في النهاية، لم تعد قصة الخبز والزيت قصةً عن الطعام — بل عن الإيمان. الإيمان بأن الرفوف ستمتلئ يوماً من جديد، ةبأن الأرقام ستستعيد معناها يومًا ما، وبأن الكرامة يمكن أن تُشترى باللتر، لا بالقطرة.
إعادة تعريف “الازدهار”
في تركيا اليوم، أُعيد تعريف “الازدهار” — ليس كفنّ العيش الجيد، بل كقدرةٍ على تحمّل العيش الأسوأ. وفقًا للمنطق الرسمي، كلما زاد كفاح المواطنين، ازدادت “مرونة” الأمة. تمّت مصادرة المعاناة، وتلميعها، وتسويقها كقوة. كل مشقة هي اختبارٌ وطني، وكل محفظة فارغة وسامُ صبر.
منذ يناير، تبخرت القدرة الشرائية للحد الأدنى للأجور بفارق أكثر من ستة آلاف ليرة، أي أسرع من وعود الحكومة بالإصلاح. الأجور ترتفع، لكن الأسعار تركض. أدنى 20% من السكان يكسبون بالكاد ما يعادل خطأً إحصائيًا، لكنهم ينفقون قرابة ثلث دخلهم الضئيل على الطعام فقط. الطبقات العليا تتجادل حول الأجبان المستوردة؛ الطبقات الدنيا تتجادل حول شراء البيض أم البصل.
أما “تويك”، فلا تزال تحرس “قوائم أسعارها التفصيلية” كما لو كانت أسرارًا نووية. الأحكام القضائية تطالب بالشفافية، لكن المؤسسة تلتزم صمتًا مقدسًا، تخفي البيانات الخام التي قد تكشف الفجوة بين الحسابات والبطون. تُصرّ أن كل شيءٍ على ما يُرام، وربما في جداولها هو كذلك — فالجداول لا تشعر بالجوع.
ومع ذلك، حتى الأرقام المصقولة لا تستطيع إخفاء الحقيقة. أسعار المنتجين ارتفعت بنسبة 27% خلال عام؛ وتكلفة إمدادات المياه وحدها قفزت بنسبة 56%. الكهرباء، والنقل، والوقود أصبحت كوابيس متكررة للطبقة الوسطى، بينما تلتهم أسعار الغذاء ما تبقى من كرامة الطبقة العاملة. عندما يصبح الإنتاج نفسه غير ممكن، يبدو الاستهلاك جريمة.
وهكذا، تتشكل لاهوتية اقتصادية جديدة: إذا استهلك الناس أقل، سينخفض التضخم — ببساطة لأن لا أحد قادر على الشراء. إنها سياسة التقشف عبر الإبادة الاقتصادية، توازنٌ يتحقق من خلال الحرمان. الأسواق مليئة، لكن الجيوب فارغة.
في هذا النظام الغريب، لم يعد “الازدهار” يعني النمو — بل الطاعة. يُطلب من الفقراء أن يتحلوا بالصبر، ومن العمال أن يفخروا، ومن الجياع أن يشكروا لأن لديهم إحصاءات يتغذون عليها. وبينما تحتفل الأمة بـ”مرونتها”، تنسى أن المرونة، حين تُمدّ أكثر من اللازم، تبدأ في التشبه باليأس.
انتصار الانحدار
وهكذا تكتمل الدائرة. أردوغان ليس مخطئًا تمامًا — حكومته تاريخية فعلًا. لقد حققت ما لم تحققه أي إدارة من قبل: تحويل الانحدار إلى عقيدة. الفقر أصبح وطنية، والصبر فضيلة، والتحمّل أيديولوجيا.
بعد ثلاثةٍ وعشرين عامًا، لا تزال البلاد قائمة — لكن بحكم لعادة أكثر منه بالإرادة. الإحصاءات تتلألأ، الخطابات تحلّق، والشعارات تتكاثر. وفي المقابل، الشعب يسقط — برشاقة، بطاعة، وبالمنطق الإحصائي ذاته.
سعر الخبز يروي القصة أفضل من أي وزير. لقد ارتفع اثنتي عشرة مرة منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. إنه شكل من العدالة الشعرية: الرغيف نفسه الذي كان رمزًا للرخاء أصبح اليوم نصبًا ساخرًا للانحدار.
نعم، تركيا ترتفع — لكن ليس كما تُظهر الرسوم البيانية. الخطابات تصعد، الأرقام تصعد، الأسعار تصعد.
فقط الحياة، على ما يبدو، هي التي تواصل الهبوط.
*يوسف كانلي هو رئيس التحرير السابق لجريدة “حريت” بالإنكليزية
