طبقا للأكاديمي الباكستاني المقيم في أستراليا “خــُرّم إقبال” فإن قضية الأقلية البلوشية سواء في باكستان أو في إيران لم تعد قضية منسية، وإنْ كان مستقبل رجالها وتنظيماتها المتمردة غير مؤكد ويحيط بها الكثير من الغموض والضبابية، في ضؤ التعتيم الاعلامي عليها في طهران وإسلام آباد، ناهيك عن المتغيرات الجارية في المنطقة.
فقبل وقت طويل من جلسة إستماع في الكونغرس الامريكي في الثامن من فبراير 2012 عن خروقات حقوق الإنسان في بلوشستان الباكستانية، فرضتْ القضية نفسها على الساحات المحلية والاقليمية والدولية، بدليل الإعتذار الذي قدمه الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري في وقت سابق للشعب البلوشي عما أرتــُكب بحقه من ظلم وتهميش، وهو الإعتذار الذي تفاده ويتفاده حتى هذه الساعة النظام الإيراني.
والدليل الآخر في هذا السياق نستقيه من محاولات حزب الشعب الحاكم في إسلام آباد (يتزعمه حاليا شخصية بلوشية هي آصف زرداري) خلال السنوات القليلة الماضية إيجاد بعض الحلول المناسبة لمشاكل “بلوشستان” التي تعتبر الولاية الأكبر حجما في البلاد، وذلك تفاديا لمشاكل أكبر مع المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية كمنظمتي “أمنيستي انترناشيونال” و “هيومان رايتس واتتش” اللتين نقلتا قضية البلوش إلى الكونغرس الإمريكي، وطالبتا واشنطون بحث الميليشيات البلوشية على عدم إستهداف المدنيين من غير البلوش وعدم التعرض للأقلية الشيعية داخل الإقليم وخارجه، مع مطالبتهما للإدارة الإمريكية بمعاقبة إسلام آباد وجيشها وإستخباراتها على أعمالها القمعية ضد الشعب البلوشي، ولا سيما أعمال الخطف والقتل التي طالت المئات من النشطاء من محامين وصحفيين ومدرسين، وهو ما نفاه قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق كياني نفيا قاطعا ملقيا باللوم على حكومة بلوشستان المحلية التي لا تطبق القانون والنظام ، ولا تتعاون مع الحكومة المركزية في إنعاش إقليم بلوشستان وتطويره على حد زعمه.
والمفيد هنا التذكير بأن تمرد البلوش كثيرا ما صورته إسلام آباد ومؤسستها العسكرية والإستخباراتية على انها تمرد لقوى اسلامية متشددة تستقي أفكارها من أفكار الجماعات المتطرفة التي تقطن الولايات الافغانية الجنوبية المحاذية، بينما صورته قوى اليسار الباكستاني والإعلام الغربي على أنه حركة تحرر علمانية مناهضة لأفكار القاعدة وطالبان، وصوره فريق ثالث بأنه مجرد حركة إحتجاج من صنع العدو الإمريكي لتقسيم باكستان مرة أخرى بعد إنسلاخ بنغلاديش أو ما كان يعرف بالجناح الشرقي للدولة الباكستانية. أما الحقيقة فهي أن البلوش، في غالبيتهم العظمى، يطمحون إلى الإنفصال وتكوين كيانهم الديمقراطي المستقل الذي يحميهم من التهميش الطويل، ويوفر لهم العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، ويوفر لهم موقعا في نظام العولمة وإقتصاد السوق، بينما تطمح أقلية منهم إلى نيل الحكم الذاتي في إطار الدولة الباكستانية المسلمة (هؤلاء من ذوي الخلفيات الإسلامية المتشددة التي لا تريد ان توصم بأنها تسببت في تشرذم المسلمين)
وحين يقارن المراقب أوضاع البلوش في باكستان بأوضاعهم في إيران، فإن أولى الملاحظات هي أن طهران مارست ضد شعبها البلوشي العنف والتفقير الممنهجين، وسلبتهم كل حقوقهم الأساسية بما فيها حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية وفق مذهبهم السني. أما إسلام آباد فلئن دشنت في إقليمها البلوشي مشاريع تنموية صغيرة بمساعدة صينية (مثل تطوير وتوسعة ميناء غوادر على بحر العرب)، فإنها من جهة أخرى عملت على تغيير التركيبة السكانية للإقليم، وذلك عبر تشجيع الكثيرين من الإثنيات البنجابية والكشميرية التي تجيد التحدث بالبلوشية للنزوح إليه من مواطنها الأصلية. وهذه الخطوة لئن ساهمت في تقديم الحد الأدنى من التحديث في الإقليم، بسبب ضعف أو إنتفاء القدرات التعليمية والتأهيلية لدى السكان الأصليين، فإن النازحين تم التعامل معهم من قبل البلوش بصدود وإزدراء، وإتهموا من قبل الميليشيات البلوشية بالشيطنة والعمل كطابور خامس للإستخبارات الباكستانية، بل وتم قتل بعضهم بوحشية.
الأمر الآخر الذي لا مناص من التطرق إليه هو التغييرات التي طرأت على مواقف وأهداف وأساليب عمل التنظيمات البلوشية المقاتلة منذ إنتفاضات البلوش في الخمسينات ثم السبعينات. ففي الماضي كانت الميليشيات البلوشية تختار أهدافها بعناية، وتركز على ضرب المنشآت والأجهزة العسكرية والإستخباراتية فقط، وتتجنب في عملياتها إلحاق الضرر بالأملاك العامة والمدنية، وذلك بغية كسب الإحترام والمصداقية في الخارج وخصوصا في الدول التي يعيش فيها قادتها السياسيين مثل بريطانيا والهند وألمانيا وسويسرا. غير أنها في السنوات الأخيرة – ربما بسبب إصابتها بالإحباط – تخلت عن تلك الإستراتيجيات، جاعلة خطواتها تتسق مع خطوات غيرها من الجماعات المسلحة المتمردة ضد حكوماتها. فجيش التحرير البلوشي مثلا صارينفذ عمليات إنتحارية ضد عناصر ومنشآت الدولة الباكستانية. أما غيره مثل جماعة ” لاكشار بلوشستان” المتطرفة فقد مدّت عملياتها إلى خارج إقليم بلوشستان لضرب منشآت الكهرباء وأنابيب النفط والغاز والسكك الحديدية (مثل محطة سكة حديد لاهور التي فـُجرت في 23 ابريل) وحافلات الركاب (مثل حافلة الركاب التي كانت تقل خبراء من الأرصاد الجوي والتي أستـُهدفت في منطقة سعيد آباد في 11 يوليو)، وقنصليات الدول الأجنبية (مثل القنصلية الصينية في كراتشي التي أستـُهدفت في 23 يوليو المنصرم)
صحيح أن هذه التغييرات أوجدت شعورا بالإنتشاء عند المقاتلين، ورفعت معنوياتهم المنهارة، ووسعت من مساحات تحركاتهم، لكن الصحيح أيضا أنها قد تشوه قضية الشعب البلوشي العادلة، وتقدم صورة متوحشة عنهم في الخارج، وبما يجعل هذا الخارج مترددا في دعمهم ومؤازرتهم في المحافل الدولية.
بعض الجماعات البلوشية المقاتلة، ولا سيما تلك التي لا تقر بأن هدفها النهائي هو الإنفصال عن باكستان، وإنما تفسر عملياتها بأنها مجرد إستراتيجية لخلق حالة من الذعر والخوف عبرالبلاد كي يتم الإعتراف بحقوق الإثنية البلوشية على قدم المساواة مع الإثنيات الباكستانية الأخرى كالبنجابية والسندية والبشتونية تتخوف اليوم مما سيحدث عقب إنسحاب قوات التحالف من أفغانستان في عام 2014 . وبعبارة أخرى فإن وجود تلك القوات مع حضور هندي واضح في أفغانستان ما بعد طالبان أمـّن لسنوات طويلة تدريب المقاتلين البلوش وإيصال الأسلحة والإمدادات إليهم عبر الحدود الوعرة مع أفغانستان، لكن برحيل قوات التحالف، وإحتمال تصدّر الطالبانيين للمشهد الأفغاني مجددا، وإحتمال ضمور الدور الهندي في أفغانستان فإن اليد العليا ستكون للمؤسسة العسكرية الباكستانية التي لن تتردد في قطع دابر كل من يعين الشعب البلوشي في حراكه.
ويقول المحلل الباكستاني أمير مير بأن هذا الوضع يذكر المرء بما حدث لحركة انفصالية اخرى هي حركة نمور التاميل في سريلانكا التي نشطت ونجحت كثيرا إلى حد إستيلائها على معظم مناطق التجمعات التاميلية بفضل ما كانت تقدمه لها الهند المجاورة، وتاميل المهجر من معونات وإمدادات مالية ولوجستية، لكن تغيير نيودلهي لموقفها معطوفا على دعم صيني غير محدود للقوات الحكومية السريلانكية حسم الأمر لصالح الاخيرة وقضى على آمال التاميل نهائيا في إنشاء وطن مستقل لهم أو حتى سلطة ذاتية.
ونختتم بالتساؤل عن أسباب تحمس واشنطون لمعاناة البلوش في باكستان وعدم تحمسها بالقدر نفسه للدفاع عن بلوش إيران رغم أن الأخرين يتعرضون لقمع أشد؟
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh