يبدو أن الرئيس الفلبيني الحالي بونغ بونغ ماركوس يبتعد يوما بعد يوم عن سياسات سلفه رودريغو دوتيرتي المهادنة للعملاق الصيني. ونجد تجليات ذلك، ليس فقط في قيامه بتنشيط علاقات مانيلا الدفاعية مع الحلفاء الغربيين التقليديين، وإنما أيضا في مضاعفته لحجم التعاون الاستراتيجي مع الدول الاقليمية ذات السياسات المشابهة حيال تعاظم النفوذ الصيني في المياه المجاورة.
وعلى هذا الصعيد تبرز فيتنام كلاعب محوري في استراتيجية مانيلا الاقليمية وكحليف إقليمي موثوق، خصوصا وأن لهانوي علاقات تاريخية متوترة مع بكين، ناهيك عن حقيقة أن الفلبين وفيتنام يجمعهما نزاع مشترك مع الصين حول السيادة على بعض الجزر في بحر الصين الجنوبي. أضف إلى ذلك أن البلدين يتبنيان نفس المواقف المتشدة إزاء الصين في “منظمة آسيان”، خلافا لمواقف بقية الدول الأعضاء التي تهادن العملاق الصيني وتخشى مواجهته. والجدير بالذكر أن هانوي كانت من أكثر الدول تأييدا ودعما لمانيلا للفوز بقرار التحكيم التاريخي ضد الصين في لاهاي سنة 2016م.
في نهاية شهر مايو المنصرم عقد ماركوس اجتماعه الثالث، منذ وصوله إلى السلطة العام الماضي، مع رئيس وزراء فيتنام “فام مينه شينه”، وذلك على هامش القمة 42 لقادة آسيان في أندونيسيا، حيث تعهد الزعيمان بتعزيز التعاون الاستراتيجي بين بلديهما في بحر الصين الجنوبي بهدف منع أي احتكاكات بين سفن الصيد الفلبينية والفيتنامية من جهة، والعمل معا من جهة أخرى لحماية حقوقهما ومصالحهما في مواجهة الصين بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS).
وسرعان ما بدأ الجانبان العمل من خلال مجموعة مشتركة دائمة مكونة من مسؤولين عن خفر السواحل والأمن القومي والدفاع الوطني والثروة السمكية والموارد المائية، أنجزوا مدونة سلوك ثنائية جوهرية بشأن الأنشطة التعاونية في بحر الصين الجنوبي، شاملة حماية البيئة والبحث والانقاذ والتعاون العلمي والتصدي للتسربات النفطية.
وهكذا نجد أن هانوي ومانيلا تحاولان مجددا بناء محور داخل وخارج منظمة آسيان ضد ما يسمى بالهيمنة الزاحفة للصين وعسكرتها للمياه المجاورة، من بعد أن تجمد تعاونهما الاستراتيجي عدة سنوات إبان وجود دوتيرتي المؤيد لبكين في السلطة في مانيلا، والذي كثيرا ما قلل من أهمية النزاعات البحرية مع الصين، وقام بإزدراء نظرائه الفيتناميين، بل رفض استضافة أي منهم طوال فترة رئاسته.
وبطبيعة الحال فإن أجواء التحالف والتفاهم والتعاون هذه بين البلدين نقيضة تماما لما كان بينهما زمن الحرب الباردة حينما كانت مانيلا إحدى أقوى حلفاء واشنطن الآسيويين في الحرب الفيتنامية، بينما كانت هانوي تصف مانيلا بالعمالة للولايات المتحدة والتآمر مع قوى الغرب الرأسمالية ضد حركات التحرر والاستقلال الوطني. وهو ما يؤكد أن سياسات الدول تتغير بتغير الأوضاع الدولية وأن التحالفات قد تنشأ وتتعزز بين أعداء الأمس إذا اقتضت المصالح المشتركة ذلك. وبعبارة أخرى، فإن عداوتهما لبعضهما البعض في الماضي والتي كانت تغذيها الأيديولوجيا، انقلبت اليوم إلى تعاون وثيق أملته سياسات العملاق الصيني واستعراضه لقوته العسكرية المهابة في المحيطين الهاديء والهندي.
فتحت إدارة الرئيس الفلبيني الأسبق فيدل راموس ما بين عامي 1992 و 1998م قامت مانيلا بنشاط مشهود لصالح حصول هانوي على عضوية “آسيان”، مبررة حماسها بضرورة التكامل الاقتصادي والاستراتيجي السريع في المنطقة من أجل الاستقرار. وحينما استولت الصين في عام 1994 على مجموعة من الشعب المرجانية في بحر الصين الجنوبي كانت تطالب بها الفلبين، انضمت هانوي إلى مانيلا في المطالبة برد اقليمي قوي ضد بكين قبل أن تنجح الجهود الدبلوماسية في الإعلان سنة 2002 عن مدونة سلوك للأطراف المتنازعة في بحر الصين الجنوبي.
وبعد عقد، في عهد الرئيسة الفلبينية غلوريا أرويو (2001 ــ 2010)، وقعت مانيلا وهانوي على اتفاقية مشتركة لمكافحة الزلازل البحرية كجزء من جهود أوسع لإدارة الموارد بشكل مشترك في المنطقة البحرية المتنازع عليها مع الصين. وفي عام 2010 تبنت فيتنام، بدعم فلبيني زمن رئيسها نوي نوي أكينو، الدفاع عن وجود استراتيجي أمريكي أكثر قوة لمواجهة تعاظم النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي لضمان حرية الملاحة في المياه المتنازع عليها. ثم جاءت أزمة “سكاربورو شول” سنة 2012 حينما حاولت البحرية الفلبينية القبض على صيادين صينيين دخلوا هذه المياه الضحلة التابعة للفلبين، لتعطي دفعة للعلاقات الاستراتيجية بين هانوي ومانيلا، كان من آياتها قيام القوات البحرية للدولتين بإجراء تمارين ومناورات عسكرية ومباريات رياضية فوق إحدى الجزر المتنازع عليها مع الصين، واشتراك هانوي في التنسيق مع مانيلا حينما قررت الأخيرة إحالة نزاعات بحر الصين الجنوبي إلى محكمة لاهاي الدولية، وإغراء مانيلا لهانوي بالمساعدة والدعم كي ترفع الأخيرة قضية موازية ضد العملاق الصيني.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي