مقال ممتع من “الوطن” الجزائرية سيقدّره عشّاق الطرب في العراق والكويت الذين رحلوا يهودهم و”طَرَبهم” قبل سنوات عديدة!
ولم تصمد في وجه موجة الرحيل إلى الشمال عشية وغداة الاستقلال سوى أعداد محدودة من الأسر اليهودية، ومنها عائلة بلعيش (Belaiche)، وحيِّيم (Haim)، وعائلة صِرُورْ (Serror) التي بقي أحد أفرادها حاخاما في بيعة باب الوادي في قلب العاصمة الجزائرية إلى غاية نهاية الثمانينيات، وكذلك رُوجِيه سعيد (Roger Said)، من مدينة البليدة، الذي لا يزال يمارس المحاماة في الجزائر إلى اليوم بعد أن كان عضوا إلى جانب الأديب رشيد بوجدرة والمحامي ميلود ابراهيمي في لجنة رسمية لحقوق الإنسان في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد خلال نهاية الثمانينيات من القرن الماضي2. كما بقي عدد من أفراد عائلة سَاسْبُورْتَاسْ (Sasportas) (أو شِيشْبُورْتِيشْ)، وحَدَّاد والدَّرعي وغيرهم. إلا أن أغلب هؤلاء تركوا البلاد في السنوات الأولى لانفجار الأزمة السياسية التي أفضت إلى اقتتال رهيب بين الجزائريين طيلة عشرية التسعينيات، خصوصا بعد تعرض يهودييْن للاغتيال في قلب العاصمة الجزائرية أولهما حيِّيم لُزوم (Haim Louzoum) وثانيهما جُوزي شارل بلعيش (José Charles Belaiche) سنة 1993م في وقت طال العنف والاغتيالات كل الناس بلا تمييز، من رئيس الدولة إلى أبسط المواطنين3. كما اعتُدِيَ على مواطن يهودي آخر داخل محله وهو عبارة عن مَعْمل للزُّجاج في ضاحية بولوغين في العاصمة الجزائرية في جريمة من جرائم القانون العام ولا علاقة لها بالسياسة أو بديانته اليهودية وقد أُُصِيبَ خلالها بجروح خطيرة.
في خضم الرحيل الجماعي الذي واكب استقلال الجزائر إذن ، ذهب ليلي العباسي إلى العاصمة باريس وليلي بونيش إلى مدينة كَانْ (Cannes) بعد تردده على باريس، واختار كل من إيبيهو بن سعيد وصديقه الكفيف المعلم زوزو مدينة نيس (Nice). فيما استقر عازفُ الكَمَانْ سِيلْفَانْ غْرِينَاسية ونجلُه غاستون المعروف بأنريكو ماسياس في العاصمة الفرنسية حيث سمحت أجواء باريس الثقافية لسِيلْفَانْ ولابنه غَاسْتُونْ بسدِّ الرَّمق من الاشتغال بالعزف في المقاهي العربية واليهودية وفي الكباريهات التي كان يملكها جزائريون في حي سان ميشال.
كما التحقت بباريس أيضا الفنانة الكفيفة سلطانة داوود، وكذلك سيمون الطَّمَّار التي لم تفارق الجزائر إلا بعد سنوات قضتها في زخم وسط فن المالوف القسنطيني كما كانت في السابق قبل استقلال البلاد حيث أحْيَتْ الحفلات والأعراس باستمرار إلى غايةِ رحيلها. ولم يكن هذا الرحيل نهائيًا، لأن هذه الفنانة بقيتْ على اتصالٍ بالجزائر تزورها وتتردد على أصدقائها المسلمين من فترة إلى أخرى.
ترك هؤلاء الجزائر بمحض إرادتهم رغم كل الأقاويل التي تتردد في الوقت الحالي عن “طردٍ” مزعوم لم يؤكده حتى الذين يَدَّعونه، لا بشهادات رسمية ولا بتظلمات واضحة ومُوثَّقة، لأن هذه الأقاويل أصلا مجرد افتراءات وابتزازات سياسية تُطلقها عادة جهات صهيونية لا علاقة لها بالجزائر، وأحيانا لا علاقة لها حتى بهؤلاء الفنانين وغير الفنانين اليهود الذين تركوا البلاد في 1962م، وهي دعاية موجَّهة فقط للتوظيف السياسي الداعم للدولة العبرية…
وربما تسبب الترويج لهذه الادعاءات حتى في التأثير على مواقف بعض يهود الجزائر سابقا من أسباب رحيلهم عن بلادهم عند استقلال الجزائر وظروفه ، سواء تم ذلك عن طمع في تعويضات جزائرية أو دعما لإسرائيل أو مجاملة للنشطاء الصهاينة وربما حتى عن سذاجة أحيانا. ففي أبريل/نيسان 2000م عندما جمعنا لقاء بالفنان اليهودي تلمساني الأصل روني بيريز وسجَّلنا معه حوارا نشرته بعد بضعة أشهر صحيفة “الخبر الأسبوعي” الجزائرية ، بكى رُونِي كثيرا عند التطرق إلى ذكرياته في الجزائر. وتحدث عن رحيل سببه، على حد تعبيره، “تهديدات” طالت أسرته من عناصر تابعة لجبهة التحرير الوطني. لكن عندما ألححتُ عليه بالسؤال “هل قيل لكم بشكل مباشر أتركوا الجزائر وإلا قتلناكم؟”، تردَّد قليلا وكان جوابه: “الحقيقة لا، لم يحدث هذا الأمر” واتضح من كلامه أن الأجواء التي كانت سائدة وانعدام الأمن الذي طال جميع من كان يعيش في الجزائر إضافة إلى جرائم المنظمة المسلحة السرية (OAS) التي فرضت أجواء من الرعب وفقدان الأمل في إمكانية التعايش بين الجزائريين المسلمين و”الأوروبيين” الذين كان اليهود جزءا منهم، كل هذه العوامل مجتمعة خلقت أجواء من الخوف والهلع ودفعت هذه الجالية “الأوروبية” في أغلبيتها الساحقة إلى الموانئ والمطارات قاصدة “الوطن الأم” فرنسا…”.
فوزي سعد الله: يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة. الجزائر 2009م.
نشرته “الوطن” الجزائرية بعنوان “المغنون اليهود الجزائريون واستقلال البلاد“
من أين يمكنني إقتناء هذا الكتاب؟
Samirnawras@gmail.com