سأحاول في السطور الآتية أن أستكشف بعضاً من مواطن الأخلاق الوهابية «البروتستانتية» التي أشار إليها بعض الباحثين، وهي تبين كيف أن روح التنافسية التي اصطبغ بها المجتمع النجدي الوهابي تضاهي بعضاً من ملامح الكالفينية والبيوريتانية، وإذا كان بعض مما سأورده قد يثير لدى القارئ فكرة أن بعضاً من جذور تلك الأخلاق تعود إلى العهد الأول والنصوص المؤسسة، فما الجديد؟ وهذا صحيح، فالوهابية سلفية لا تعدو أن تكون فكرة قامت بعملية «فلترة» في محاولة العودة إلى الأصول الأولى.
تكشف رسالة للشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب ضمن مجموعة الدرر السنية، عن مرارة شديدة وجدها الشيخ إثر انتقاد حاد وجهه إليه الشيخ حمد بن عتيق، وفيها يذكر ابن حسن كيف أن ابن عتيق يعيب عليه اهتمامه بزراعة أرضه وبالانشغال بالدنيا والتعلق بأذناب البقر وترك الجهاد، وذلك كان مؤلماً لأكبر علماء الوهابية في عصره، وفيها يؤكد ابن حسن أهمية الأكل من كسب اليد والاستغناء عن الناس مستشهداً بوصايا عن الرسول (ص) تشجع على العمل وتحض على الأكل من كسب اليد، ويسرد من أقوال المتقدمين ما يؤكد أهمية الاستقلال الاقتصادي للفقيه، ربما حتى لا يكون ممسحة يتمندل بها الملوك كما عبر سعيد بن المسيب ذات مرة(1).
وهي رسالة تعكس إحدى سمات الشخصية الوهابية الجوهرية التي كانت تركز على جانب العبادة والعمل، وتنفر من الرهبنة والنسك الصوفي، وهو ما أشار إليه راينهارد شولتسه في كتابه «الإسلام والسلطة» وهو يشير إلى انعكاسات الثراء على المجتمع الوهابي «لكن المثل الإحسانية القديمة لم يتبق منها سوى السلطة الأخلاقية للشيوخ الوهابيين الذين أصبحت مهمتهم الرئيسة توفيق التعاليم الوهابية مع ثقافة الثراء السعودية الجديدة. فقد حلت الوهابية هذه المشكلة ضمن إطار المفهوم التقليدي بأن اعتبرت الثروة والقوة نعمة من الله يجب قبولها»(2).
يأتي ضمن هذا السياق تفسير الشيخ محمد بن عبدالوهاب للآية رقم (97) من سورة النحل «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»(3)، وهو يوضح أن الحياة الطيبة ليست قاصرة على السعادة الروحية والرضا، بل تشمل ما هو أوسع وأشمل، فالحياة الهنيئة الرغدة والثراء الذي ينعم الله به على عباده ويقوم المسلم بأداء حقه، هو أيضاً من طيب الحياة المعجلة التي وعد الله بها عباده المؤمنين، وهذا ربما يفسر أيضاً سر الحظوة الكبيرة التي يتمتع بها أثرياء الصحابة مثل الزبير بن العوام وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف في الثقافة الدينية الشعبية عند الوهابية، خلافاً لأبي ذر وعلي بن أبي طالب، وهو ما يفسر النفرة الوهابية من أي ميول أو شطحات صوفية تحاول الترعرع ضمن الإطار الاجتماعي للنسق الثقافي الوهابي الصارم.
إن استعراضاً مختصراً لمعظم التراجم للعلماء الوهابيين القدامى والمتأخرين يبيّن كيف أن كثيراً منهم انشغلوا بالتجارة، ولم يكن من غير المألوف أن يكون كثير من تجار العقار بعد الطفرة في السبعينات هم من فئة العلماء أو الشيوخ الذين جمعوا بين الإمامة والخطابة والإفتاء والقضاء أحياناً وبين الثراء الفاحش، لقد اعتبر ذلك دائماً إحدى علامات رضا الله عن عبده، مشروطاً بقيامه بواجب تلك النعمة «وأحسن كما أحسن الله إليك»، وإذا كانت الزكاة هي حق المال، فإن أداء هذا الحق كان دائماً محفوفاً بالسرية والتكتم، وهو ما كان يصعب إثباته من دون رقابة الحكومة، وربما كانت بعض المساعدات التي يجودون بها بين الحين والآخر تصرف الأنظار عن المقدار المستحق من زكاة أموالهم، والذي يجب عليهم إخراجه، وقد ساهم في هذا الغموض أن ما كان يغلب على أثرياء النجديين، وخصوصاً أهل القصيم، هو التكديس وقلة الإنفاق والبساطة في المسكن والمركب وتجارة العقار التقليدية التي لا تعكس مظاهر الثراء. لقد كان بعض من اشتهروا بالتقوى والعبادة والحسبة والعلم بالدين هم ممن عرفوا بالثراء كما كان الحال مع الشيخ عبدالعزيز بن مرشد والشيخ أبوحبيب الشثري والشيخ حمود التويجري، وكانوا دائماً ينظر إليهم باعتبارهم نماذج لمن وفقهم الله لتقواه وجمع لهم بين السعة في الرزق وسلوك سبيل طاعته، وكان الشيخ فهد العبيد المتوفى في سبتمبر/ أيلول 2001 أحد أشهر الشيوخ المعروفين بالزهد والتقوى، ولقد أمضى معظم سنوات حياته لا يركب السيارة، ولم يسمح بإدخال الكهرباء إلى بيته، ولكنه كان أحد الأثرياء ومن تجار العقار، وبلغ حداً من الكرم والسخاء كان يقوم فيه بسداد ديون بعض مريديه ومساعدتهم في تغطية كُلف الزواج أو شراء سيارة! وهكذا الحال مع الشيخ فهد العشاب الذي توفي العام 1989 تقريباً مورثاً عشرات الملايين، وقد كان يملك حياً بأكمله ولكنه كان يلبس بتواضع ويأكل ما يسد رمقه، وبلغ حداً من الورع امتنع فيه عن دهان الواجهة الخارجية لمنزله بعد أن أقنعه احدهم بأن ذلك من التبذير. وتبدو النفرة الوهابية من أي ميول صوفية في التجافي الشديد من أية ممارسات أو عادات تبدو دخيلة وذات منبع صوفي متواكل، ويؤكد هذا العمق وتأثيره في الوهابيين النجديين الذين اعتنقوا أفكار جماعة التبليغ، وهي جماعة تميل نحو التصوف والتخفف من أثقال الدنيا، ومع أن كثيراً من مواعظهم مضمخة بالنزعة الجبرية ونفي السببية وجعل مرد كثير من الحوادث والتغيرات في الأفق وفي الأنفس والاجتماع إلى قانون «الاقتران»، بالمفهوم الكلامي، إلا أن الوهابيين التبليغيين يبقون لفترات طويلة محصنين ضد تواكل العجم ودروشتهم بحيث تبقى تلك الأفكار مفصولة تماماً عن الحياة الواقعية لهم. قد يلتبس هذا على البعض بالحظوة التي كان يتمتع بها الشيخ عبدالكريم الفارسي المعروف بالدرويش بين علماء الوهابية، ولكن الالتباس لن يكون له أي معنى إذا ما عرفنا أن الدرويش كان أكثر تشدداً من معظم العلماء الوهابيين في تطبيق تعاليم الإمام المؤسس. وكمثال واحد أورده مستأنساً به في هذا السياق قصة حدثت العام ,1987 وكنت شاهداً عليها حين أخضع أحدهم مرغماً لعلاج في المصحة النفسية بعد أن انكفأ في المسجد لأكثر من شهرين متفرغاً للعبادة والأذكار، وقد تلقى أحد أصحابي الذي لم يحتمل ذلك الموقف المحزن صفعات ساخنة بعد أن انخرط في معركة غير متكافئة لتخليص هذا البائس من قيوده بعد أن اقتاده العاملون الأشداء في المصحة النفسية إلى الباص، ولكننا كنا نعلم في الوقت نفسه أن مدينتي كانت تعج بعشرات أو مئات من أولئك المستهترين الذين تسببت لهم المخدرات والخمور بضياع بيوتهم وعدم الإنفاق عليها، ولكنهم لم يخضعوا لمثل تلك الإجراءات من قبل أهاليهم، لأن الخطر كان يكمن في أن تتحول تلك النزعة المتصوفة إلى أيديولوجيا تجد من يشجعها ويسمح بإفشائها فكان لابد من القضاء عليها، في بيئة لا تؤمن إلا بالصلاة والعمل، وكما كان متوقعاً فإن صاحبنا الذي كان مشروع درويش قد تخلى عنه الجميع من أولئك الذين جمعته بهم الألفة الدينية والحب في الله ومجالس الذكر. فالجميع كان يصدّق على تلك الخطوة والجميع كانوا سدنة لتلك الأخلاق. وهذا ما كان ينعكس في أولئك الأطفال الذين لم يجاوزوا الخامسة من العمر وهم يطوفون منذ التباشير الأولى للصباح أيام الخميس والجمعة بين دكاكين قبة رشيد والوسعة وينادون بأعلى صوتهم بكلمات لا تكاد تبين عن بضائعهم من المناديل والمناشف والجوارب، وتصيبك الدهشة من ذلك الطفل الذي يملك والده الملايين وهو يمسك على نصف ريال ويوضح لك بطريقة أخاذة تأسر القلب أن الثمن الذي تقترحه لا يفيده ولا يخارجه. وهي مظاهر تكاد اليوم تتلاشى بعد التحول الاجتماعي والثقافي والأخلاقي الذي يعيشه المجتمع منذ ما يقارب الأعوام الخمسة عشر.
(1) الرسالة موجودة في كتاب الجهاد من الدرر السنية، طبعة العام 1985 المعروفة بطبعة الملك سعود.
(2) القصيمي بين الأصولية والانشقاق، يورغان فازلا – دار الكنوز الأدبية – لبنان 2001 ص .94
(3) كتاب «التفسير» وهو الجزء العاشر من الدرر السنية، انظر مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
* كاتب سعودي
للحوار مع النقيدان: alngidan@yahoo.com
(نقلاً عن جريدة “الوقت” الكويتية)
الوهابية والأخلاق البروتستانتيةالحاجة إلى قفزة عقلية تناسب التطور التكنولوجي في فيلم (ما يعدل كل المخاوف The Sum of all fears) انفجرت قنبلة نووية في ستاد رياضي فجرها إرهابي سرقها من مستودعات الأسلحة النووية من الاتحاد السوفيتي الذي أصبح في ذمة التاريخ، وهي قصة تقول بالمخاطر التي تهدد الجنس البشري، ومع بزوغ الشمس المزدوج مع تجربة قنبلة البلوتونيوم 239 في صباح يوم 16تموز (يوليو) من عام 1945م كان إيذاناً بتحول نوعي في تاريخ القوة، وأصبح ولأول مرة في تاريخ الجنس البشري إمكانية إفناء الجنس البشري بالكامل، ولذا فإن أعظم تحد يواجه الجنس البشري اليوم هو تغيير عقلي يناسب القفزة التكنولوجية والعملية… قراءة المزيد ..