في أعقاب انتخابات مجلس الشورى المصري في ٢٠١٢والتي حقق فيها الاخوان المسلمون حوالي 46%، ومع حزب النور وإسلاميين اخرين حوالي ٦٦٪ ، دب الذعر في مفاصل جميع من راهن على الربيع العربي الذي انزل عشرات ملايين الناس الى الساحات من اجل الكرامة والخبز والحرية بعد عقود طويلة من الاستبداد.
كان ذعرا مبررا نتيجة الخوف من القوة الأساسية المنظمة والتي تستمطر دعما من السماء وبعض زوايا الارض، وقد استطاعت هذه القوة المزاوجة بالاستفادة من الدعم والتشجيع للمؤسسات والجمعيات والأفكار الدينية من قبل السلطات المستبدة، كما من المظلومية نتيجة القمع واستئثارهذه السلطات بالسياسة،مجيدة دور الضحية المستفيدة من الجلاد.
جرى ذلك في مرحلة من التراجعات والخيبات وانحسار لقوى اليسار وتماهي بعض القوى الليبرالية مع السلطات وانكفاء بعضها الآخر، وقد بثت الثورة الإيرانية (التي أطبق لاحقا مكونها الإسلامي على كل المكونات اليسارية والعلمانية وحتى الإسلامية المتنورة)روحا جديدة في الأحزاب الإسلامية العربية بعد تضعضها في مرحلة صعود القومية الناصرية ونسخها الأكثر تشوها في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
وقد نشرت حينها مقالا بعنوان “إنها ليست صحوة إسلامية وحتما ليست صحوة جهادية” .
ومع أنني كنت أعني بالطبع توصيف الإنتفاضات في مختلف البلدان العربية باعتبارها انتفاضات شعبية وديمقراطية تهدف الى التغيير وردم الهوة المتسارعة بين غرب صاعد ومتقدم وشرق متراجع ومتخلف، مجتهدا بأن الجماهير التي انتفضت ستواجه كل محاولات العودة للوراء تحت مسوغات دينية أو قومية أو أمنية. وهذا ما تجلى بالإنتفاضة المصرية الثانية ضد “أسلمة المؤسسات”بعد وصول محمد مرسي للرئاسة وللدلالة بنسب تقل كثيرا عن النسب التي حققها الإسلاميون في انتخابات البرلمان.
ومن المعروف أنّ عشرات ملايين المصريين شاركوا في إسقاط مرسي، مع إدراكهم أن إسقاطه سيؤدي لإعادة العسكر بطريقة او بأخرى لقمةً السلطة مع ما يعني ذلك من قضم وربما التهام براعم الحرية التي كانت في أحد أساسات انتفاضة المصريين.
وبعد سنوات قليلة جدا من هذا الكلام ارتفع المنسوب الجهادي، خصوصا مع “النيو قاعدة- داعش وشبيهاتها” إلى مستويات خيالية، محولا نظرية إدارة التوحش لأبي بكر ناجي الى إدارة الوحشية والهمجية في المناطق التي سقطت او تساقطت في العراق وسوريا، كما زارعا الفتنة والرعب في كل مكان يمكن أن تطاله أذرع مناصريه وغيرهم من الجهاديين العصريين.
وهنا اؤشر لإشكالية، فبرغم استبطان الجهاديين والإسلاميين عموما مقاومة المفاهيم والتداعيات الإجتماعية للحداثة ومواجتها بمفاهيم الجاهلية، وإن اعتمدت على آيات انتزعت من متنها وسياقها، فإنهم يبدعون في استعمال وسائل التكنولوجيا والإنترنت لبث الدعاية وصور القتل والتشويه وأنواعه والمستلهم بمعظمه من أفلام هوليوود التي تمجد العنف، ذلك أنّ الحضارة والعصور الإسلامية(التي بالطبع لم تخلو من العنف والاستبداد)كانت حضارة متسامحة عموما مقارنة بغيرها من الحضارات، خصوصا الأوروبية والتي شهدت ابشع انواع الانتهاكات الانسانية داخل أوروبا وخارجها بمسوغات دينية أوقومية أواتنية أواقتصادية.
ومن الطبيعي أن نسأل ما سر هذا الجاذب الذي يجعل شابا عربيا او مسلما أومسلما أوروبياً او حتى أوروبياً متأسلما يلتحق بالابوكاليبس الداعشي.
هو بالتأكيد يحمل خلطة فيها كومة من الأمل بحياة مختلفة تحت مظلة الخلافة وأكوام من الإحباط المتصاعد على وقع مظلومية عربية وسنية وشعبية غير مسبوقة، خصوصا مع الثورة الإيرانية التي أنشأت دولة دينية واستخدمت المكون المذهبي الشيعي محولة الضحية الى جلاد مدجج بالسلاح كما بالإيديولوجيا الجهادية.
هده المظلومية تتغذى ايضا من روافد عدة أهمها
١- أنظمة الإستبداد التي مارست القمع ودفنت السياسة عند أقدام أنصاف آلهة وتحت ستارالتنمية ومواجهة اسرائيل، وبعضها كالنظامين البعثيين في سوريا والعراق مارست قمعا رهيبا، بدا معه وكأن هذين النظامين يحتلان البلدين، وقد فشلت هذه الأنظمة بالإنماء والتحرير معا، كما فشلت في المواطنة وعمقت الإنقسامات الأهلية والقبلية رغم تغطيتها بغشاء من الأوهام وادعاءاتها العلمانية الجوفاء.
٢- ازدياد الأزمات الإقتصادية والإجتماعية وارتفاع معدلات البطالة وتراجع التعليم وتصاعد مذهل في نسبة الفقر والبؤس، خصوصا مع إدارة التوحش الرأسمالي في العالم من قبل نيو ليبرالية اقتصادية معولمة ولا تعرف الرحمة، ويترافق ذلك مع تصاعد العنصرية وتراجع القوى والمكونات والأفكار اليسارية في قلب قارة الثورات والحداثة نفسها، وهي قارة تعاني من الجبار الأميركي المتغطرس وتتحسب دائما لزمجرة المارد الروسي.
٣- استمرار الإحتلال والإرهاب الإسرائيلي في فلسطين تحت بصر وأعين العالم “المتقدم”
ومعظمه، إما ساكت ومنكفئ أو وقح وداعم للإحتلال الداعي علنا لدولة يهودية الهوية.
٤- الحصار المميت والجائر الدي فرض على العراق وشعبه منذ تحرير الكويت ومن ثم الهجوم الأميركي البريطاني عليه في٢٠٠٣ وتفكيك جيشه ودولته ومقوماته وتركه لقمة سائغة للشره الإيراني وللصراع المذهبي الذي جعل المكون السني العراقي يستلم شعلة الضحية من المكونين الشيعي والكردي.
٥- موقف المجتمع الدولي المتأرجح من الإنتفاضات العربية، خصوصا من الإنتفاضة السورية، حيث دعمت روسيا القمع العاري للمنتفضين السلميين والذي مارسته أقلية حاكمة مستبدة مدعومة من الجمهورية الإسلامية المتعطشة للهيمنة والتمدد داخل الجسم العربي الوهن، في مقابل تردد وارتباك ومن ثم تواطؤ الغرب والولايات المتحدة خصوصا بعد جريمة بشار الكيماوي وكذب أوباما الانتهازي الذي تلقف العرض الروسي بنزع السلاح الكيماوي محاباة لإسرائيل وعلى حساب آلاف الضحايا(ويتم ذلك في سياق التوجه الأميركي نحو شرق آسيا وإعادة النظر في جدوى وحجم التدخل في غربها) وهذا ما شكل مفصلا في تدحرج وضع المعارضة السياسية والجيش الحر في مقابل صعود التيارات الإسلإمية المتشددة وهبوب العاصفة ألداعشية وتحول سوريا إلى ملعب جيوبوليتيكي كبير يتبارى فيه اللاعبون من جميع الأوزان.
٦- تحول الهوية الطائفية “وحتى المذهبية” إلى هوية سياسية وسياسة الكيل بمكيالين(كما يحصل في لبنان، كإطلاق العميلين فايز كرم وميشال سماحة، في مقابل حجز حرية المئات لسنوات دون محاكمة) وصعود لغة الأقليات وتراجع اللغة الوطنية والعروبية الجامعة ووقوع العرب بين أفكاك مثلث التماسيح إسرائيل وإيران وتركيا، كما بين زوايا مربع الإرهاب الأربعة، إرهاب الضفتين السنية والشيعية، إرهاب الاستبداد وإرهاب القوى الكبرى. فبماذا نصف تجويع وقتل المدنيين بالطائرات والصواريخ والحصار وتحت التعذيب، إذا كانت داعش تستعرض جثث ضحاياها بهدف بث الرعب، فإن الصواريخ والطائرات وقنابلها الذكية وبراميلها الغبية تعفينا من مشاهدة الجريمة، اذ تدفن المدنيين أحياء تحت الأنقاض و تهجر ما تبقى، قبل أن تتفاجئ بجثة الطفل إيلان مستلقية على شاطئ التهجير واللجوء وبهياكل أطفال مضايا، فيستيقظ الضمير العالمي مؤقتا قبل أن يعود لرتابته وثباته وقساوته. ترى كم من إيلان وحمزة الخطيب ومحمد الدرة يجب ان يسقط قبل ان يتحول الإستيقاظ الى يقظة للضغط من أجل وقف تكاثر المسالخ البشرية، بما فيها المسلخ الجهادي وقبل أن يرتفع منسوب الإسلامافوبيا وصراع الحضارات بما يفيض عن الإحتواء؟
طبعا لن ننتظر “يقظة الغرب “وتحميل المسؤولية للآخرين فقط، لأنّنا مسؤولون عنً مصائرنا ولانً الأثمان الرئيسية يدفعها العرب ولأن القتلة من كل الضفاف يقتلوننا أو يقتلون بإسمنا ولأن شعوبنا التي انتفضت سلميا وحضاريا تسرح بينها الوحوش الضارية
.إنّ المواجهة العربية المتصاعدة للتمدد والعدوانية الإيرانية في ظل الإندفاعة الروسية الغير مسبوقة والمحاباة الأميركية لإيران خصوصا بعد الإتفاق النووي، كما لمواجهة داعش ودعم المعارضة السسورية تقوم بها وللمفارقة الدول الخليجية بقيادة السعودية، ربما لأن النار وصلت لأطرافها، وعلى الدول العربية الأخرى المنكفئة على أزماتها أن تلتحق بهذه المواجهة وخصوصا مصر والجزائر، لأن رابطة العروبة رغم ضعفها وتكاثرتناقضاتها هي في صميم المواجهة مع التطرف والهيمنة على أنواعها في آن، التي تستحضر كل الصراعات التاريخية القومية و الكربلائية.
وهذا يؤشر لفارقة، ذلك أن الشعوب التي انتفضت للتغيير بمواجهة أنظمة القتل والإستبداد لم تتطلع إلى النموذج الخليجي صاحب الواقع والمسار الخاص مثالا، وهو بالطبع نموذج شبه أوتوقراطي
مع أنه ليس نموذجا للإجرام والبؤس. ورغم حساسيته البديهية ضد الديمقراطية والتعدد فإن تطوره السياسي يرتبط برغبة شعوبه وليس بالحراك المذهبي الذي تعمل لتأجيجه وتأبيده في المنطقة القوى الأكثر تطرفا في إيران،علما أن الفقر والبؤس والجهل والفساد هي من الأسباب التي أدت للإنتفاضات إلى جانب الكرامة والحرية، وهي العناوين ذاتها التي تغذي العنف والتطرف مع انسداد آفاق التغيير الديمقراطي.
هناك مسأل أخرى، فرغم تحليلنا للأسباب الموضوعية التي أدت لارتفاع منسوب التطرف، فإننا معنيون بالتصدي لكل الذرائع والتفسيرات والإسقاطات التي التي تغذي الإسلاموفوبيا وصراع الحضارات، ما يستدعي إعادة النظر في مقاربة قضايا الفقه والحديث والتأويل والمرأة، بما يتناسب مع مفاهيم العصر الحديث وقضاياه المعقدة والمتداخلة وبما ينزع من أيدي المتشددين من كل الضفاف السلاح الإيديولوجي، فقد آن الاوان لوقف تحويل المقدس من مفهوم المحبة والتسامح إلى مضخة للكراهية والإلغاء وهو ماعانت منه أوروبا المسيحية كثيرا.
هذه المهمة هي أكثر تعقيدا وأكثر عمقا وتقع على عاتق جميع النخب الفكرية والمدنية والسياسية والدينية المتنورة، وتتطلب جرأة ربما تعادل نهضة ثانية مع كل تبعاتها، وهي مهمة متصاعدة ويجب أن تكون رصينة وعلمية وهادئة كي لا تخلق إنشطارات جديدة، من هنا تحذيرنا من مغبة تقسيم الناس بين إسلاميين وغير إسلاميين، على خلفية مفاهيم متلبسة للإرهاب وهي مفاهيم معظمها مغرض وبعضها مرتجل نتيجة العاصفة الداعشية الهوجاء.