عندما صمم بعض الزعماء العرب على أن يكون “بترول العرب للعرب” تبخروا، وعندما حاول مصدق إيران تغيير قواعد اللعبة في سوق الطاقة، جرى إبعاده. هكذا بدل أن يكون النفط نعمة ومصدر قوة، كان، غالبا، نقمة جعلت المنطقة العربية والشرق الأوسط مسرح مطامع كبار المستهلكين. ومنذ سنوات مع تحول الغاز الطبيعي إلى سلعة رئيسية في سوق الطاقة نرى تمركز صراعات وتجاذبات من روسيا وآسيا الوسطى، إلى إيران وقطر وشرق المتوسط، وذلك بموازاة دخول الغاز الصخري الأميركي على الخط. ومن هنا تشكل الإحاطة بديناميكيات إنتاج الطاقة وحاجات القوى الصناعية الكبرى من الصين والهند واليابان، إلى دول الاتحاد الأوروبي، مدخلا لفهم الاستراتيجيات الدولية والتوازنات قيد البلورة في ظل مناخ حرب باردة متجددة وغياب الحوكمة والزعامة في المنظومة الدولية.
منذ حرب أكتوبر عام 1973 واستخدام العرب لسلاح النفط، قررت واشنطن تغيير إستراتيجيتها كي تكرس هيمنتها الإقليمية وسبقها الدولي (السيطرة على البحار ومنابع الطاقة وممراتها). وقد أثار “التحدي العربي” العم سام إلى حد كشف وثيقة سرية بريطانية عن تفكير الولايات المتحدة الجاد، حينها، في إرسال قوات محمولة جوا للسيطرة على حقول النفط في المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات خلال الحظر على صادرات النفط الذي فرضته الدول العربية عام 1973 خلال حرب أكتوبر. وما لم يحصل حينها تم تحقيقه لاحقا إذا تابعنا الرعاية الأميركية لمسار الأحداث التاريخي من الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينات، إلى حرب تحرير الكويت في بداية التسعينات، وحرب العراق عام 2003.
تميزت السياسة الأميركية التقليدية حيال الشرق الأوسط بأبرز ثوابتها وهي حماية أمن اسرائيل وحماية أمن الطاقة، ولذا كان للرياض وزنها الدائم في الحسابات الأميركية، ولم يتأثر ذلك بالعلاقة الحميمة بين واشنطن وطهران الشاه. واليوم على ضوء الصراعات المحتدمة من أكرانيا إلى البحر الأحمر وبلاد الشام، تبرز من جديد أهمية الطاقة في حروب اليوم، ويبدو الدور السعودي مركزيا للدفاع عن المصالح الذاتية في لعبة السوق، مع أن البعض يلمح إلى استخدام سلاح النفط من جديد في مواجهة التحدي الإيراني والروسي، كما في مواجهة الإهمال الأميركي.
بالرغم من الحروب والصراعات المستعرة في ليبيا واليمن والعراق وسوريا، وخلافا للعادة في زمن التوتر، يستمر انخفاض أسعار البترول ووصل سعر البرميل هذا الأسبوع إلى 83 دولارا، وهو أدنى مستوى خلال أربعة أعوام، والتفسير الواقعي يعزو ذلك إلى الزيادة الكبيرة في العرض، واستمرار المنحى التصاعدي للدولار. بيْد أن خبراء اقتصاديين ومحللين سياسيين يفترضون وجود قرار من المملكة العربية السعودية يقضي بزيادة إنتاج النفط كوسيلة ضغط على إيران، التي تحاول زيادة إنتاجها لتغطية العجز الحاصل في اقتصادها، ويذهب البعض إلى حد الكلام عن ترتيب أميركي- سعودي للضغط أيضا على روسيا التي تعاني من العقوبات الاقتصادية الغربية.
يمكن افتراض استخدام الرياض سلاح الطاقة في وجه طهران، حيث أن الحرس الثوري الإيراني له حصة في قطاع النفط، مما سيؤثر على ميزانيته للعمليات الخارجية. لكن انعكاس الانخفاض السلبي على الاقتصاد الإيراني (الذي يعاني أصلا من وطأة العقوبات الدولية المفروضة عليه) يمكن أيضا أن تتضرر منه الرياض واقتصادها، ولا يعتقد أن ربط الأمر بالاشتباك الإقليمي هو ربط منطقي.
نتيجة ارتفاع إنتاجها من النفط الصخري انتزعت الولايات المتحدة الموقع الأول في الإنتاج متقدمة على روسيا والمملكة السعودية، وهذا الانقلاب في خارطة الإنتاج بالإضافة إلى احتمال العودة القوية لإيران في حال رفع العقوبات عنها، زاد من البلبلة في السوق، وهذا يفسر رفع السعودية إنتاجها خدمة لمصالحها الاقتصادية في المقام الأول. تحرص الرياض على حفظ حصتها في الإنتاج لضمان دورها المركزي في منظمة أوبك.
وفي سياق قراراتها ونتيجة اعتمادها، أكثر فأكثر، على الأسواق الآسيوية، لا يستبعد أن تكون الرياض قد قررت استهداف صناعة النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة، إذ أن السعر المنخفض للنفط سيعطل الاستثمار لفترة (مقابل أقل من خمسة دولارات لاستخراج برميل الخام، يكلف برميل النفط الصخري استخراجا ونقلا حوالي 80 دولارا).
لكن العامل السياسي في القرار السعودي غير مستبعد تماما، نتيجة تزامن انخفاض أسعار البترول مع ازدياد التوتر الجيوبولوتيكي في المنطقة، وتقدم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وما يجري في اليمن من تقدم أنصار إيران نحو البحر الأحمر وباب المندب.
من خلال رفع الإنتاج وخفض الأسعار، تعتمد الرياض إستراتيجية تحاول من خلالها الحد من اندفاع قطاعي النفط والغاز الصخري المنافسين، أما الأهداف السياسية فأبرزها الضغط على إيران التي كانت عادة تطالب برفع الإنتاج، أما الآن فهي تطالب بخفضه لتحسين الأسعار وعدم تأثر ميزانيتها.
وفي هذا السياق يمكن أن يكون لبعض الدوائر الأميركية دور في محاولة الضغط على روسيا (التي تستخدم بدورها سلاح الغاز في أوروبا) من خلال زيادة الإنتاج والتصدير للخارج والضغط على مواردها النفطية. أما الصين التي تعتبر المستورد الأول لطاقة الخليج، فأخذت تسجل حضورا عسكريا مع إرسالها منذ فترة بسيطة مدمرتين إلى إحدى الموانئ الإيرانية.
إزاء هذه التحولات في سوق الطاقة، ومعركة واشنطن ضد “داعش”، واختبار القوة مع روسيا، يمكن لواشنطن التمسك بوجودها في الشرق الأوسط الكبير إلى جانب استدارتها نحو المحيط الهادئ وآسيا، وربما تهدف من وراء الصفقة المرتقبة مع إيران إلى إعادة رسم استراتيجيتها كي تبتعد طهران عن موسكو، مقابل اكتفاء إيران بلعب دور الشرطي الإقليمي في جوارها القريب والابتعاد عن إسرائيل والبحر المتوسط. إنها مفاتيح اللعبة الكبرى المستمرة التي لن تتفكك ألغازها وأسرارها بسرعة، والتي تحاول الرياض وشقيقاتها ألا تكون من ضحاياها.
khattarwahid@yahoo.fr
العرب
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس