لماذا لم يضع كاتب التحليل التالي، الشيّق، الذي نشرته “سويس أنفو”، إسمه على المقال؟ الجواب البديهي هو أنه حصل على معلوماته من مصادر لا ترغب بنشر أسمائها. ولكن ذلك التفسير لا يكفي: فالطبيعة العسكرية-الأمنية للنظام الجزائري ما تزال تجعل التغطية الإعلامية مسألة معقّدة وخاضعة لحسابات دقيقة. الجزائر ربما باتت أفضل إعلامياً مما كانت قبل سنوات، ولكن الطريق ما زال طويلاً للوصول إلى صحافة شفّافة وأقل تأثّراً بضغوط الطبقة الحاكمة!
الشفاف
*
بعد الهجوم الدموي على “عين أميناس”: العلاقات الجزائرية – الفرنسية إلى أين؟
أعلن رئيس الوزراء الجزائري أن 38 عاملا أجنبيا وجزائريا واحدا قد قتلوا في محطة للغاز في الصحراء الكبرى وأن خمسة ما زالوا مفقودين بعد انتهاء أزمة احتجاز الرهائن التي استمرت أربعة أيام ونسّق لها رجل يحمل الجنسية الكندية.
وأضاف عبد المالك سلال في مؤتمر صحفي عقده في الجزائر العاصمة يوم الإثنين 21 يناير 2013 أن 29 متشددا قتلوا في العملية التي أنهتها القوات الجزائرية يوم السبت 19 يناير باقتحام المحطة وأن ثلاثة اعتقلوا أحياء. واحترقت بعض الجثث بشكل يجعل من الصعب التعرف على أصحابها. وقال رئيس الوزراء الجزائري إن سبعة من الرهائن القتلى لم يتم التعرف عليهم لكن يُفترض أنهم أجانب.
وفي انتظار الكشف عن المزيد من التفاصيل عن أطوار هذه العملية غير االمسبوقة وهوية المورطين فيها، يمُوج الشارع الجزائري والساحة الإعلامية والسياسية في البلاد بالعديد من التساؤلات شملت الموقف من العمليات الفرنسية في مالي المجاورة وطبيعة العلاقة “الجديدة” مع باريس.
عودة إلى زيارة هولاند
قبل سُـويعات من وصول الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى الجزائر في ديسمبر 2012، اجتمع دبلوماسيون فرنسيون مع حفنة من الصحفيين الجزائريين، العاملين في أكثر صحف البلاد نفوذا، وهي الخبر والوطن وليبرتي ولوسوار دالجيري، وأبلغوهم أن تطوّرات هامة ستشهدها العلاقات الفرنسية الجزائرية، وأن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد قبِـل اتخاذ خطوات جريئة جدّا، قد تُساعده للفوز بعُهدة رئاسية رابعة.
وقد روى أحد الصحفيين الذين حضروا اللقاء لـ swissinfo.ch، كيف ألَـحّ الصحفيون على الدبلوماسيين، معرفة تفاصيل أكثر. ويضيف الصحفي الذي يشتغل في يومية الخبر الناطقة باللغة العربية: “لقد سألناهم هل هناك مشاريع اقتصادية فرنسية رفضها بوتفليقة، ثم سيقبلها؟ أم أنه سيتنازل عن فِكرة الطّلب من فرنسا إدانة لتاريخها الإستعماري في الجزائر؟”.
تفكك الطلاسم..
لقد كان الإجتماع غريبا، كما يروى الصحفي، تلاه بعد يومين نشْر حِوار مع الرئيس الفرنسي، كُـتِب بعناية ولم يزد عن بِضع جُـمل حسن نوايا ومشاريع صيغت لُغتها بدبلوماسية غاية في الدقة، ثم عندما حلّ فرانسوا هولاند بالجزائر، بدأت الطلاسِم تتفكّك.
أول طلْسَـم حلَّ، كان إعلان هولاند في خطابٍ توجّه به إلى الطلبة الجزائريين في جامعة تلمسان أن “هناك تغييرا دستوريا هاما في الجزائر، سيخدم الديمقراطية والمستقبل السياسي للجزائريين”.
لم يصدّق غالبية الجزائريين ما جرى. فكيف لرئيسٍ فرنسي على أرض جزائرية، يتحدّث عن إصلاحات دستورية تخُـصّ الجزائريين وحدهم؟ ورغم محاولات swissinfo.ch المتكررة وتوجيه السؤال إلى العديد من رِجال السياسة في الجزائر، وبخاصة من أحزاب الإئتلاف الحاكم، إلا أنها لم تجِد أي إجابة. فقد رفض الجميع التعليق على ما جاء في خطاب الرئيس الفرنسي.
تنازلات بوتفليقة.. لماذا؟
في معرض تعليقه على ما جرى، يُعلِّـق ناصر الدين سعدي، مدير وكالة أنترفاكس الجزائرية قائلا: “لقد أوضح أصحاب القرار ما يعتقدونه بشكل لم يسبق له مثيل، وأعتقد أن الربيع العربي جنح بهم إلى هذا الإتجاه، بسبب عدم وجود طَـبقة سياسية حقيقية تُخيفهم، وقد أثرت العشرية السوداء وعنفها في طريقة تفكير الجزائريين، وزاد التفكيك المُبرْمَـج للطبقة السياسية، ليُشجِّع أهل القرار في الجزائر، كي يميلوا بكل ثِقلهم تُجاه فرنسا”.
وقبل محاضرة تلمسان في 20 ديسمبر 2012، اجتمع الرئيسان، الجزائري و الفرنسي، في قصر الرئاسة بالمُراديّة وتحدّثا عن مواضيع شتّى، ثم بدأت ترشح أخبار عن تنازلات قدّمها بوتفليقة للطّرف الفرنسي، سرَّبتها مصادر دبلوماسية ألمانية وأمريكية وبلجيكية، التقت بها swissinfo.ch، حيث عبَّر الطرف الأمريكي عن “قَبوله التام” بالتعاون الفرنسي – الجزائري من الناحية الأمنية.
وأضاف الدبلوماسي الأمريكي: “بالنسبة لأزمة مالي، فإننا نقبل بمساعدة فرنسا للجزائر، ونؤيِّـد تعاوُن الجزائر مع الطّرف الفرنسي، فلا نحن نفهم لُغة الطوارق ولا عندنا في مصالح استخباراتنا أو قواتنا العسكرية مَن يعرِف المنطقة أفضَل منهما”.
مباركة الدول الغربية
بدا حديث الدبلوماسي الأمريكي غريبا في تلك الأيام أي قبل قرار فرنسا مُنفردة “كما يبدو” الدخول في حرب مالي، حيث لم يكن واردا خلال فترة زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي (19 و20 ديسمبر 2012) مدى تشابك العلاقات ما بين الحكومة الجزائرية وفرنسا بالشكل الذي يجعل دُولا غربية تُبارك نتائجها وتجعل منها تطوّرا استراتيجيا لم يسبق له مثيل.
المصادر الدبلوماسية ذاتها أضافت قائلة: “نحن لم نتوقّـف على اعتبار فرنسا، البلد الذي يُوجِّهنا سياسيا في الجزائر. فتشابك العلاقات التاريخية ما بين البلدين وارتباط الطبقة السياسية الجزائرية الحاكمة بفرنسا، يجعلنا نؤيِّـد قرار بوتفليقة دعْـم العلاقات الثنائية، خاصة من الناحية الأمنية والجيو – استراتيجية”.
وقد أيّـدت الدبلوماسية البلجيكية رأي الأمريكيين والفرنسيين، واعتبرت أن الوقت قد حان لتغييرٍ جِذري يخدِم الأمْن في المنطقة بأسْرها.
طلاسم.. وحلول
من المنطقي أن يتساءل البعض: “كيف لم تفهَم الطبقة السياسية الجزائرية والصحافة ماهية هذه التحليلات؟” والواقع، أن الطَّـلْسم الثالث قد حُـلّ، عندما أعلن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أن “الرئيس الجزائري سمح للطائرات الفرنسية بالتّحليق فوْق التراب الجزائري، كي تقوم بعملياتها في مالي”.
هنا استفاق الجميع على وقْع عهْد جديد. فقبلها رئيس فرنسي يعلن عن إصلاحات دستورية جزائرية مُرتقبة، ثم يتلوها إعلان وزير خارجية فرنسا عن سماح الجزائر بتحليق الطائرات الفرنسية فوق الأجواء الجزائرية، في حين لم يعلن أي مسؤول جزائري ولا حتى الرئيس بوتفليقة نفسه عن مثل هذه القرارات الهامة.
الملفت هنا أن تاريخ الجزائر الحديث منذ استقلالها، لم يشهد مثل هذه الطَّـلاسِم وحلولها، ومن الواضح أنها “مسّت الضمير الجزائري في الصّميم”، كما كتَب المحلِّل السياسي سعد بوعقبة في يومية “الخبر” الواسعة الإنتشار، وتلاه زمرة من الصحفيين والمحللين الذين رأوا فيما جرى “كارثة على استقلال البلاد وكرامتها”، لكن عارضهم صفٌّ مُعتبر من الصّحف الناطقة بالفرنسية وبعض الصحف المُعرَّبة، وكذا القنوات التلفزيونية، التي سمحت الإدارة الأمنية الجزائرية بفتحها في الفترة الأخيرة (وهي قنوات النهار والشروق والجزائرية والهُقار تي في).
ففي هذه القنوات مُرّر الصوت الرسمي بشكل لافت، ونادرا ما سمع صوت مُعارض أو منتقد للتحرّكات الدبلوماسية الأخيرة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ولِقائل أن يقول: هل يستحق الأمر كل هذا النّقد؟ ثم ماذا عن الرأي العام الجزائري؟ لقد كان الجواب عن هذا السؤال صعْبا للغاية بعد بدء العمليات في مالي، حيث أيّـد البعض وعارض البعض الآخر، إلا أن الأمر لم يتجاوز أعمدة الصّحف وحواديث المقاهي والنوادي أو مظاهرة يتيمة غيْر كثيرة العدد، قادها الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، علي بن حاج.
تنديد بالهجوم وتأييد للرئيس
هذا الطَّلسم حُـلّ بدوره، عندما هاجمت مجموعة مسلحة “إرهابية” محطة تمييع الغاز الطبيعي بعين أمناس (700 كلم جنوب شرق الجزائر). لقد تحقَّق عبْر هذا الهجوم، أفضل ما تمنَّـته مصالح الإستخبارات والاستعلام الجزائرية، التي يبدو أن حدسها قد صدق تُجاه شعبها…
فقد أيّدت الغالبية الساحقة للجزائريين، الطريقة التي تعاملت بها قوات الجيش مع المهاجمين، ولم ينتقد أحد مقتَـل أكثر من أربعين رهينة أجنبية واعتُـبِـر الهجوم من قِبل الغالبية العظمى من الجزائريين، هجوما أجنبيا على البلاد، يريد إضرار الجزائر في أهَـم مصدر من مصادر استرزاقها.
وعن هذا الموضوع بالذات، سألت swissinfo.ch الكثير من الجزائريين في المقاهي والمساجد والملاعب وفي الأحياء الراقية والفقيرة، وكان الجواب واحدا، بل إن الكثير من أئِمّـة المساجد الأشعرية والسلفية ندَّدوا بالهجوم أو أيَّـدوا سياسة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
حالة فـريدة من نوعها
هناك من المحللين مَـن يعتبر الحالة الجزائرية فريدة من نوعها، كونها انفردت وسط بلاد الربيع العربي برفضها للتغيير وقبولها بالتعاون مع الغرب، لضمان الإستقرار والأمن بأي ثمن، وتزامن هذا ببحبوحة مالية واقتصادية واجتماعية، لم يعرف الجزائريون لها مثيلا منذ الإستقلال بفضل الإرتفاع القِياسي لأسعار النفط والغاز، وتمكَّـن الكثير من الجزائريين من الإستفادة من القروض المصرفية، إما مباشرة وإما بمساعدة الحكومة.
ولا تُشبه قروض الحكومة الجزائرية، القروض التي قدّمها بن علي أو مبارك للمستثمرين أو لفئات من شعوبهم قبل سقوطهما، إذ أن قروضهما لم تكن ترتكز على نفس القوّة المالية، التي تستند إليها الحكومة الجزائرية، التي يُوجد لديْها الآن فائِض مالي يُقارب مائتي (200) مليار دولار أمريكي.
ويرى محلِّلون جزائريون أن الأمر كما يبدو، قد لا يشكِّل كل الصورة. ويذكِّـر فيصل مطاوي، الصحفي بيومية الوطن، بما يسمِّيه “برنجسية” الشعب الجزائري، الذي سيخرج إلى الشوارع حارقا ومكسرا، إذا ما وصلت أسعار النفط إلى ثمانين دولارا للبرميل، أو أنه سيتأثر بموقِف رئيسه الذي سمح للطائرات الفرنسية بالمرور عبْر أجواء بلاده، إذا ما قصفت بالخطأ بيوت وقرى المدنيين الأزواد العُزّل.
مفترق طُـرق
تبدو الجزائر اليوم في مُفترق طُـرق لم يسبق له مثيل. فمصالح الأمن والرئاسة، تتعاون مع من كانوا يُعتبرون “ألدّ أعداء” الجزائر السابقين، حفاظا على استقرارٍ أمني لم تُشارك فيه لا فرنسا ولا حلفاؤها من البلجيكيين والأمريكيين والألمان. فقد اقتـتِـل الجزائريون فيما بينهم، واتفقوا على وقْف القتال وحدهم ولم يشترك معهم أحد في كلّ هذه القرارات والأحداث. فلماذا إذن تغيير وِجهة المعالِم الإستراتيجية للسياسة الفرنسية؟ يردّ دبلوماسي فرنسي بوثوق: “لم يتغير شيء على الإطلاق. فالمؤيِّدون لنا في دوائر الحُكم الجزائري كُـثر، وهذا منذ استقلال البلاد عام 1962”.
في المقابل، يُحلّل عدد من الخبراء الإجتماعيين الجزائريين الوضع بشكلٍ مُختلف حيث أكّدوا أكثر من مرّة، أن الموضوع برمَّته يتعلّق بتَعبٍ شعبي شامل وبخوف من انزلاق الوضع الأمني، كما في تسعينات القرن الماضي، إذ لا يمكن المساس بمبادئ المواطنين، إذا ما تعدَّت حدودا مُعيّنة. الحقيقة أن هذه الحدود لم تتأكّد معالِمها بشكل واضح، والذي يبدو واضحا الآن أن السياسة الجزائرية قد تغيَّرت بشكل جِذري وبأن الحرب على الإرهاب واستقرار النظام، هي التي لا يمكن مسّها، لأنها خطٌّ أحمر.
مع ذلك، نبَّه بعض المتابعين إلى إمكانية التدليل (مستقبلا) على عدم واقعية هذه السياسة، إذا ما تمكَّن الرئيس التونسي مُنصف المرزوقي مثلا من الإتفاق مع حكومته على سياسة وطنية فاعلة تُجاه الأحداث في مالي. هنا قد يتغيّر الموقِف الجزائري، الذي كثيرا ما استلهَم التغيير الإيجابي من جارته تونس، بسبب تعقيداته الداخلية التي لا تسمح بهكذا تغيير.