يُعزى الهبوط في أسعار النفط بنسبة 20 في المائة خلال الأشهر الثلاثة الماضية لمجموعة متعددة من العوامل، من بينها انخفاض النمو في الصين وضعف النمو في أوروبا وزيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط “الخفيف الربط”، الذي غالباً ما يُعرف باسم “النفط الصخري”. لكن كما هو الحال دائماً، تشكل سياسات المملكة العربية السعودية عاملاً رئيسياً في تحديد الأسعار. وبغض النظر عن ثروتها النفطية الضخمة، والتي تبلغ حوالي ربع الاحتياطات العالمية المؤكدة، تترأس المملكة أيضاً “منظّمة الدول المصدرة للبترول” (“أوبك”)، وهي عبارة عن “اتحاد” (“كارتل”) لمنتجي النفط – من دول الشرق الأوسط بصورة رئيسية – الذين يستفيدون من نفوذهم الجماعي في السوق للحصول على أفضل الأسعار. وبالتالي، فإن رد فعل الرياض على آخر التغيرات في الأسعار سيكون لها العديد من التداعيات داخل المملكة وخارجها.
منتج متأرجح
إن المملكة العربية السعودية التي تنتج أكثر من 10 بالمائة من النفط في العالم وتتمتع بتكاليف إنتاج منخفضة جداً، تعتبر “المنتج المتأرجح” في منظمة “أوبك”. وتشير آخر الإحصائيات إلى أنها تنتج أكثر من 10 ملايين برميل يومياً، بينما يمكنها ضخ نحو 12.5 مليون برميل يومياً. وفي الأوقات التي يرتفع فيها الطلب، تتيح لها هذه الطاقة الفائضة زيادة حجم إنتاجها، وبالتالي التخفيف من ارتفاع الأسعار، أما في فترات انخفاض الطلب، كما هو الحال الآن، فإن تكاليف إنتاجها المنخفضة واحتياطياتها المالية الكبيرة تعني أن بإمكان المملكة الصمود في وجه انخفاض عائدات التصدير، حيث لديها خيار دعم الإنتاج للحفاظ على حصتها من السوق (تصدير كميات أكبر من النفط، ولكن بسعر أقل) أو خفض الإنتاج للحفاظ على الأسعار (تصدير كميات أقل من النفط، ولكن بسعر أعلى).
وأي من هاتين المنهجيتين لا تسير بشكل مثالي. وفي الوقت الحالي، من الواضح أن المملكة قررت الحفاظ على حجم إنتاجها، وتحمّل انخفاض الأسعار. وفي الواقع، تساهم السعودية في تخفيض الأسعار من خلال خصم أسعارها الخاصة في المبيعات التعاقدية لعملاء في آسيا يُعتقد أنهم شركات تمتلك مصافٍ في الصين واليابان وكوريا الجنوبية. وبالتالي فإن التفسير الإقتصادي المقبول على نطاق واسع لهذه المنهجية هو أنه من خلال تخفيض الأسعار، يستطيع السعوديون إبعاد بعض المنافسين العالميين الذين يستخدمون أساليب إنتاج ذات تكلفة أعلى، مثل الشركات الكندية التي تنتج النفط الرملي والشركات الأمريكية التي تنتج النفط الصخري. بالإضافة إلى ذلك فإن الحفاظ على الأسواق مهم أيضاً بالنسبة للرياض – لا سيما في منطقة آسيا التي تشهد منافسة في هذا القطاع، والتي يمكنها أن تتحول بسرعة نحو مصادر غير سعودية مثل العراق، إذا ما خفضت المملكة من الإنتاج في محاولة منها للحفاظ على ارتفاع الأسعار. وعلى الرغم من ارتفاع تكاليف الشحن، تريد الرياض أن تبقى أيضاً من أكبر مصدري النفط إلى الولايات المتحدة، نظراً للأهمية الجغرافية- السياسية التي تراها في هذه العلاقة.
أما بالنسبة إلى المبدأ القائل بأن السعودية تحتسب مكاسبها السياسية بدقة عندما تؤثر على أسعار النفط، فقد وصل هذا المبدأ إلى ذروته منذ أربعة عقود، عندما أعلنت الدول العربية حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة بسبب دعم واشنطن لإسرائيل خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. ومع ذلك، نادراً ما سلكت الرياض اتجاهاً مماثلاً، والتصور الحالي هو أن السلوك السعودي يتصف بالتفاعلية بدلاً من السيطرة.
التوترات في العائلة المالكة
إن أحد أسباب قيام هذا الاعتقاد هو حالة الشيخوخة التي تمر بها القيادة في المملكة. فالعاهل السعودي الملك عبد الله، الذي بلغ الحادية والتسعين من عمره هذا العام، يعاني من سنوات من التدخين المفرط، ويعتمد حالياً على الأوكسجين المعبأ في زجاجات، ولم يعد قادراً على السير دون مساعدة. أما خليفته النظري وأخيه غير الشقيق، ولي العهد الأمير سلمان، فهو في الثامنة والسبعين من عمره ويعاني أيضاً من أمراض مختلفة. وقد أمضى مؤخراً شهراً في الخارج قيل رسمياً أنه يقضي “عطلة خاصة”، مما يعني أنه يتلقى العلاج الطبي.
ومن الناحية النظرية، يتخذ “المجلس الأعلى للبترول والمعادن” القرارات المتعلقة بالنفط السعودي، ويتألف هذا المجلس من الملك وكبار الأمراء والوزراء المعنيين، إلا أنه لم يصدر مؤخراً أي إعلان رسمي عن أي اجتماع للمجلس. وبدلاً من ذلك، يبدو أن هذه القرارات قد تُركت لحكم وزير البترول والثروة المعدنية علي النعيمي الذي يشغل منصبه منذ فترة طويلة. وعلى الرغم من أنه في أواخر السبعينات من عمره وكان قد صرّح عن تطلعه إلى التقاعد، إلا أن النعيمي لا يزال يحتفظ بقبضة قوية على الأمور، وفي وقت ليس بالبعيد هدّأ الأسواق بكلامه الرزين الذي أصبح مشهوراً به.
لكن يبدو أن [المفتاح] السحري الذي يستعمله النعيمي لم يعد فعّالاً، والأسوأ من ذلك أنه أدى إلى عرض علني نادر عن الانقسام القائم في العائلة المالكة. ففي 13 تشرين الأول/ أكتوبر، نشر رجل الأعمال البارز وابن شقيق العاهل السعودي، الأمير الوليد بن طلال، رسالة مفتوحة أعرب فيها عن خوفه من رباطة جأش الوزير الواضحة فيما يخص انخفاض الأسعار. واستشهد الوليد، الذي لا يتبوأ أي منصب رسمي في المملكة، بعدة تقارير صحفية كدليل، من بينها مقالة نُشرت في 11 أيلول/ سبتمبر في الصحيفة السعودية “سعودي غازيت” التي تصدر باللغة الانجليزية تحت عنوان “لا داعي للقلق”. وعلى الرغم من أن العنوان لم يكن اقتباساً فعلياً من تصريحات النعيمي وأن المقالة نُشرت في وقت كانت قد انخفضت فيه الأسعار إلى حوالي 95 دولار للبرميل الواحد فقط، إلا أن الصحيفة نقلت عن الوزير قوله، “دائماً ما ترتفع أسعار النفط وتنخفض لذا لا أعرف حقاً ما سبب الضجة الكبيرة حول هذا الموضوع في هذه المرة بالذات”. ومن المرجح أن الكثيرين في الرياض يصرفون النظر عن جرأة الوليد لأن والده الأمير طلال، الأخ غير الشقيق للملك، معروف بغرابة أطواره. بيد يكاد يكون من المؤكد أن هذه المناورة قد لفتت إنتباه الملك. فبالإضافة إلى توجيه الانتقاد إلى النعيمي، شملت رسالة الوليد طلباً ضمنياً من العاهل السعودي بطرد الوزير، حتى إنه ذكر حديثاً نبوياً شريفاً حول حسن التدبير يقول بما معناه أن “القائد الحقيقي لا يخدع شعبه”.
إذا بقيت أسعار النفط ضعيفة كما هو متوقع، قد تشعر الرياض بأنها مضطرة إلى إيجاد كبش فداء، وبالتالي قد يمسي النعيمي المتقادم في السن، في الواقع ضحية سياسية. وتقليدياً، كان وزراء النفط السعوديون من التكنوقراط من خارج العائلة المالكة مثل النعيمي. وبإمكان مدرسته الأم على الصعيد المهني – شركة النفط أرامكو السعودية التي تملكها الدولة – أن توفر العديد من المرشحين المؤهلين جداً لتولي منصبه، على الرغم من أن الملك عبد الله قد يفضل شخصاً من وزارة المالية أو البنك المركزي. أما الشخص الآخر الذي من المحتمل أن يتولى المنصب فهو مساعد وزير النفط ونجل ولي العهد، الأمير عبد العزيز بن سلمان. وعلى الرغم من أنه قد وُصف بأنه يطمح لشغل هذا المنصب، إلا أن العاهل السعودي قد يتردد في تعيينه بسبب السياسة الأوسع نطاقاً المتعلقة بالخلافة الملكية. إذ يبدو أن الملك عبد الله يفضل أن يكون الأمير مقرن وهو أخ آخر غير شقيق له هو الذي يخلفه في الملكية – وفي وقت سابق من هذا العام عيّن العاهل السعودي الأمير مقرن نائباً لولي العهد. لذا فإن الملك عبد الله قد لا يحبذ تعزيز قاعدة سلطة ولي العهد الأمير سلمان، في الوقت الذي يحاول تهميشه.
التحديات التي تواجه المملكة
على الرغم من أن الانخفاض الحالي في سعر النفط سيُظهر من جديد تأثير السوق السعودية، إلا أن الوضع لن يمر من دون بعض التأثيرات السلبية في الداخل اذا ما استمر على المدى الطويل. إذ يُعتقد أن المملكة تحتاج إلى ما لا يقل عن حوالي 80 دولار للبرميل الواحد لتلبية متطلباتها للإنفاق في الميزانية من دون الوقوع في عجز. فاحتياطياتها النقدية الضخمة توفر لها وسادة اقتصادية كبيرة – ولكن ليس بلا حدود – في مواجهة مثل هذا العجز. على سبيل المثال، إذا انخفضت عائدات النفط إلى نصف أعلى مستوياتها في عام 2013، ستستمر الرياض في امتلاك المال الكافي للمحافظة على دعمها السخي والرواتب والمنح التي تقدمها لسنوات قادمة. ويعتبر هذا السخاء ضرورياً للعقد الاجتماعي الضمني للمملكة ألا وهو: أن شعبها يتقبل افتقاره للحريات الديمقراطية نظراً إلى الكرم الأبوي لعائلة آل سعود. لكن انخفاضاً كبيراً في السعر سوف يُنظر إليه على أنه فشل سياسي، مما قد يؤدي إلى تنشيط المعارضة، التي ربما قد تشمل أولئك الشباب السعودي المتطرف (ومجندين جهاديين محتملين) الذين يزدرون آل سعود.
وعلى المدى القصير، تريد الرياض الحفاظ على زعامتها [السياسية] للعالم الإسلامي والعربي ، وفي وقت قريب أكثر، على سيطرتها على منظمة “أوبك”. فالإجتماع المقرر للمنظمة في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر في فيينا، بدأ يتشكل بالفعل على أنه تجمّع سينعقد في جو مليء بالمشاحنات. إذ تعارض المملكة العربية السعودية أي تخفيضات في سقف الإنتاج الحالي للنفط، وهو موقف تدعمه الكويت والإمارات العربية المتحدة، حليفتاها في الخليج العربي. إلا أن فنزويلا وإيران، وأعضاء آخرين من الذين تتطلب ميزانياتهم أسعار نفط مرتفعة، ربما سيحثون على إجراء تخفيضات. وترى الرياض على الأرجح أنه سيتعين عليها تحمُّل الجزء الأكبر من أي من هذه التخفيضات، لذا سيأتي موقفها معارضاً. بالإضافة إلى ذلك، لا تميل المملكة قط إلى التخفيف من الألم الاقتصادي على إيران.
التداعيات بالنسبة للولايات المتحدة
أثار تراجع أسعار النفط مخاوفاً في الولايات المتحدة بشأن الجدوى التجارية لإنتاج النفط الصخري، الذي لم يعد بعضه يغطي تكاليف إنتاجه التي تبلغ نحو75-80 دولار للبرميل الواحد. وفي حين قد يشكل ذلك في الواقع مصدر قلق حقيقي إذا استمرت الأسعار في الانخفاض، إلا أن التحسينات في تقنيات التكسير الهيدروليكي تعزز من الهوامش. وفي غضون ذلك، ينبغي على عملية تراجع الأسعار أن تحسن من تأثير العقوبات الأمريكية على إيران وروسيا، في الوقت الذي سيؤدي الانخفاض الأوسع نطاقاً في أسعار الطاقة إلى تعزيز الاقتصاد الأمريكي والعالمي في النهاية. لكن السرعة التي تتراجع بها أسعار النفط هي التي تشكل تحدياً بالنسبة إلى صانعي القرار في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي فإن الكيفية التي تتصرف بها القيادة السعودية ستكون حاسمة للوصول إلى نتيجة على نحو سلس.
سايمون هندرسون هو زميل بيكر ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن.