ديوان تأخر أربعين عاماً يظهر في مجلة “الكلمة” هذا الشهر
نشرت مجلة “الكلمة” في عدد يوليو 2010 للشاعر المصري فرانسوا باسيلي “تراتيل الهزائم الجميلة” – ديوان تأخر أربعين عاماً”، وقد قدم الناقد الكبير د.صبري حافظ الديوان لقراء “الكلمة” قائلاً:
“هي تراتيل خص بها (الكلمة) الشاعر المصري المرموق، تمثل جزءا مهما من تجربة البدايات. يرغب الشاعر من خلالها كتابة الحنين لاستعادة الزمن الجميل الذي تركه يوما خلفه بدون رجعة، وهي شهادة أيضا على مرحلة وتاريخ لايزال يعتمل في الذاكرة. وحين يستعيدها شاعرنا اليوم، فلرغبة استرجاع تلك القيم ونبلها لاستشراف المستقبل، ولعلها نفس قيم “الكلمة” وهي تستأنف الصدور من جديد.”
وفي المقدمة يقول الشاعر: “فى هذا الديوان أضم عددا من قصائدي المبكرة التى كتبتها فى نهايات الستينيات وأوائل السبعينيات بعد هزيمة ٦٧ المروعة وقبل إنتصار العبور الباهر،
وانشرها الآن كشهادة تعبر عن روح تلك الفترة- فترة احتضار ما يشير إليه الكثيرون بالزمن الجميل، وأسميه أنا زمن الهزائم الجميلة.
“فالمحزن حقا هو أن ذلك الزمن بكل هزائمه و آلامه يبدو الان الأكثر جمالاً و نبلاً و بهاء مقارنةً بما تهاوت إليه احوال مصر و المنطقة اليوم . فالهزائم علي مرارتها كانت كبوات الفارس النبيل و احلامه الجميلة، كانت هي خيبات العشاق المتيمين التي تلفها رايات الشوق للحرية و النهضة، كانت تقطر شهداً مع كل قطرة مر، كان لها شرف المحاولة وعزة التوق وعنفوانه.
“لم تكن هزيمةً للروح ولا للحلم..كما هي اليوم لدي الكثيرين.”
وبالديوان قصائد تكاد أن تكون قد كتبت للتعبير عن الحاضر المأساوي في مصر، كهذه القصيدة التي تنطبق علي مأساة الشاب الشهيد خالد سعيد الذي حاول البعض في الداخلية المصرية تشويه سيرته واتهامه بأنه قتل نفسه!:
حادثة
أطلقوا رصاصهم
في الليل
سقطت فوق جبهتي
وملت فوق حافة الجدار
وفي الصباح
بعدما شربت قهوتي
رأيت في جريدة النهار
جثتي
وقرأت:
أصيب أمس في حادثة قطار –
سعيكم مشكور
……………..
وتختلط في الديوان عواطف الحب الخاصة بين الشاعر ومن أحبها قلبه ومشاعر الضياع الهائل لوطن بأكمله في كارثة 67 ويقول الشاعر مقدما إحدي قصائده:
رأى الرجال تهرول فى شوارع القاهرة والدموع على وجوههم غزيرة، انتهى عبد الناصر لتوه من خطابه المزلزل الذى أعلن فيه خبر هزيمة عسكرية هائلة، وضياع مساحة عظمى من الأراضى العربية، وسقوط الحلم العربى سقوطا كوني الأبعاد، وصدم الشاعر الشاب، وهو يعيش هذا الكابوس أمام شاشة التليفزيون مع مئات من المتزاحمين فى مقهى بحي (الدقى) المجاور لجامعة القاهرة، التى يتخرج فيها هذا الصيف(1967) ، وخرجت الجموع مندفعة للشوارع تتخبط فيها كالأمواج فى ضياعها الوجودي العظيم، بعد انقطاع حبل الرحم الذى كان يصلها بأمل الغد ومجد الماضى معا.
فجع الشاعر الشاب فى أعظم ما يمكن أن يفجع فيه إنسان مثله: ليس فى شخص قريب أو حبيب، وإنما فى وطنه بأكمله، فى جماع الناس والبشر من حوله الذين يمنحونه المكان والزمان والمعنى والأمان، فى الزعماء والأدباء والشعراء، فى الأناشيد والأعياد والأمجاد، في الثورات والانتصارات، فى كل ماهو واعد وجميل ومبشر فى حياته، فى تاريخه ومستقبله.
العام والخاص
ومما زاد من عبثية هذه الفجيعة أنها جاءت متزامنة مع قصة حب عميقة مليئة بالفرح والوعود الجميلة وأهازيج الأمل والعناق، فقد أرسل الشاعر قبل أيام من كارثة الخامس من يونيو ـ حزيران ـ خطابا إلى من أحبها قلبه، فلسطينية تقيم فى عمان بالأردن، يصرح لها لأول مرة بمشاعر ه نحوها، وهكذا وجدت (سعاد) نفسها تتسلم رسالة من صديقها الذى قابلته لفترة، وراسلته لمدة، يدعوها فيه لمشاركة حياته، فى نفس الأسبوع الذى يكتمل فيه ضياع وطنها فلسطين، وهاهو الحب يفتح طاقة فى توقيت غير ملائم أبدا. فيمتزج الألم العام بالأمل الخاص، فى عناق أليم ملئ بالذنب والغضب والأسى والتوثب، هكذا تكتب له فى ردها عليه. تبادله مشاعره فيعيشان لحظة زمنية بالغة الانفصام، ينهار فيها عالمهما الخارجي فى مصر وفلسطين انهيارا عظيما، بينما يبدأ عالمهما الداخلي فى بناء عالم مسحور من الحب والأمل والتطلع، ويعبر الشاعر عن هذا فى قصيدة ينشرها له الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش فى مجلة الهلال ـ يناير1970م بعنوان (البكاء فى عرس العالم) ومنها هذا المقطع:
………………………..
البكاء فى عرس العالم
(إلى س. د. الآتية كالفرح إلى دموع العالم)
………………
لو تضفرين مثليَ الأشواك حول جبهتي
لو تشربين كأسي المرير
لو تحملين- مثلما حملتُ- كوكب الدمار
وتفرحين بالأسي، وتنذرين عرسنا للنار
لو يسقط الإزار
عن جسمك الإله، تعبرين آخر الأسوار
وتدخلين عالمي الضائع بين الأرض والسماء
فتمنحين الحب والجفاء
وتصبحين توأمي
وأول الأعداء
لو تشردين فى أنحاء الأرض تبحثين عن وطن
لكنتِ انتِ زوجتي التى عرفتها فى أول الزمن
وآخر الزمن
…………..
في ذلك الزمن كان الشاعر يشعر بالغربة في وطنه، قبل أن يهاجر ويعاني الغربة مضاعفة خارجه:
فليكن
شعري خروجاً من كفن
صدراً رحيباً يحتضن
من بلا أرض ولا مأوى، ومن
يحيا غريباً في الوطن.
1968
………………………..
في الديوان صرخات الروح وجعاً لهزيمة 67 مصحوبة بلهاث الركض لانتشال الحلم وأمل الولادة الجديدة فيقول في “احتفال سيد الحب بسفك دمه”:
في العرى
في صراخ الشعب
في التضرع المرفوع
أجيء
حيث تستقر الشمس فوق صدري
قلادة
وتملأ النجوم جيبي المقطوع
أجيء
حيث تركض الأشجار والأنهار
حيث ينهض الينبوع
محملا بالدمع
حيث تخفض الجموع
رأسها
للقمع
أنحني
وأرفع الجموع
كالشمع، كاللهيب في يدي
وألبس الجموع
أجيء ، لا أجيء في زمانك المخلوع
يا زهرة الأمم
كل البلاد أمطّرت
منَّا وسلوى
أمطرت
وأنت لم .
……….
أطوف في بلادي َ
مخضبا
مرفرفا كالروح
ناشرا ثوبي على الرياح
غارسا
شريعتي على السفوح:
اليوم من دمي تولد مصر طفلة
ويخرج الرمح من الجروح
………………………………
ويمكن قراءة “تراتيل الهزائم الجميلة ” في مجلة “الكلمة” في موقعها: