نشر “الشفّاف” قبل أيام، في إطار مقال عن إعتقالات وقعت في مدينة “جدة” السعودية، نص بيان يُطلِق عليه السعوديون، في ما يبدو، تسمية “بيان الحامد” مع أنه موقّع من عدد من الشخصيات السعودية. وقد نشر موقع “الحوار والإبداع” السعودي، يوم الإثنين الماضي، مقالاً للدكتور متروك الفالح يتناول موضوع “الملكية الدستورية” الذي أثير قبل إعتقالات الإصلاحيين المشهورة قبل 3 سنوات.
ونحن نعيد نشره هنا (أنظر المقال) نقلاً عن “منبر الحوار والإبداع”.
مع ملاحظتين:
أولاً، إن صيغة ” اقرار الحقوق والحريات العامة والأساسية التي أقرتها الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية” التي ترد في مقال د. متروك الفالح تبدو أقرب إلى الواقع، وإلى المنطق، وإلى التاريخ الحقيقي، من الصيغة الواردة في ما يسمّى “بيان الحامد”.
فتحت عنوان “معالم في طريق الملكية الدستورية/دولة الدستورالإسلامي/دولة العدل والشورى”، جاء في مقدّمة البيان:
“هذا التصور الواعي لطبيعة التعاقد السياسي بين الشعب والقيادة؛أكده شيوخ الإسلام في مواقفهم ومقولاتهم، فقهاء العهد الأموي كالحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وأئمة المذاهب الفقهية الأربعة:مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، وفقهاء العصر العباسي، كالغزالي والجويني والقرطبي، وابن عطية وابن حزم، ولا سيما فقهاء ما بعد العباسي، الذين أدركوا أسباب انهيار الأمة، كابن تيمية وابن القيم، والعز بن عبد السلام والشاطبي وابن خلدون..”.
وهذا كلام جميل، خصوصاً أننا لم نكن نتوقّع أن يكون لإبن خلدون “حظوة” في السعودية. ولكن هذا الكلام الجميل لا يصمد أمام الواقع التاريخي. بكل بساطة، فليس صحيحاً أن تجربة الإسلام التاريخية، أو تجربة العرب التاريخية، تمهّد لـ”دولة الدستور الإسلامي” أو لـ”الملكية الدستورية”. لم يحدث ذلك في أية حقبة من حقبات الحكم الإٍسلامي. هذا هو الواقع. أي أن تجربة الحكم الإسلامي لم تشهد التطوّر الذي شهدته أوروبا والولايات المتحدة واليابان نحو “الملكية الدستورية”.
طبعاً، يمكن للإصلاحيين “الإسلاميين” في السعودية (وليس مهمّاً إذا كانوا “إخوانيين” أم لا) أن يجدوا في الإسلام مبادئ “العدل” و”الشورى” و”الصالح العام” ومبادئ أخرى كثيرة تتّفق مع فكرة “الملكية الدستورية”. ولكن هذه التأويلات كلها ستصطدم بالواقع التاريخي “العنيد”: وهو أنها، تاريخياً، لم تسفر عن تجربة حكم دستوري وبرلماني (لا يغيّر شيئاً إذا أطلقنا عليه تسمية “مجلس شوري”) في أي نظام “إسلامي”، لا في الماضي ولا في الحاضر. علاوة على ذلك، سيجد دعاة الحكم التقليدي (دعاة إستمرار الأمر الواقع السياسي) أدلّة كثيرة في الفقه الإٍسلامي تبطل فكرة “الملكية الدستورية” والبرلمان المنتخب. والأرجح أن موقف “التقليديين” سيكون الأقوى “إسلامياً” لأنهم سيستندون إلى “الإسلام التاريخي”، أي “الإسلام الواقعي”، في حين سيبدو مطلب “الملكية الدستورية” بمثابة “بدعة” إٍسلامية.
طبعاً، نحن مع “الملكية الدستورية” ومع البرلمان (وليكن إسمه “مجلس شورى”)، ولكن لا مفرّ من الإقرار بأن تجربة العرب والمسلمين التاريخية لم تسفر عن نظام الحكم المنشود هذا. وهي، أيضا، لم تسفر عن إختراع “الإنترنيت” ولا سيارة “المرسيدس”، ولا “الساعة السويسرية”، وكلها الآن باتت من “ثوابت” حياة الأمة. لقد تطوّر الفقه الإسلامي ليقبل، ولو على مضض أحياناً هذه “البدع” العصرية (معركة إدخال “التلفزيون” إلى السعودية، مثلاً)، ولكنه يظل على جموده منذ ما بعد عهد “المأمون” ربما في ما يتعلّق بالشأن السياسي.
يبدو لنا أن “بيان الحامد” يحاول القفز على هذه المعضلة الفقهية التاريخية بتجاهلها. فهل صحيح مثلاً أن فكر إبن تيمية يمهّد لمبدأ “المواطنية” الوارد ضمناً في بيان الحامد؟ وهل يتقبل فكر إبن تيمية وغيره مبدأ مساواة “الشيعة” و”المرأة” (توجد ملامح في مدرسة الإمام الإوزاعي، التي اندثرت.. مع الأسف) في اختيار إنشاء “مجلس: لنواب الأمة (أهل الحل والعقد)..”، كما يرد في بيان الحامد؟
ولماذا ينبغي للمسلمين أن “يلووا” مفاهيم عتيقة ويحمّلونها فوق ما تحتمل، خصوصاً أن المطالب الواردة في بيان الحامد تمتلئ بتعابير تعود، وبكل بساطة، إلى الفكر “الحديث”، أي “الغربي”، أي “غير الإسلامي”؟ هل يستطيع أحد أن يدلّنا على تعبير “ناشطين” و”مجلس نوّاب” و”مجتمع مدني” في الفقه الإسلامي؟
كان يكفي أن يُقال أن الإسلام ينسجم مع مبادئ “العدل” و”المساواة” و”الأخوّة”، مع الإعتراف بأنه يحق للمسلمين أن يستعيروا من غير المسلمين (“أطلبوا العلم ولو في الصين”) ما يرونه مناسباً لمجتمعاتهم من المجتمعات الأخرى. (أعطيناهم “الجبر”، فلماذا لا نأخذ منهم فكرة “المجتمع المدني” بدل الإكتفاء بـ”ساعة الأوميغا”؟).
ثم، لو افترضنا أنه تحقّق مطلب “الملكية الدستورية” و”مجلس النوّاب” بناءً على مقدّمات “إسلامية” بحتة، فهل سيعود “نوّاب الأمة” في كل نقاش قانوني لإبن تيمية- الآن في القرن الواحد والعشرين؟
ببساطة، الإسلام، أي القرآن الكريم والسنّة النبوية (ما هو ثابت منها) أسبق من تأويلات الفقهاء. والمسلم يجد دينه في القرآن والسنة وليس في إبن تيمية وليس حتى في مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل. “الإسلام” يمكن أن يبطل كلام “الفقهاء”، والعكس ليس صحيحاً. هذا بديهي، مع أن المسلم الحالي يخلط بين دينه وتفسيرات الفقهاء، فلا يقرأ القرآن الكريم والسنّة النبوية إلا على ضوء التفسيرات. وهذا المبدأ، لو تم تطبيقه بحذافيره، يعني أن المسلمين الذين عاشوا قبل هذا الفقه لم يكونوا “مسلمين”!
لكن الأخطر من هذه الفرضية “النظرية” هي أن محاولة تحميل الفقه الإسلامي ما لا يحتمل، تصطدم بالمشكلة الكبرى التي تواجه العرب والمسلمين الآن، وخصوصاً في العراق وغير العراق، وهي مشكلة “الطائفية”. ونقصد بـ”المسلمين” هنا كل “المسلمين”، أي السنّة والشيعة والإسماعيليين على السواء. فمن هذه الزاوية “لا فضل” لفقه شيعي على فقه سنّي، أو بالعكس. ولن يغيّر شيئاً إذا قام الشيخ القرضاوي باستضافة الشيخ رفسنجاني على قناة “الجزيرة” المشؤومة. فمبدأ “المواطنية” ليس، إطلاقاً، مبدأً “سنّياً” كما أنه ليس مبدأً “شيعياً”. إلا إذا قام “السنّة” و”الشيعة” بتجديد فقههم الديني، وهذا دونه عقبات مهمة، وفي طليعتها تهمة “التكفير” و”الزندقة”.. إن العودة إلى فكر الإمام محمد عبده قد تكون أجدى في هذا المجال من العودة إلى فقهاء العصر العبّاسي.
لهذه الأسباب كلها تبدو لنا مقدمة د. الفالح “اقرار الحقوق والحريات العامة والأساسية التي أقرتها الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية..” أقرب إلى الواقع والمنطق. خصوصاً أن بيان الحامد الذي يطالب بحريات سياسية “عصرية” ممتازة، يعود فيأخذ على الدولة السعودية أن ممارساتها التي تضيق على الحريات حالياً “تناقض ما وقعت عليه الدولة من مواثيق حقوق الإنسان، عربيا ودوليا”!! إذاً، عدنا إلى نقطة البداية: من قال أن مواثيق حقوق الإنسان العربية والدولية هي مواثيق ملزمة إسلامياً؟ أليس صحيحاً أن الأصولية الحديثة تنبذ فكرة “القانون الدولي” و”المجتمع الدولي” و”الأمم المتحدة” (رفض إبن لادن فكرة المجتمع الدولي منذ سنوات، ورفضها وحسن نصرالله في أول خطاب له بعد اشتعال الحرب في شهر يوليو الماضي..)؟ ومتى تمّت مصالحة هذه المواثيق “الدولية” (هل نسمّيها “الكفرية” أو “الشركية”، كما يفعل بعض الأصوليين) مع الفقه الإسلامي؟ أليست “طاعة الحاكم” مبدأ ثابتاً عند معظم أسلافنا من الفقهاء؟
أسئلة لا مفرّ منها، الآن أو في المستقبل. و”الآن” أفضل من المستقبل، قبل أن تلتهم نار الطائفية (التي تستند إلى فقه “إٍسلامي” من القرون الوسطى) بلاد العرب والمسلمين كلها.
وتبقى نقطة ثانية ملفتة للنظر. جاء في بيان الحامد:
“نطالب بإصدار مدونة للحقوق العامة، تمنع التعسف في الحرمان من الحقوق المدنية، كالكتابة والخطابة والسفر، وتمنع كافة أنواع التعسف البوليسي على حريات المواطنين. التي نالت المهتمين بالشأن العام، من كتاب وخطباء وإعلاميين، ودعاة للمجتمع المدني، من كافة التوجهات الاجتماعية والثقافية.
“وتلزم الجهات المتطاولة بأن لا يتجاوز الحرمان من الحقوق المدنية، كالمنع من الكتابة والسفر شهرا، إلا بناء على حكم قضائي، وتحدد الممنوعات والعقوبات والإجراءات وتوحد الجهات المخولة بالمنع، بمسطرة واضحة المعالم، وإجراءات التظلم والتقاضي، وتتسم بالشفافية والعلانية، لكي لا تستمر عبارة “أعمال السيادة”، معبرا للتجاوزات والهوى والتخرص وانتهاك حقوق المواطنين…”.
يُفهَم من هذا الكلام الممتاز، الذي “يبصم” عليه أي ديمقراطي عربي، مسلم أو غير مسلم، بدون تردّد، أن المطلوب “قوانين سياسية”أي” قوانين دستورية”. وهذا مطلب محقّ، وبديهي.
ولكن المدهش (إلا إذا كنا أسأنا الفهم) أن البيان لا يشير بكلمة إلى “القانون المدني”.
فتحت بند “تعزيز استقلال القضاء”، يتضمن بيان الحامد 11 مادة يُقصد منها تعزيز العدالة وتعزيز مراقبة القضاء للسلطة التنفيذية، كما هو معمول به في الدول الحديثة (وبعضها دول إسلامية). ولكن البيان يخلو من إشارة إلى ما يسمّى في الجدل السعودي “تقنين الشريعة”. فالمواد الإحدى عشر تستند، في ما يبدو، إلى تحسين عمل “القضاة”. هل يعني ذلك أن المطلوب أن تعتمد السعودية قانوناً “دستورياً” حديثاً يتلاءم مع القرن الواحد والعشرين (وهذا مطلوب فعلاً) وأن تظلّ، بالمقابل، على فقدان “قانون مدني” كما هو حاصل حالياً؟ هل يتجاوز بيان الحامد مشكلة “تقنين الشريعة” التي يعارضها معظم علماء السعودية ربما، بالتركيز على عمل القضاة والهيئات القضائية؟
هل يمكن للمجتمع السعودي أن يعتمد نظاماً سياسيا-إجتماعياً ذا “طابقين”: طابق “دستوري” عصري وحديث، وطابق “مدني” ليس فيه من القوانين إلا ما يسفر عنه “إجتهاد القضاة”؟ أليس في هذه الإزوداجية تعارض مع مبدأ المساواة بين المواطنين الذي تتضمّنه المبادئ الدستورية التي تطالب بها العريضة؟ وكيف يتساوى المواطنون إذا كان لكل قاضي أن يفسّر القوانين، أي “الشريعة”، بنفسه؟ ثم، كيف يستقيم إقتصاد، وكيف تستقيم علاقات إجتماعية، وحتى سياسية، إذا لم تستند إلى “قانون مدني” مدوّن ومحدّد بدقّة؟ ألا تعاني السعودية من هدر إقتصادي هائل لأنها دولة بدون قوانين واضحة ومحددة؟ واستطراداً، أليس “القانون” عدو “الإستبداد”؟
مرة أخرى، ليس في “الإسلام” ما يحول دون “تقنين الشريعة”. وحتى فقه القرون الوسطى المعتمد حالياً لا يعترض على هذا “التقنين”، وذلك، ببساطة، لأن هذه المشكلة لم تُطرَح في صيغتها الحالية في عهود الفقهاء المعتمدين. والأرجح أن كل تشدّد في موضوع “التقنين” يعود إلى إرادة ضمنية من طبقة رجال الدين “الحاليين” (وليس فقهاء العصر العبّاسي) في الدفاع عن سلطتهم المادية والمعنوية وعن إمتيازاتهم في المجتمع السعودي الحالي.
يكفي أن يقرأ المرء الصحف السعودية ليطالع سجالات وفتاوى حول قضايا مثل “التأمين”، والشراء بالتقسيط وغيرها. فهل ستظلّ مثل هذه المسائل المعقدة بدون تقنين لأن طبقة دينية منغلقة التفكير ترفض القانون “الوضعي”؟
الإصلاح السعودي بات فكرة مقبولة إلى حدّ ما، على مستوى الحكّام وفي المجتمع. ويُسجّل للملك عبدالله بن عبد العزيز أنه بدأ بخطوات إصلاحية حتى حينما كان وليّاً للعهد، أي حينما كان يقدّم لمجلس الشورى “المعيّن” ما يشبه “التقرير” عن نتائج جولاته الدولية! وهذه كانت “بدعة” في ممارسة الحكم السعودي.
والإصلاح المطلوب لا يقتصر على السعودية. فالعرب الآخرون ليسوا أفضل حالاً بكثير. ما الفرق بين مجلس الشورى السعودي المعيّن، ومجلس الشعب السوري الذي تعيّنه أجهزة الأمن البعثية، أو مجلس الشعب الذي ما يزال ينتظر الولادة في ليبيا؟ لكن ميّزة السعودية هي أن ولادتها كدولة ارتبطت مباشرةً بـ”الإٍسلام” (عبر “الدعاة” الوهابيين الذين كان القضاء أحد إختصاصاتهم، وواحداً من إمتيازاتهم بعد تأسيس الدولة). وهذا سبب إرتباط مشكلات الإصلاح فيها بمشكلة “الفقه الإسلامي” المستعصية. ولا مفرّ من معالجة هذا “الإٍستعصاء”، ولو أن معالجته قد تكون عملاً مطلوباً من المسلمين عموماً، في السعودية وخارجها، ومن المسلمين العرب تحديداً.
webmaster@metransparent.com
بيان الحامد ومقال الفالح وإصلاح الفقه في السعودية
جميلة جدا هي لمساتك ياأستاذ بيار علي بيان الحامد …وواقع الأمر الذي يبدو أنك لمسته وبـ(حرافة) أن الوضع السيء في المملكة يدفع الكل لأن يجتهد…وليس كل مجتهد بالطبع مصيب….!!!
وليس أدل علي ذلك من ذلك (اللندني) الذي ينظر بتشديد الظاء ومنذ سنوات… والحقيقة التي يعرفها كل سعودي بل ولايتمناها(!) زوال الحكم الحالي.. فهو وبكل مساوئه خير….من غيره…
لذلك فالتكنوقراط في المملكة أصبحوا يعرفون أن المهم في المرحلة الحالية إصلاح الأمور….وحسب…!!!!