يشير منح المغني والموسيقي والشاعر بوب ديلان جائزة نوبل للآداب الاعجاب. انّه اعجاب بشاعر كانت كلماته تحرّر العقل بعد تحويلها الى اغان. انّه أيضا اعجاب بالقدرة الكامنة لدى اللجنة التي اتخذت قرار تكريم بوب ديلان على إعطاء نوبل الآداب معنى جديدا وبعدا إنسانيا وحضاريا في آن. جددت اللجنة نفسها بعدما كادت ان تقع في فخّ الجمود والابتعاد عن الجموح الى الخيال والخلق والابداع.
في اميركا المتوحشة التي يستطيع فيها دونالد ترامب ان يكون مرشّح الحزب الجمهوري للرئاسة، لا يزال مكان للشاعر الذي ارتبطت موسيقاه واغانيه وكلماته بالشعور الإنساني العميق لدى المواطن الاميركي العادي، خصوصا في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. كان الشباب الاميركي وطلاب الجامعات يعترضون عبر الموسيقى والاغاني والتظاهرات الصاخبة على سياسات ظالمة مثل الاستمرار في حرب فيتنام.
كان بوب ديلان في كلّ وقت جزءا من هذا النضال الذي جعل حلم مارتن لوثر كينغ يتحقّق، ولكن ليس الّا بعد بعد اغتيال القسّ الأسود صاحب الخطبة المشهورة التي بدأها بعبارة: “لديّ حلم”. كان مارتن لوثر كينغ في الواقع ينادي بالمساواة بين السود والبيض، وكان بوب ديلان من بين الذي غنّوا من اجل ان يأتي اليوم الذي يصبح فيه هذا الحلم حقيقة.
قاوم بوب ديلان على طريقته. قاوم بكلمات اغانيه التي لا تزال ترمز الى رفض الظلم وتدعو الى المساواة والى ممارسة ثقافة الحياة. كان جزءا من تيار عريض ساهم في انهاء حرب فيتنام وإخراج اميركا من هذا المستنقع. كان جزءا من أولئك الشبان الذين يرفضون الحرب ويريدون التمتع بمباهج الحياة بدل العودة في صناديق خشبية من فيتنام.
لعب ديلان دوره في نشر ثورة الشباب التي سعت الى نشر مفاهيم جديدة في عالمنا. لم تكن الثورة الطالبية في فرنسا بشعاراتها السوريالية مثل “ممنوع المنع” في ربيع العام 1968 بعيدة عن الثورات التي شهدتها الجامعات في الولايات المتحدة حيث كان نجم بوب ديلان في صعود مستمرّ على هامش حرب فيتنام ونضال السود من اجل الحرّية والمساواة ومجتمع اقلّ توحّشا.
لخصت الناطقة باسم نوبل الآداب السبب الذي دفع الى إعطاء الجائزة الى موسيقي قبل ان يكون شاعرا بقولها انّ بوب ديلان “ساهم في خلق عبارات شعرية جديدة في اطار الاغنية الاميركية التقليدية”. كانت هناك تغريدة استثنائية للمغني ليونارد كوهين الذي كان اسمه واردا، الى جانب بوب ديلان، بين المرشّحين لنوبل الآداب. غرّد كوهين: “كان انجاز بوب ديلان إنجازا عملاقا. انا ماتيس (نسبة الى الرسّام هنري ماتيس) وكان (ديلان) بيكاسو. لكني اقف برهبة واجلال امام بيكاسو”.
اخرج نيل بوب ديلان نوبل الآداب الجائزة من الرتابة. لم تذهب الجائزة الى المغني الاميركي الذي بدأ حياته الفنّية قبل أربعة وخمسين عاما، بل ذهبت الى الشاعر الذي بقي رمزا لجيلين قاوما الحرب الباردة طويلا، وعملا على تجاوز الحدود بين الشرق والغرب باسم الانسانية من دون ادراك لخطورة ما كان يمثله الاتحاد السوفياتي او صين ماو تسي تونغ و”ثورتها الثقافية” التي دفع ثمنها ملايين الصينيين قتلوا بدم بارد باسم “الثورة”.
كان على أبناء الجيلين من مواليد اربعينات القرن الماضي وخمسيناته التصالح مع النفس في نهاية المطاف واكتشاف انّ كلّ ما ناضلوا من اجله كان احلاما… بعضها تحقّق مثل القضاء على التمييز العنصري في الولايات المتحدة. كان هذا الجيل مخطئا أحيانا ومحقا في أحيان كثيرة، لكنه كان يمثّل في كل وقت البراءة والروح الانسانية. لم يدرك عظمة الولايات المتحدة واهمّية ميزة الانفتاح التي يتمتّع بها المجتمع الاميركي. هذه الميزة أوصلت رجلا اسود اسمه باراك أوباما الى البيت الأبيض في العام 2008، علما انّه تبيّن بعد ثماني سنوات في البيت الأبيض ان أوباما خيبة كبيرة ولا علاقة له بالشعور الإنساني. الدليل وقوفه موقف المتفرّج، بل المتواطئ، على اكبر مأساة يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهي مأساة سوريا وشعبها الذي لا ذنب له سوى انّه يريد استعادة بعض من كرامته.
ليست نوبل الاداب تكريما لبوب ديلان وشعره ولثقافة الحياة التي دافع عنها فقط. ليست، فقط، تكريما لرجل عبقري مزج الكلمة بالموسيقى والصوت العذب الذي يعبّر في معظم الأحيان عن كثير من الحنان والقلق في الوقت ذاته.
انّه تكريم لاناس موجودين في كلّ انحاء العالم. في اميركا وأوروبا والشرق الاوسط. كانت لدى هؤلاء أحلام كبيرة اخذهم اليها بوب ديلان وغيره من المغنين مثل ليونارد كوهين، او سكوت ماكينزي الذي اطلق في العام 1967 “اذا كنت ذاهبا الى سان فرانسيسكو”، او جوان بايز التي تحوّلت اغانيها أناشيد ثورية ودعوة الى السلام والعدالة في عالم لا يرحم.
كان لا بدّ للاحلام من ان تنتهي يوما وان يعود الشباب الذين اطلقوها الى ارض الواقع. ففيتنام، التي انتصرت على الولايات المتحدة، بفضل الاتحاد السوفياتي والصين، انتهت في الاحضان الاميركية. لم تعد فيتنام سوى دولة من دول العالم الثالث طموحها اطعام شعبها. لذلك لم يعد لديها من خيار سوى فتح أسواقها امام الشركات الاميركية الكبرى، بما في ذلك مطاعم مكدونالد”. امّا الشبّان اليساريون الذين لعبوا دورا مهمّا في الثورة الايرانية فذهبوا ضحيّة هذه الثورة التي اكلت ابناءها وهجرت الانتليجنسيا الايرانية من البلد الذي كان يتقدّم بخطوات سريعة في اتجاه الالتحاق بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم خلال السنوات الأخيرة من حكم الشاه…
حصل بوب ديلان على نوبل الآداب من الاكاديمية السويدية التي يبدو انّها ارادت قلب الموازين المعتمدة في هذا المجال. ارادت مكافأة رجل على كونه مغنيا وموسيقيا قبل ان يكون شاعرا. يشبه بوب ديلان كثيرين من أبناء جيلي في لبنان امضوا شبابهم يحلمون. كان هناك حلم بتحقيق العدالة الاجتماعية وبمستقبل افضل في حال التخلّص من لبنان القديم وسياسييه. الى ان تبيّن ان لبنان القديم بسياسييه التقليديين، يظلّ افضل بكثير من لبنان الذي تتحكّم به ميليشيا مذهبية اسمها “حزب الله”. كنّا شبانا نعتقد ان تحرير فلسطين ممكن من لبنان، الى ان اكتشفنا انّ كلّ الذين اطلقوا هذا الشعار أرادوا المتاجرة بفلسطين وان الفلسطينيين انفسهم كانوا ضحايا اولئك الذين زجوهم في حرب استهدفت القضاء على لبنان وعلى مدينة مرتبطة بثقافة الحياة اسمها بيروت.
على الرغم من ذلك كلّه، بقي بوب ديلان يمثلني. يمثل الامل بإمكان تغيير العالم ويمثل في الوقت ذاته الصدمة التي ولدت من رحم الانظمة الثورية التي لم تكن سوى ديكتاتوريات تقوم اوّل ما تقوم على احتقار الانسان وقمعه.
امتلك بوب ديلان ما يكفي من الشجاعة للعودة الى قيم لا علاقة لها سوى بالانسان. كانت لديه عودة الى الجذور، هو الذي مرّ بكلّ المراحل التي يمرّ فيها انسان طبيعي يحلم بالخير والعدالة. ظلّ يعمل من اجل عالم افضل. قام بكل ما يستطيع القيام به غناء وموسيقى وشعرا. استطاعت اللجنة التي تمنح نوبل الآداب تجديد نفسها من خلاله وإعطاء انطلاقة جديدة اكثر شمولية للجائزة التي كاد العالم ان يعتبرها من لزوم ما لا يلزم…