أنا لا ألوم الذين يصرّون على الحِكم،
أنا ألوم فقط الذين يظهرون استعداداً أكبر للخضوع
توسيديدس
*
نسير نحو انهيار مالي، ولا مسؤول يكترث. وكأن ما يُسمّى “المسؤولون” يدركون بأن السفينة تغرق لذلك يغرفون من أموالها ما أمكن قبل الغرق. انظروا إلى التناتش الجاري على صفقات القطاع العام. حتى رئيس الحكومة، المشهود له بوطنيته ونزاهته، يقرّ بأن هذه حكومة صفقات متبادلة. إن مشكلتنا حالياً لا تكمن في غياب الإصلاحات، مشكلتنا هي في الأذى الذي يصيبنا به السياسيون في حياتنا الاقتصادية والسياسية، كل يوم. فمشاريع النفط والكهرباء والنفايات والسدود والطرقات ومشاريع عديدة أخرى ليست سوى صفقات توزيع منافع شخصية. البدء يجب أن يكون بالحدّ من هذا الأذى، كما في قَسَم أبقراط الطبي “أولاً، لا تؤذِ”. في ما يلي بضعة أمثلة عما يجري في لبنان، وعن نتيجته الحتمية.
هل تعلم، عزيزي القارىء، أن لا حسابات مدقّقة أو منشورة لأي من المؤسسات العامة الكبرى في لبنان؟ ولا أحد يكترث. وفي الطليعة مصرف لبنان الذي لم ينشر حساب الأرباح والخسائر (عملياً الخسائر) منذ العام 2002، أي منذ 14 عاماً، ومن ثم شركة كهرباء لبنان، وكازينو لبنان، وشركة إنترا، وشركة طيران الميدل إيست. الوضع المالي لهذه الشركات، وهي الأكبر في لبنان، مجهول منذ سنوات وبشكل مخالف للقانون. لم نعد نعرف من المسؤول عن تطبيق القانون في مجاهل القطاع العام، وما إذا بقي من قضاء ومؤسسات رقابية في لبنان. صحيح أن الشركات الثلاث الأخيرة شركات خاصة قانوناً، إلا أنها فعلياً شركات عامة (شركة الميدل إيست يملكها مصرف لبنان) تخضع بتعييناتها وقراراتها الكبرى لمصرف لبنان الذي أصبح أيضاً شركة تجارية قابضة.
وضعنا المالي في حالة سيئة، ويتدهور باستمرار. لا أتكلم هنا عن النمو والبطالة، إلخ. بل عن عوارض مالية مقلقة تبرق أضواء إنذار تزداد احمراراً كل يوم. فميزان المدفوعات يسجّل في هذا العام سنته السادسة من عجز متواصل، وهي سابقة لم يعرفها لبنان منذ الاستقلال وحتى خلال سنوات الحرب، إذ لم يسبق لعجز أن استمر لأكثر من سنتين متتاليتين. ومع أن فاتورة استيراد النفط قد انخفضت بأكثر من مليار دولار سنوياً، فإن العجز في موازنة العام الجاري يرتفع متجهاً إلى رقم قياسي، إذ كان عجز الأشهر الأربعة الأولى من السنة أكثر بقليل من 1.6 مليار دولار، مما يعني عجزاً قياسياً سيبلغ حوالي 5 مليار دولار في نهاية العام إذا ما استمرت الإدارة المالية على النمط نفسه. وطبعاً، لا مسؤول يكترث.
المزيد من الأمثلة الفاقعة: لماذا انخفضت الواردات الجمركية في فترة السنوات الخمس 2010-2015 بنسبة 26% في حين ارتفعت قيمة البضائع المستوردة بنسبة 16%؟ لماذا، خلال الفترة نفسها، بقيت واردات الضريبة على القيمة المضافة تقريباً على حالها، في حين ارتفعت قيمة المبادلات التجارية الممثّلة بالناتج المحلي الاسمي بحوالي الثلث؟ والآتي أعظم، إذ إن صفقات النفط والغاز لم تتم بعد. لكنني أؤكد لكم أنهم يحضّرون لها، غير آبهين بصراخكم، لأن العمولة لكل جهة تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات. اَوَ تدرون المدى الذي يذهبون إليه مقابل تلك الملايين؟ إن ما يجري من صفقات هو ببساطة سرقة أموال عامة. وهذه السرقات تلحق كل مواطن ومستقبله بالأذى المباشر لأنها تجعل الوضع المالي أكثر سوءاً، والتدهور المالي أكثر احتمالاً، والحافة أكثر قرباً.
عليكم أن تفهموا طريقة تفكير المسؤولين السياسيين لكي تفهموا تصرفاتهم. فكل أزمة كبيرة، كأزمتي النفايات والكهرباء مثلاً، ليست بالنسبة إليهم مشكلة بحاجة إلى حلّ بل فرصة للمنفعة الشخصية. كل مشروع نفقة هو مشروع صفقة. والحِكم في لبنان أصبح حركة تنظيم صفقات متبادلة. ارتفاع العجز والدَين بوتيرة سريعة لا يعني شيئاً لهم على الإطلاق، لذلك لا نقاش رسمياً بتاتاً في الوضع المالي وعن إجراءات لضبطه. وفي نهاية المطاف، إن أموالهم كثيرة وفي أمان في الخارج، وليس من محاسبة رسمية أو حزبية أو شعبية تطالهم. فلِمَ الاكتراث؟
أمام الخطر الداهم وغياب السياسة، بمعناها الحقيقي أي العمل للخدمة العامة، علينا قول الأمور كما هي. إن الخطر الأول الذي يحمله هذا الوضع المالي المتردي باستمرار سوف يكون على سعر صرف الليرة. إنما الخطر الأكبر والأهم من هبوط سعر صرف الليرة هو وقع هذا الهبوط، في حال حدوثه، على وضع المصارف المحلية نظراً للارتباط القوي للمصارف المحلية بمديونية الدولة (كحكومة ومصرف لبنان). إن انهيار سعر صرف الليرة خلال العام 1987 لم يؤدِ إلى زعزعة الوضع المصرفي، الذي بقي سليماً لأن موجودات المصارف من العملات الأجنبية كانت مودعة في مصارف عالمية خارج لبنان، كما أن قروض المصارف للدولة كانت ضئيلة وكلها بالليرة.
أما اليوم فقد أصبح الوضع مختلفاً جذرياً، وهنا تكمن المشكلة الأساسية. فدَين المصارف المحلية على الدولة أصبح يشكّل غالبية مجمل موجودات المصارف (59% في منتصف 2016)، علماً أن المصارف أصبحت تودع حالياً أكثر من ثلاثة أرباع موجوداتها بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان، وهذه الودائع دَين عليه. بمعنى آخر، إن تردي الوضع المالي للدولة أو لمصرف لبنان أصبح يعني حكماً تردياً في الوضع المالي للمصارف. إن هذا التطور غير المسبوق يشكل وضعاً جديداً يحمل مخاطر كبيرة لم يعرفها لبنان في تاريخه الحديث. هل يعمل أي مسؤول شيئاً إزاء هذا الواقع الخطير؟ طبعاً لا.
كيف وصلنا إلى هذه الحالة الرديئة؟ وأقصد بـ”نحن” الغالبية الكاسحة من المواطنين وليس المسؤولين السياسيين وحواشي المنتفعين حولهم في القطاعين العام والخاص. إن فقدان الاستقلال يعني بداية الانحدار في أي بلد، ولبنان بدأ يفقد استقلاله في العام 1969 عندما أبرم اتفاق القاهرة مع المنظمات الفلسطينية. وهو لا يزال فاقداً للاستقلال. إن فقدان الاستقلال يعني فقدان القرار الحر، وهذا يعني حكماً فقدان القدرة على العمل من أجل المصلحة العامة ليبقى التركيز على المصلحة الخاصة.
لبنان غير مستقل سياسياً منذ حوالي نصف قرن. فقدنا الاستقلال أولاً لصالح المنظمات الفلسطينية، ومن ثم لصالح النظام السوري، ومن بعده لصالح نظام ولاية الفقيه في إيران الذي أكمل ما عجزت عن إنجازه المنظمات الفلسطينية والنظام السوري، أي إحكام القبضة السياسية والأمنية في لبنان كمدماك أساسي لاستراتيجيته في المنطقة. وهذا يعني أن القرارات الكبرى الداخلية والخارجية للدولة اللبنانية تخضع إلى قرار أو ڤيتو سلطة أجنبية. لقد دُفعنا بالقوة من نظام ديموقراطي دستوري حيث تنبثق السلطة من الانتخابات إلى نظام “توافقي” لا وفاق فيه إلا الاسم، وهو فعلياً نظام ڤيتو يفرضه الأقوى. إن أي كلام عن إصلاح ونمو اقتصادي في لبنان الخاضع لتسلّط أمني وسياسي من دولة أجنبية هو ضوضاء بدون أثر، ووهم يدفع المواطن اللبناني ثمنه يومياً.
لقد تسبّب فقدان الاستقلال لمصالح أجنبية بحتة في مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين، وهجرة دائمة من لبنان لمئات الآلاف من طاقاته الشابة مقابل دخول أعداد أضخم بكثير إلى لبنان من أجانب بدون طاقات، وتقويض النظام السياسي والاقتصادي لم ننهض منه حتى الآن. ولا نزال مرتهنين لمصالح أجنبية. ولا نزال ندفع الثمن كل يوم. لكن المشهد الأكثر إحباطاً نراه في العقل المدجّن للمواطن اللبناني الذي تعوّد منذ حوالي نصف قرن على الخضوع لسلطات أجنبية. لقد أصبح الأمر طبيعياً له فنسي معنى الاستقلال والمحاسبة، لذلك لا ينتفض ضد هذه التهديدات الخطيرة إزاء وجوده ومستقبل أولاده.
قد يكون أوضح تعبير عما وصلنا إليه هو ما قاله مؤخراً ببلاغته المعهودة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، حين أقرّ بأن أموال الحزب وأسلحته وصواريخه تأتي كلها من إيران، ناصحاً المعترضين على هذا الواقع بـ”شرب ماء البحر”. ولم ينبرِِ مسؤول أو سياسي واحد، لا أحد، للاعتراض على هذه الإهانة الموجهّة لكل ما تبقى من ديموقراطية قانونية في النظام اللبناني، ولكل المواطنين المستمرين، رغم كل شيء، في إيمانهم ببناء لبنان حرّ، مستقل وديموقراطي. يا للعار!
gaspall5@cyberia.net.lb
كاتب وخبير اقتصادي