جوانب من بلادة ذهنية في تناول غالبية الممانعين من بيننا، حتى الأذكى من بينهم، الأنبه من بينهم… للحالات السياسية، لم يتغير واحد من ملامحها منذ ما يقارب القرن وحتى الآن:
عبوديتهم للزعيم الفاشل، الدموي، القديم أو المبتدىء. بشرط واحد: أن يكون صاحب عقيدة محاربة أميركا واسرائيل. “محاربة” بالمعنى التي يسمعها. وهي تتراوح بين محاربة نظامية، أفضت الى هزيمة، وبين مقاولة في الباطن، وأفضت الى خراب سياسي… لا فرق بين الذين “واجهوا”، أو ما زالوا، أو شرعوا، “يقفون بوجه أميركا”؛ من عبد الناصر مروراً بصدام الى القذافي الى بشار والسيسي. وجميع هؤلاء يحتلون في تاريخ الممانعة مرتبة شرف، مهما يكون فعل ببلاده ومواطنيه… المهم انه “حارب”…
خلف هذا النوع من العبادة، عقيدة، تتجذر كلما عتقت: تقول العقيدة بأن أولوية الوجود كله، العام والخاص، يجب ان يكون منكبّاً على محاربة أميركا واسرائيل… كل من يبرز على الخشبة حاملا هذا السيف، يرتفع الى السماء، ويحرّم عنه النظر… ويصير ساعتئذ “كاريزماتيكي”، ثم “أيقونة”، مهْبط وحي…
وما يزين هذه العقيدة هو تراث عريق في عبادة القوة؛ القوة هي الشرعية. وان نجاح الحاكم لا يتوقف على ما أضافه الى عيش مواطنيه من تقدم وكرامة أو حتى كهرباء… إنما كيف انه ما زال محتفظاً بالسلطة بالرغم من “وطنيته” وتحدياته، وكيف انه يعدّ القوة اللازمة منذ عقود أحياناً لـ”ضرب العدو”. القوة هنا قوتان: واحدة من سراب، موجهة ضد “العدو”، والثانية من كيمياء ودماء موجهة ضدنا، ضد المواطن. وهذا الأخير… مسكين، يتصور ان هذا النيل منه هو ضريبة يدفعها ثمناً لوقوف زعيمه الممانع ضد العدو وتضحياته الخ…
في وسط اللامعقول هذا، تحتل العواطف الصدارة. “الحب” أو “الكراهية”، من خندق “الممانعة” هما اللذي يصيغان الرؤية. عقيدة الأولوية وطقوس العبادة وسطوة الحب-الكراهية، ثلاثة زوايا ترسم الحدود والسقوف الفكرية للـ”ممانعين” من أصحاب القلم أو القول: ونتيجتها ان جلّهم لا يراقب، لا يسجل، إلا ما يؤكد عواطفه، لا يستنتج إلا ما يدعم حجته، لا يرى إلا ما يثبت جهنمية “عدوه”، السري والعلني. لذلك فمهما قدم من أوراق اعتماد بـ”حريته”… فانه في النهاية لا يخرج بأي جديد، اللهم ذاك القليل الذي يعطي البرهان على التمسك بعقيدة أولوية محاربة أميركا…
لا دليل على ذلك أقوى من تلك “المبادرة” التي أطلقتها إحدى الصحف صاحبة العقيدة “الممانعة”، بأن أعادت نشر مقالات رئيس تحريرها الراحل عشية الغزو الأميركي للعراق (2003)… نشرته الآن، بعيد الإعلان عن الضربة الاميركية ضد الأسد. القصد من هذه المبادرة هو إثبات المثبت، أي العقيدة، ولكن بقوة عقل كاتب المقالات، وثقافته واطلاعه ونفاذ بصيرته، فضلاً عن “موقعه” طبعاً. وليتهم لم يفعلوا… في العنوان أولا: “جوزيف سماحة يكتب عن الحرب على العراق”، يشطبون “العراق” ويضعون الى جانبها “سوريا”؛ أي افهم أيها القارىء، ان الأيقونة كانت سوف تقول الكلام ذاته، لو كانت ما زالت على قيد الحياة. نحن لا نستطيع ان نتكهن، لو بقيت الأيقونة على قيد الحياة، إذا كانت صمدت على ثوابتها “الممانعة”، أم انها كانت قد دخلت مرحلة الشكوك، خصوصاً بعد الثورة السورية. القيمون على الصحيفة “الممانعة” أنفسهم لم يحتاطوا لذلك، وقد اصابتهم سهام الثورة السورية. ولكنهم مع ذلك، هم متأكدون دائماً مما يفكرون؛ ثابتون على عهدهم. أرادوا ان يقولوا بأن الأيقونة كانت سوف تقول الكلام ذاته عن “الضربة” الاميركية، ولكنهم لم يوفّقوا أبداً، كما يتصورون. إذ ان مقالات الأيقونة الأربع هي، بعد عشر سنوات على نشرها، خليط من الأخطاء في التقديرات واللغة التي بتنا نراها قديمة بخشبيتها. وهي تكرار أبلسة الولايات ووصفها بأشنع الأوصاف، من الكذب الى الهيمنة الى الإجرام…الخ. وبالتوازي، لا تحرم نفسها من الحطّ، السهل والمريح، بـ”الانظمة العربية” وتخاذلها وتواطؤها وتسليمها لواشنطن…الخ. كلهم متآمرون، ومعهم اسرائيل، ضد الممانعة، هدفهم الأسمى “إخضاع الممانعة”… هكذا يردّ على أصحاب الرأي النقيض، من غير أن يخوّنهم أو يهددهم… يردّ عليهم بالمعادلة الأبدية، من دون أي تعديل، من أن: “التحرر الوطني شرط ضروري، ولو غير كاف، للبناء الذاتي…الخ”.
كلمات خشبية إضافية كانت ستقولها الأيقونة لو كانت على قيد الحياة، برأي الصحيفة “الممانعة”… ولكن ما الذي يجعلها متأكدة الى هذا الحدّ، هي التي شهدت نزفاً بشرياً مع انطلاق الثورة السورية؟ لا شيء غير “إيمانها” الثابت بهذه العقيدة.
لحظة: هذه البلادة ليست طارئة ولا تقتصر على الممانعين. فلاسفتنا ومفكرينا، وعلى امتداد أطول، لم يجدوا غير خندقين في طرحهم للإشكاليات التي كانوا يرونها تستحق السؤال. مع ان اتجاهات الواقع متناقضة، وما زالت حتى عصية على الوصف المتكامل… انه نوع من العناد الفكري، الذي يتصور التفكير كفعل حرب، أو فعل مرابطة في الحرب. حيث المطلوب صبر على التقلبات والمحن، والتمسك بالموقع “الفكري”، أو الهيبة “الفكرية”، مهما كلف الثمن. هكذا يفكرون، بشموخ المرابطين. يفكرون وكأنهم يرابطون. والمطلوب منهم، عندما يرون من البعيد غريباً أي عدوا، ما عليهم سوى الصراخ بإيماناتهم، حتى يبتعد هذا العدو، أو يقتل. هكذا يفكرون… وهم ما زالوا يفكرون، كما كانوا منذ دهور. يفكرون أو يرثون أو يهزمون، لا فرق… المهم انهم ثابتون بثوابتهم وهم عزيزو النفس برثاثتهم… سلفيون مودرن.
قد يعترض بعض من يصل الى نهاية هذا المقال بأن هذه الطريقة معهودة أيضا لدى “المعسكر الآخر”: دوغمائيون، مكررون، أصحاب أفكار خشبية، يعلكون، هم أيضاً، محاجاتهم، ويتنهدون أمام الأميركيين، باعجاب وحب….الخ. صحيح، ولكن مع الفرق، وهو ان هذا المعسكر خليط. بينهم موقن بالخطر الاميركي وقابل بثمنه، أو هو أصلا ينشده منذ عامين، أو مناهض للتدخل الأميركي وللـ”ممانعة” في آن، أو يخجل من البوح بموقف، لكي لا تُحسب عليه لو إن بشار، لا سمح الله… إنتصر!… ولكن من قلبه يريد تدخل، أو يخجل من البوح به، خوفاً من مناخ تخويني من حوله، يشدّه الى الخلف…
في هكذا اختلاط تولد الأفكار الجديدة؛ في تضعضع القناعات، في تجزئتها، في قلق إيجاد كلمات جديدة تسمي أشياء جديدة.
الخلاصة، ان معسكر “الممانعة” مثل قلعة محصنة من التفكير، مرتفعة الأسوار ومنيعة عن الخرق. قلعة تفكير مقدسة، لا يجوز النيل من عقيدتها المؤسسة، “أولوية المحاربة…”؛ فيما معسكر غير الممانع مثل مختبر تفكير متنوع الموارد والتجارب والحساسيات. تجد فيه كل شيء. الـ”مع” والـ”ضد”، الأولوية وغير الأولوية، دخول أميركا وخروجها… مختبر ضخم متنوع يغري بالـ”إختراق”. والمفارقة ان هذا التنوع هو أيضا نقطة “ضعف” في ميزان القوة مع “الممانعين” ذوي التجانس الصلب، أصحاب الكلمة الواحدة المقدسة.
وللبحث صلة…
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل