بُعيد ندائه «اللبنانيين» وطمأنتهم الى أن «مشروع قوى 14 آذار (مارس) ليس مشروع غلبة وإلغاء»، يجهر بيان تحالف القوى الانتخابي (صحف 15 آذار – 2009) إرادة التحالف «طي صفحة الصراع الداخلي، وإعادة وصل ما انقطع بين اللبنانيين، وتكريس النهج السلمي والديموقراطي في العمل السياسي ونبذ العنف الداخلي». ولا غموض في مخاطبة الفقرة هذه جمهور حلف «8 آذار» وقواه وناشطيه، ولبنانييه المواطنين والأهالي. وتذكر الفقرة التالية بدعوة سابقة الى الجمهور نفسه، غداة قرار إنشاء المحكمة الدولية، في 30 أيار (مايو) 2007. ويومها ناشد اصحاب قضية المحكمة، وهم «14 آذار» جمهوراً ومنظمات وسياسيين، الفريق الآخر «إحياء التسوية التاريخية التي حدد مضامينها اتفاق الطائف». ويروي البيان الأخير ان «الفريق الآخر لم يلبّ دعوتنا بل واجهها بالتعطيل وأحياناً بالسلاح».
وقد يدعو هذا المواطن اللبناني، نصيرَ «14 آذار» الانتخابي وعلى قدر أقل السياسي، الى ملاحظة خرق واسع، أو فجوة فاغرة في بيان التحالف وسياسته. فيسكت بيان التحالف الأخير عما يترتب على إخفاق الدعوة المتجددة الى «إحياء» مضامين تسوية الطائف، وتكريس «النهج السلمي والديموقراطي». وهو يسكت عن السبب في إخفاق الدعوة الأولى، والرد عليها بالتعطيل والسلاح. ويغضي عما ينوي فعله إذا تواتر الإخفاق وتوالى. فيحسب البيان ان طي الصراع الداخلي، وانتهاج النهج السلمي والديموقراطي، مصلحة جامعة ووطنية واحدة. وهذا تفاؤل مفرط. فالنهج خلّف إخراج قوة الاحتلال السورية من لبنان، وهزيمة حلفائها وصنائعها في الانتخابات النيابية، وإقرار المحكمة الخاصة الدولية – اللبنانية المختلطة، واستعادة جزء من السيادة الوطنية على الإدارات والأجهزة وجزء من الدور الإقليمي والدولي، الى استعادة اللبنانيين بعض الحقوق السياسية والإنسانية. والانقسامات التي ولدتها الإنجازات هذه، ونهجها السلمي، أبرزت عمق الانقسام السياسي الوطني الذي يعتمل في قلب العلاقات اللبنانية. وهو يتطاول الى معيار السياسة والاجتماع السياسي. ويحسب البيان ان تعريف المعيار هذا محل إجماع، ومصلحة مشتركة. وهو علة تنافر واقتتال. وهذا ما تريد قوى «8 آذار» إفهامه خصمها السياسي والوطني والأهلي، وما قصدت إفهامه إياه حين لم تلبّ الدعوة الأولى. وفي ضوء حوادث شباط (فبراير) 2005 – آذار 2009 – أي في «ضوء» الإضرابات المسلحة والحرب الإقليمية والإناخة على بيروت وتعطيل المجلس النيابي وأدواره وغارات 7- 9 أيار 2008 واتفاق الدوحة – لا يشك المواطن المراقب في ان نهج «8 آذار» ينافي منافاة قاطعة الاحتكام الى جماعة اللبنانيين الوطنية، أو أمتهم السياسية وكيانهم القانوني والحقوقي. فما تراه كتلة «8 آذار» هزائم إنما نجم عن إعمال النهج السياسي، على حده الأدنى القاضي بالجمع بين وحدة المؤسسات والهيئات الوطنية وبين اختلاف القوى السياسية وتنازعها وحسمها المنازعات بالاقتراع. فقوى المعسكر هذا تسمي نفسها معارضة وهي في قلب الحكم. وتنسب نفسها الى الشعب وهي تشهر سلطان النقض البتار وسيفه.
وحين يذكرها البيان العتيد بإقرار المحكمة الدولية فإنما يذكرها بهزيمة نكراء لحقت بها، وبنهجها العصبي و «القومي» والاستيلائي، عن يد المجتمع الدولي. ولم يسعها تدارك الهزيمة هذه من طريق حال الطوارئ العرفية التي أرادت فرضها على الدولة والمجتمع اللبنانيين. وعلى هذا، فهي تدعى الى قبول غلِّ يديها وتقييدهما بالنهج السياسي، على حدِّه الأدنى المزدوج، حين تدعى الى طي العنف، والتخلي عن فرض الأمور الواقعة بالقوة المسلحة والشقاق المذهبي الأهلي والحرب الإيديولوجية. فهذا النهج، العصبي «القومي» والاستيلائي، اختار معسكر «8 آذار»، وانتخبه سياسة متماسكة دفاعاً عن مصلحته التي يدعوه البيان، مرة جديدة، الى النزول عنها. فماذا كان بقي من «8 آذار»، جماعة ومعسكراً سياسياً وأمنياً، لولا خوف الاغتيالات وشل الوزارة وحرب 2006 وحصار بيروت، وحرب العصابات والخنادق فيها وحرب نهر البارد والحرب الإعلامية؟ والمنطق الذي يدعو تحالف «14 آذار» الكتلة الخصم الى الأخذ به – وهو منطق الدولة وتحريرها واستقلالها، وبنائها الواحد والمتنوع، وتغليب عقد الشراكة الداخلية على الروابط الإقليمية – إنما قام المعسكر الخصم، جماعات وكتلة، وتماسَكَ واستمر على إنكارها، والحط منها، وإبطالها. وأفعال المعسكر، منذ اتفاق الطائف وفي أثناء الجلجلة المتطاولة التي سبقته وتلك التي تلته، شاهد على الإنكار والحط والإنكار جميعاً.
وليس أشد غرابة من عجب «14 آذار»، سياسيين ومعلقين صحافيين، لقول قائل المعسكر الخصم، وخطيبه الآمر، ان الغالبية النيابية ليست غالبية شعبية، وهذه ليست شرط تلك. ومعنى القولة هذه هو خيط الحوادث الجامع منذ الاستيلاء السوري على لبنان، ومنذ اغتيال رفيق الحريري على أقرب تقدير. وازدواج المشروعية، مشروعية الولاية (على الأمة) ومشروعية الدولة المدنية، هو في صلب المقالة «الإسلامية» السياسية. وهو ما لا تنكره «القومية» السورية. فالحركة السياسية، إذا قيض لها التسليح المتجدد والاستخبار الأمني، والإقليم المنفصل، أو القاعدة الجغرافية والبشرية المسورة، والجهاز السياسي الآمر، والتمويل الوافر، وعلاقة السرة بقاعدة خلفية أو جانبية أمينة، والحماية من الرابطة الوطنية العريضة وهيئاتها المركبة والمجتمعة في دولة و «القضية» الصوفية – هذه الحركة السياسية إذا قيض لها هذا كله، على ما قيض للحركة الشيعية وفروعها منذ 1982، لم يعسر عليها أو يستحِلْ انتخاب كثرة نيابية ساحقة من غير إكراه ولا غصب ظاهرين.
ولعل هذا جزء من المعنى الذي أراده أمير «المقاومة الإسلامية». وهو المعنى المستقر والشاهد. وهو ربما أراد جزءاً آخر يرد الى اتفاق الطائف و «تسويته التاريخية»، على قول البيان. فالاتفاق العتيد أقر اقتسام الجناحين اللبنانيين الدينيين مقاعد المجلس النيابي ومجلس الوزراء، ومناصب الإمارة العليا، مناصفة، ومساواة اللبنانيين المسيحيين والمسلمين في التمثيل السياسي والإداري. وأقر «مؤتمر» الطائف المناصفة العددية على رغم ميل ميزان العدد ميلاً قوياً الى المسلمين، سنة وشيعة في المرتبتين الأوليين. فكان على الطائفتين المحمديتين، وعلى الشيعة الإماميين على وجه الخصوص، اقتسام تمثيل انتخابي ثم سياسي وإداري، على قدم المساواة مع نظيره المسيحي، من غير مكافأة سكانية وعددية. وينبغي ألا ينسى المسيحيون الفضل «القومي» هذا عليهم.
فنصّبت السياسة السورية أبنية سياسية صورية، وحَّدتها تحت لواء «التحرير» أو «المقاومة». وقدمت وأخرت، ونفت وقربت، في ضوء المعيار هذا. فرعت تبلور دولة موازية، وقوات عسكرية وأمنية باطنية، وديبلوماسية أهلية، ومرافق إدارية واجتماعية وتعليمية وموارد دخل على حدة، لا تنشأ عن السوق الداخلية ولا تصب في دورتها إلا ما جُبي عنوة من الدولة. وما هو خارج الدوائر والأبنية الموازية هذه، وهو معظم سعي اللبنانيين ونتاج تاريخهم الاجتماعي – السياسي، حاولت السياسة السورية كبته وقتله وسحقه. فكان 14 آذار (مارس) 2005 «ثأر» التاريخ هذا.
فمعسكر «8 آذار»، قديمه ومحدثه، عريقه وطريفه (على معاني الطرافة كلها)، هو ثمرة تبلور الدوائر الموازية، أو دوائر الظل هذه، خارج الدولة والمجتمع والوطنية الدستورية المشتركة، في رعاية القبضة السورية ومساندة الولاية والمالية الخمينيتين. وينبغي الإقرار الممض والمرير بأن البلورة العروبية والمذهبية هذه، على أنقاض دولة ومجتمع أهليين ومليين، اصابت نجاحاً عظيماً. ويوفر النجاح هذا انفجار حروب داخلية تلبنن السياسات الإقليمية والدولية. فهو ينزل الخرق في قلب كيان الدولة، مواثيق ومؤسسات وسلطات وإدارات وأهواء شعبية، ويشقها ويعلق عملها ووظائفها. والأرجح ان لغة بيان «14 آذار»، مفردات ومعاني ومباني خطاب، هي رطانة كرشونية أو أعجمية رومية في آذان أو أفهام «شركائنا في الوطن».
والبيان – البرنامج يطلب الى المواطنين الناخبين والمقترعين الاقتراع لمرشحين يتعهدون انتهاج السياسة التي يقترحها اصحاب البيان. والسياسة هذه، من القرار 1701 و «حل الدولتين» ومبادرة قمة بيروت 2002 الى تطبيق اتفاق الطائف والتزام المسؤولين صلاحياتهم والمحكمة الدولية وباريس -3، رهن سلطة دولة واحدة تتولى مقتضيات القرار 1701 وقبله القرارين 425 و426 وقبلهما اتفاق الهدنة في 1948. فتحول دون مرابطة جماعات أهلية مسلحة ومقاتلة على الحدود، إلخ. فإذا لم تؤد كثرة نيابية الى توحيد الدولة والسلطة، وإلى ضمان مباشرة السلطة الواحدة من ندبهم الاقتراع العام الى مباشرتها، وانقياد الأجهزة التنفيذية لأمر السلطة هذه، أبطل ذلك العملية الانتخابية، وحكم فيها بالعبث، على ما صنع معسكر «أمل» و «حزب الله» و «الإصلاح والتغيير» منذ 2005، ويصنع اليوم ويعد بصنعه غداً.
فالبرنامج السياسي الفعلي، على هذا، ينبغي أن ينص على أدوات أو إجراءات توحد الدولة والسلطة بإرادة المواطنين المعلنة، وفي هذه الإرادة. فهل في مستطاع القوة السياسية الغالبة، والمتمتعة بثقة كثرة المواطنين الناخبين، إذا كانت القوة الغالبة هي «14 آذار»، ان تأمر القوات المسلحة الوطنية، والأجهزة الأمنية، برد الجماعات الأهلية المسلحة والمقاتلة عن التحكم بالحدود، وتجاراتها غير العلنية وتجارها؟ أو أن تأمرها بحماية المرافق والساحات العامة وأمن المواطنين، أفراداً أو منظمات، من العدوان الموصوف والإرهاب والاحتجاز وحرق الممتلكات؟
والبيان – البرنامج السياسي لا يجيب عن الأسئلة هذه. وهي اسئلة لا جواب عنها إلا على مستوى القيادة في كل من طهران ودمشق ربما. واستحالة الجواب جزء من «البلورة» السورية – الإيرانية التي مر الكلام عليها وتقدم، ووجه من وجوه «الإنجاز» العروبي والإسلامي في اثناء ثلث القرن المنصرم. فيخاطب البيان – البرنامج «الشركاء» المفترضين، ونحن نفترضهم شركاء حين هم ينكرون الافتراض والفرض معاً، بتخويفهم ثمرة شقاقهم، وتوليهم أوطاناً ودولاً أخرى. وهم تحدوهم الى ما يُخوَّفونه رغبة جارفة و «استشهادية». فهم يقبلون على التحرير (ما يسميه البيان تحريراً) وحروبه، وعلى الوحدة (وهي في البيان تتمة التنوع وقطبها الآخر) وفتوحها وغصبها، وعلى منطق الثنائيات الطائفية، وتغليب الروابط والمصالح الإقليمية، يقبلون على هذا وغيره مثله إقبال المحموم المنتشي والمستميت. وهم يكرهون الاستقلال والتنوع والعقد الوطني وقيود الشراكة مقدار كراهتهم قتلة «أهلهم»، وذراري القتلة الى يوم الحساب. وما يوعدون به من قرارات دولية، ومقترحات عربية، ومواد دستورية، وتسويات تاريخية، وحوار حضارات، باعث على سخرية وازدراء مسترسلين. وهم يرون السلم والعمل والرخاء والأمن رشى لا تستحق الإصغاء إليها.
ولا يدعو هذا الى التسليم. فالأحوال السياسية والأهلية والثقافية – الإعلامية التي انتهينا إليها، واشتركنا في صنعها على هذا القدر أو ذاك، هي من صنف لا يعقل على وجه السياسات العادية أو السوية، ولو احتسبت أطر السياسات الثقافية والوطنية المحلية. فتجريد السياسة، على المثال العروبي والمذهبي السائد، من أبعادها أو متعلقاتها القانونية الحقوقية والعملية والأخلاقية، وتلخيصها في الموازين السلطانية المحض، وتخليصها من دواعي المصلحة، تصيب الاجتماع السياسي، أي «التئام ثلاث أسر وما فوق» على قول جان بودان (1588م)، بالعي والشلل. وقد يجوز القول في الانتخابات القادمة ما يقوله البيان – البرنامج، أو قريباً منه. وربما ينبغي قوله، ومحاكاة مثال سياسي سوي ومفهوم. ولكن أصل مشكلتنا السياسية هو غير هذا. ونحن نعالج المشكلة، وأصلها، من غير ان نجرد العلاج، وهو مقاومة «المقاومة»، نهجاً ومقالة. ومثالنا المضمر هو تصدي الجسم الحي لاعتلاله و «زماناته»، على قول جعفر الصادق.
* كاتب لبناني