لم تنتهِ السعودية بعد من معركتها مع “القاعدة”، التي تستضيف طهران قسماً من قياداتها، حتى رَفعَ أنصار “القاعدة” و”داعش” رؤوسهم في بيانٍ كان سيوقّع عليه أسامة بن لادن بدون تردّد، وسيرقص نائبه أيمن الظواهري فرحاً لقراءته! طبعاً، لاحظنا غياب إسم الشيخ سلمان العودة بين الموقّعين، وهذا أمر حسن، فلعلّه اتّعظ من تجارب الماضي.
لكن أكثر من سيرحّب بـ”بيان الـ٥٥ داعية” هو من يزعم البيان معاداتهم: أي نظام الأسد، ونظام الملات في طهران، ونظام السيد بوتين في موسكو و”رئيس دائرة العلاقات بين الكنيسة والمجتمع في الكنيسة الروسية المتقدم في الكهنة فسيفولد تشابلين” الذي “أوّل” بيان بطريرك روسيا (المؤيد لبوتين) وأضاف عليه أن “المعركة أخلاقية بامتياز، وإن أردتم، فهي معركة مقدسة“!
ألا يزعم بوتين وخامنئي أنهما يخوضون حرباً ضد “الإرهاب” وضد “التكفيريين”؟ وماذا يفعل بيان الـ٥٥ سوى تكفير الشيعة والعلويين والدروز والمسيحيين وكل من ليس من “أهل السنة”؟
نحن نعرف، من اتصالاتنا المباشرة، أن عدداً من قادة “السلفيين الجهاديين” كانوا، منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، قد طالبوا “المجاهدين غير السوريين” بالخروج من سوريا حتى لا يشقّوا صفوف الثورة وحتى لا يصبّ “جهادهم” في خدمة الأسد. وقد نجح مسعاهم في إقناع “مجاهدين بارزين” بمغادرة سوريا. المؤسف أن هؤلاء لم “يجهروا برأيهم”، بل تداولوا به في حلقات ضيقة! وربما لم يفُت الأوان بعد لإعلان رفضهم لتحويل سوريا إلى “أرض جهاد محروقة”، على غرار أفغانستان، كما يطالب بعض علماء السعودية.
لقد حذّر كثير من السوريين، ومنذ أكثر من ٣ سنوات، من أن النظام فتح أبواب السجون للعناصر الإرهابية وشجّع، مع رعاته في طهران وموسكو، العناصر الإرهابية على “الإلتحاق بالثورة السورية”. وتلك التحذيرات لم تكن مجرد “تحليلات” بل استندت إلى وقائع. وما لا يريد بعض علماء السعودية أن يعترفوا به هو أن وجود “رفاقهم الإرهابيين التكفيريين” في سوريا قدّم أفضل خدمة لبشار الأسد، وطهران، وبوتين لأنه قدّم المبرّر للأصوات الداعية إلى “تفضيل بشار الأسد على داعش”!
ما هي مآخذنا على بيان الـ٥٥ داعية؟
أولاً، أن ثورة الشعب السوري كانت ثورة ضد الطغيان، والقمع، وكبت الحريات، ومن أجل نظام “مدني”، و”ديمقراطي” يقوم على “الإرادة الشعبية”. ولم ينتفض الشعب السوري للقيام بـ”ثورة دينية” تنظّف سوريا من تنوّعها الديني والمذهبي. وبعكس ما يعتقد هؤلاء المشايخ ، فلم يتعرّض العلويون في تاريخهم الحديث لقمعٍ يعادل ما تعرّضوا له في عهدي حافظ الأسد وبشّار الأسد، والسجون السورية تشهد على ذلك.
ثانياً، بالنسبة للديمقراطيين والوطنيين السوريين، سوريا هي وطن السوريين كلهم. العرب، والأكراد، والسنّة، والشيعة، والعلويين، والمسيحيين، والدروز، واليهود.
ثالثاً، أن الشعب الإيراني، وليس “الصفويين” كما يسمّيه بيان الـ٥٥، هو شعب صديق يجمعه بالعرب تاريخ ثقافي وعلمي عريق يستحيل حتى علماء الدين طمسه. هل سيحكمون بالإعدام على كل شعراء وعلماء الفرس الذي أغنوا التراث العربي الذي يدرسه الطلاب العرب في مدارسهم وجامعاتهم حتى يومنا، تماماً كما حكمت “داعش” بالإعدام على تراث الإنسانية في “تدمر” وفي العراق؟
ورابعاً، أن شعب إيران الحالي يرفض نظام الملات، ويرفض سيطرة رجال الدين (أي “زملاء” المشايخ السعوديين الـ٥٥) على السلطة، وعلى موارد إيران. أي أن شعب إيران حليف للسوريين في رفضِ الإحتلال الملاتي لسوريا. باختصار الشعب الإيراني ليس “الصفويين”، بل هو شعب حديث سيتحرّر عاجلاً وليس آجلاً من سيطرة “العلماء” على مقدّراته.
وخامساً، السوريون لا يريدون تحويل بلادهم إلى “أرض محروقة”، كما حصل في أفغانستان.
وسادساً، بيان الـ٥٥ تذكير بأن “العلمانية هي الحلّ”، وليس “الطائفية”، في منطقة تزدان بالأديان والمذاهب والأعراق. وهذه “العلمانية العربية” تعني بالدرجة الأولى “فصل رجال الدين عن السياسة“. فليست مهمة رجل الدين السعودي أن يرسم لدولته سياستها الخارجية، وتحالفاتها. (يعيد “الشفاف” نشر مقال ممتاز نشره الأستاذ عبد الرحمن الراشد “الشرق الأوسط” اليوم)، وليست مهمّتهم أن يطالبوا الدولة السعودية بما يشبه “النقد الذاتي” لأنها كانت وما تزال تكافح “القاعدة وأخواتها”!
وسابعاً، أن فحوى بيان الـ٥٥ هي مطالبة الدولة السعودية بإعلان الحرب على روسيا وأميركا وأوروبا وإيران، والمجتمع الدولي كله! وهذه دعوة لعزل السعودية عن العالم وتحويلها إلى “إمارة طالبان جديدة” يُمنَع فيها تعليم البنات، والتلفزيون، والصحافة…. وهي دعوة لإسقاط النظام “السعودي”، لأننا لا نتصوّر أن يقبلَ ملك سعودي من أبناء “عبد العزيز” (الذي هزم “الإخوان” قبل ٩٠ عاماً) بالتحوّل إلى “ملا عمر”. ولا نتصوّر ألا يدرك “خبثها” ولي عهده الذي سعت “القاعدة” لاغتياله قبل سنوات قليلة.
دعوة العلماء السعوديين لإعلان السعودية القطيعة مع أميركا وروسيا والعالم كله لا تشبه سوى شعارات النظام الإيراني في بداياته! إنها دعوة “خمينية” بامتياز! وليس سرّاً أن بعض علماء السنّة يحلمون منذ ٣٠ سنة بأن يحقّقوا ما سبقهم إليه الخميني: “السلطة كل السلطة لرجال الدين”!
واستطراداً، ولعل التذكير ينفع، فإن ملك السعودية وليس “المشايخ” هو من اتخذ قرار التصدّي لغزو “الحرس الثوري” لليمن. ولم يفعل “المشايخ” سوى “الإلتحاق” بقرار الملك (الذي أيّده الرأي العام العربي لأسباب “سياسية” وليس لأسباب “دينية”)، كما “التحق” به، “متأخرين” مشايخ الإخوان المسلمين في اليمن!
وثامناً، إن أسوأ ما تعرّضت له الثورة السورية هو فشلُ ما يُسمى “نُخَبِها” في مد ذراعيها للطائفة العلوية، وهي طائفة سورية بامتياز، وفي التحالف معها ضد نظامٍ إجرامي لم يستَفِد منه أحد في سوريا.
لا نعرف إذا كان الوقت قد فات، ولكن أية دعوة لـ”مقاومة التدخل الروسي” (كما فعل صديقنا ميشال كيلو في مقاله المنشور على “الشفاف) لا تصحّ إلا إذا توجّهت إلى “الوطنية السورية”، أي إلى الشعب السوري كله، وإلى أبناء سوريا في “منطقة الساحل” بصورة خاصة. أم، هل يعتقد المعارضون السوريون أن “أبناء الساحل” يرحّبون باحتلال جيوش خامنئي وبوتين لبلادهم لمجرّد أن خلفيتهم الدينية تختلف عن خلفية بقية السوريين؟
وتاسعاً، هل يدرك دعاة “إسقاط العلوية السياسية” الآن مدى خطورة ذلك الشعار بعد أن وطأت أقدام الجيشين النظامين الروسي والإيراني أرض سوريا؟ حينما يكون “الوطن” في خطر، فإن مهمة الطائفة الأكبر هي احتضان “الأقليات”، وطمأنتها، وإعطائها ما تريد من ضمانات حقيقية، لأن “الوطن للجميع”. ذلك، أو فتح الأبواب واسعة لتدخّل أجنبي “إستعماري“. في السياسة الحقيقية شعار “نحن نحب العلويين” أفضل من شعار “إسقاط العلوية السياسية”! ألم يلاحظوا بعد أنها.. سقطت فعلا؟
وأخيراً، أن تتحالف إمبراطورية رثة في طهران مع مشروع إمبراطورية رثة في موسكو لاحتلال سوريا فإن الهزيمة تلوح في الأفق للإمبراطوريتين الرثّتين. وسيشارك المجتمع الدولي، والرفض الشعبي في إيران وروسيا، في هزيمة هذا المشروع “الإستعماري” الجديد. وقد تكون معركة سوريا هي بداية أفول “إمبراطورية خامنئي” و”إمبراطورية بوتين“.
إجلاً أو عاجلاً، سيسأل الروس والإيرانيون مسؤوليهم عن “مصلحتهم” في القتال دفاعاً عن “هتلر” جديد! وقد بدأت منذ الآن أصوات “أرثوذكسية” بارزة في التصدّي لموقف بطريركية روسيا الذي لا يعبّر عن رأي الأرثوذكس في العالم.
إن “نكبة” الشعب السوري هي حدث تاريخي. وهذه “النكبة” ينبغي أن تدفع النُخَب العربية إلى إعادة النظر في كل مفاهيمها وإيديولوجياتها، وأول ذلك الإعتراف بدور الفكر القومي-الإستبدادي، والإسلام السياسي، في ما حلّ بسوريا والعراق.