“الحياة تعاقب أولئك الذين يصلون متأخرين”، هكذا توجه ميخائيل غورباتشوف إلى قادة ألمانيا الشرقية، في أكتوبر 1989، قبل شهر من سقوط جدار برلين. حينها كان مندوب الكي جي بي هناك، الملقب “بلاتوف” ليس إلا الرائد (الميجور) فلاديمير بوتين. عجّل الحدث التاريخي بعودة بوتين إلى بلاده كي يشهد “الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين”، أي انهيار الاتحاد السوفيتي حسب قوله، ولكي يتأهل لاحقا ليصبح رئيس روسيا الاتحادية في بداية هذا القرن.
ويا لها من مفارقة تاريخية بعد ربع قرن من الزمن على انهيار الجدار، أن ينبري أبو البرسترويكا غورباتشوف، عشية مجيئه إلى ألمانيا للاحتفال بذكرى حدث أسهم في صنعه، دفاعا عن الرئيس بوتين محملاً الولايات المتحدة مسؤولية التوتر المتزايد في العلاقات بين موسكو والغرب، ومؤكدا على قناعته التامة بأن “بوتين يدافع اليوم عن مصالح روسيا بشكل أفضل من أي شخص آخر”.
وفق قراءة تاريخية مختلفة عن القراءة الغربية لربع قرن مضى، يتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة بأنها سعت لفرض نموذجها الأحادي والمهيمن، بعدما اعتقدت أنها انتصرت في الحرب الباردة. ولذا منذ حرب جورجيا في صيف 2008 ما فتئ زعيم الكرملين يؤكد ضرورة وضع “نظام عالمي جديد يضمن الاستقرار والأمن”، أي أن تكون هناك “قواعد جديدة”، أو أن “تصبح اللعبة الدولية دون قواعد”. وهذه الرؤية لها تبعاتها: إن اعتماد اقتصاد السوق بالنسبة إلى بوتين لا يعني الالتحاق بالقيم الغربية، وأن الانتخابات ما هي إلا لتشريع نظام قوي، وليس من أجل الديمقراطية، وترافق ذلك مع استنهاض للأمة الروسية والتركيز على وجوب معاملة بلد مثل روسيا بالاحترام الواجب.
هذه الخلفية الأيديولوجية، وهذا الغلاف السياسي، كانا ضروريين للمبارزة من سواحل المتوسط إلى البحر الأسود. على محك الحرب الباردة الجديدة مع واشنطن، يزداد فلاديمير بوتين تصميما وزهوا إزاء تطور مسار التاريخ وتعرجاته، وربما امتلأ “القيصر الجديد” اعتدادا حتى الثمالة، حينما تصفح مجلة فوربس الأميركية ولاحظ تصدره، للعام الثاني على التوالي، قائمة الأشخاص الأكثر نفوذا في العالم التي وضعتها هذه المجلة.
بيْدَ أن ليس كل ما يلمع ذهبا، وهذا ما ينطبق على حصاد بوتين على ضوء الأزمة الأوكرانية والممارسات الأخرى داخليا وخارجيا. منذ نجاحه في تنظيم الألعاب الأولمبية في سوتشي، وضم شبه جزيرة القرم، واستمرار الصراع في شرق أوكرانيا وجنوبها. يريد بوتين إعطاء الانطباع بأنه احتوى تداعيات “ثورة الميدان” في كييف، وانتصر في اختبار القوة على واشنطن والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
لكن النظرة الواقعية للاقتصاد الروسي (علامات سقوط النظام المصرفي وتراجع كبير لسعر صرف الروبل بالرغم من ضخ 30 مليار روبل لدعمه) والعودة إلى مناخ الحرب الباردة ليستا في مصلحة بوتين على المدى المتوسط، ولا يستبعد أن يقود بلاده إلى مأزق كبير وربما حرب عالمية حسبما يعتقد المؤرخ الروسي فيلشتينسكي، الذي حذر من مخاطر إدخال قوات روسية إلى شرق أوكرانيا واحتمال اشتباك الطائرات الروسية مع طائرات حلف الناتو. وهذا يتقاطع مع تحذير رسمي للأمم المتحدة مساء الثاني عشر من نوفمبر، إذ قالت إنها “تخشى من العودة إلى حرب شاملة في شرق أوكرانيا”. جرى ذلك بعد التأكد من تورط روسي إضافي حيث كان الاعتقاد أن الانتخابات الأخيرة في كييف والاتفاق المؤقت حول تصدير الغاز الروسي، يمكن أن يفتحا الباب للتفاوض وفق اتفاق مينسك في سبتمبر الماضي. والملفت أن تصعيد بوتين يأتي بعد الانتخابات التي نظمها الانفصاليون الموالون لروسيا في شرق أوكرانيا، وبعد لقاء خاطف، غير ودي، مع أوباما على هامش قمة أيباك في الصين، حيث كانت النظرات الحادة بين الرجلين توحي بالشرخ بينهما، وتذكر بأن الرئيس الأميركي ندد “بالعدوان الروسي في أوروبا” في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، وفي منتصف أكتوبر اتهم بوتين أوباما باعتماد موقف معاد لروسيا.
بعد ربع قرن على سقوط جدار برلين ينقسم العالم وتنقسم أوروبا من جديد من بوابة الحدث الأوكراني. وواشنطن البعيدة والتي يمكن أن تخطط ليكون غازها الصخري بديلا للغاز الروسي في أوروبا، تمسك بخيوط اللعبة، ويبدو الاتحاد الأوروبي عاجزا عن التحكم في إدارة الأزمة.
لكن في المحصلة العامة تبقى روسيا بحاجة ماسة إلى الأسواق الأوروبية وإلى التعاون مع أوروبا. وما التخطيط للانفتاح البديل نحو الصين، والعقود العملاقة للطاقة إلا رهان على المدى المتوسط، إذ تنقل أوساط مطلعة في قطاع الطاقة أن الصين رفضت دفع مبلغ 25 مليار دولار كسلفة لبناء أنابيب الغاز وهذا لن يسهل تنفيذ المشروع، وتعاني روسيا، حاليا، من انخفاض أسعار النفط، علما أن كعب أخيل اقتصادها هو تبعيته لصادرات المحروقات وعدم تنوعه.
بالإضافة إلى المتاعب الاقتصادية وإلى بدء التذمر السياسي الداخلي من السلطوية الممتشقة لسيف الإنجازات القومية، تبدو أوكرانيا بمثابة الفخ لروسيا وليس فقط بمثابة المكسب الاستراتيجي. بالرغم من الطابع الاستعراضي وعمليات القضم الروسية التي تمتد من القرم إلى الشرق، هناك استنزاف وخسائر لموسكو، إذ تحدد مصادر أوكرانية الخسائر الروسية بحوالي 4 آلاف مقاتل. وفي حال أي مجابهة مع الناتو فوق البلطيق أو البحر الأسود، لا يوجد عند روسيا سوى بضع طائرات من الجيل الجديد مقابل 400 طائرة عند حلف شمال الأطلسي، بيد أن لاعب الجودو سيسعى إلى اعتماد أسلوب المباغتة، وتجنب المواجهة المباشرة خاصة أن واشنطن تمتنع عن تسليح أوكرانيا وتحاول أن يبقى النزاع محصورا.
هكذا من الصعب أن يسلم بوتين بخسارة كبيرة في حديقته الخلفية في أوكرانيا، ولذا يحتفظ بالورقة السورية بقوة، ويدخل على الخط في الملف النووي الإيراني حتى يلجأ، في لحظة ما، إلى مساومة مع نظيره الأميركي. بوتين الأكثر نفوذا والأكثر إثارة للجدل هل يمكن أن يكون براغماتيا، أم يخسر يوما كل شيء على طريقة الروليت الروسية؟
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب