(هذه قصة قصيرة مستوحاة من أدب الرائع نجيب محفوظ)
جلس فتوة الحارة “امين النتن” متربعا على كرسيه في مدخل قهوة “عم عبد القدوس” في وسط حي الجمالية يشاهد رجوع معظم رواد القهوة من صلاة الجمعة في مسجد الحسين، وكان يوما خريفيا حيث هبت نسمة هواء لطيفة تذكر الناس بانتهاء فصل الصيف بحرارته ورطوبته وجاء الخريف بهدوئه ولطف نسائمه وانتشار باعة البلح الأمهات والبلح الزغلول على عربات اليد في الحواري المجاورة للقهوة.
جلس “امين النتن” مزهوا بقوته وعظمته بعد ان استتب له الأمر في المنطقة وخاض معارك كثيرة انتصر فيها على معظم فتوات الحارات المجاورة وتصالح أيضا مع العديد منهم وأصبح يؤمن ايماناً راسخا بأنه “لا محبة إلا بعد عداوة”. ولم يكتف “امين النتن” بتأثيره وبسط نفوذه على الحارات المجاورة، ولكن امتد تأثيره وعلاقاته إلى الأحياء الكبرى مثل حي السكاكيني وحي الظاهر وحي السيدة زينب وحتى حي مصر القديمة، بل ان بعض الإتاوات كانت تصله من تلك الأحياء البعيدة اتقاء لشره وضمانا لتأييده.
جلس مغرورا بنفسه ووضع على رأسه اللاسة الفخمة والمطرزة بخيوط ذهبية ووضع على كتفه كوفية مشغولة بالحرير، وأخذ يبرم شاربه الفخم ثم أمر أحد صبيانه بان يطلب له شيشة تفاح وشاي على “مية بيضة”.
ثم اخذ يحاسب بعض معاونيه على أهمية تحصيل الإتاوات في موعدها اول كل شهر وكذلك إتاوات إضافية في المواسم والأعياد، وعرف منهم ان كل شيء على ما يرام مع بعض الاستثناءات، ورد عليهم قائلا بصوته الجهوري:
- أنا ما عنديش حد ما يدفعش في الميعاد، مين ده اللي أمه داعية عليه ومش عاوز يدفع؟
فرد عليه مساعده الأول “سليمان كفته”:
- ما فيش غير الواد “حسين حمص” ابن ام حمص صاحب مقلة اللب اللي في اول الحارة هو دايما اللي بيتأخر في دفع المعلوم، وما بيجيش إلا بالضرب فوق دماغه
- جرى ايه يا سليمان، مش قلت لك تخلصنا من الواد ده، ضروري نعمله عبرة لكل اهل الحارة
- قريب نخلص منه يا معلم بإذن الله
…
كان “حسين حمص” لا يطيق امين النتن فتوة الحارة وكان يتهمه بانه اغتصب بيت الوقف الذي تركه لهم جده الحاج حمص، بالرغم من ادعاء امين النتن بان لديه حجة وقف البيت من قبل عهد الحاج حمص الكبير.
وكان حسين حمص يحاول دائما التهرب من دفع الإتاوة للفتوة، الأمر الذي سبب له ولامه وأخواته التسعة مشاكل كبيرة.
…
ويستمر النقاش بين المعلم امين النتن وأعوانه حول “الواد” حسين حمص، وختم الفتوة النقاش بان قال: “شوفوا لنا سيرة تانية غير سيرة الواد العفش ده”، وضحك ضحكة هيستيرية اعقبها ضحك كل اعوانه ورواد القهوة خوفا أو طمعا. وبينما هو في قمة ضحكه وانبساطه وسط اعوانه يظهر فجأة “الواد” حسين حمص ويقترب بسرعة خاطفة من خلف الفتوة امين النتن ويضربه بكل ما اوتي من قوة على قفاه ضربة رنت صداها في ارجاء القهوة وترنح أمين النتن من قوة الضربة وسقط من على كرسيه، ولم يكتف بذلك بل خطف اللاسة من فوق رأس الفتوة وهو ملقى على الأرض ثم جرى كالسهم الخاطف واختفى كالشبح وسط ذهول الجميع. وأصاب الهجوم المفاجئ والخاطف الفتوة وأعوانه بالشلل لعدة دقائق، وقبل افاقتهم من الصدمة بدا وكأن “الواد” حسين حمص “فص ملح وذاب”
…
وجرى خلفه بعض أعوان امين النتن بدون نتيجة حيث انه اختفى في أحد البيوت القديمة والمتراصة على جانبي الحارة.
..
وصل خبر اعتداء “الواد” حسين حمص على الفتوة امين النتن في الحارات والأحياء المجاورة ووصل حتى حي العباسية. وفي اليوم التالي مباشرة وصل كل فتوات الحارات والأحياء المجاورة للتضامن مع امين النتن، واجمعوا على انه يجب الانتقام والقضاء على هذا الولد الشقي والمشاغب مهما كلف هذا، لان أهانة واحد من اهم فتوات الحارات من الممكن ان يشجع بعض الأولاد “الصيغ” في الحارات الأخرى على التعدي على “اسيادهم” من الفتوات والأعيان.
ووضعوا تحت امر امين النتن كل ما يطلب من نبابيت وخناجر وجواسيس، وخلال يومين بدأ امين النتن (بمساعدة فتوات الأحياء الأخرى) حملة كبرى للبحث عن “الواد” حسين حمص والقضاء عليه.
وبداية تم الدخول إلى بيت “الواد” حمص وتم تفتيش كل ركن في البيت بما فيه القبو ولم يعثر له على أثر. وأصدر أعوان امين النتن الأمر لكل سكان البيت من اهل واقارب حسين حمص بإخلاء البيت، ثم تم احراق البيت بما فيه بالرغم من وجود بعض كبار السن الذين لم يتمكنوا من مغادرة البيت في الوقت المناسب وتهدم جزء كبير من البيت فوق رؤوسهم بفعل الحريق.
وأصدر امين النتن أوامره بضرورة استرجاع اللاسة التي خطفها “الواد” حسين سليمة لان هذه اللاسة تمثل هيبة الفتوة في الحارة.
وخلال الأيام التالية تم التنكيل بكل أهل الحارة وخاصة كل من يمت بصلة لعائلة “حمص” ونال الحارة من التدمير ما لم يحدث من قبل، وأصيب الجميع بحالة من الهلع لم يسبق لها مثيل ولم يسلم من هذا طفل أو شيخ أو أمرأة. وجاءت اشاعات بان “الواد” حسين حمص اختبأ في زاوية الحارة في حماية الشيخ عبد السلام فدخل أعوان امين النتن واحرقوا الزاوية والمصلى، كما فعلوا ذلك بدار حسن العطار الذي كان يعالج بعض مرضى الحارة بالحبة السوداء والعسل النحل حيث بدا أن “الواد” حسين كان مختبأ عند حسن العطار.
واستمرت الحملة أياما وأياما، وأعلن امين النتن بانه لن يهدأ له بال مهما طال الزمن حتى يقضي على “الواد” حسين حمص ويسترد اللاسة.
وبعد عدة أسابيع عثر على جثة “حسين حمص” مضرجا في دمائه تحت قبو التكية الذي كان يستخدم لتخزين الحبوب، ووجدت لاسة الفتوة أمين النتن ممزقة وملفوفة حول رأس حسين.
وبعد مصرعه أنقسم أهل الحارة فريقين: الأغلبية اعتبروا “الواد” المشاغب بطلا وترحموا عليه حيث أنه تسبب في اهانة الفتوة أمام كل الناس وانتقم لهم لما فعله الفتوة من مظالم في السابق. أما أقلية أهل الحارة فاعتبروا “حسين حمص” نقمة قد حلت عليهم وقاموا بلعنه (في سرهم) لأنه وبسببه تمت إصابتهم بدمار وخسائر في الأرواح والممتلكات لم يسبق لها مثيل وأن أهانة الفتوة أمين النتن رغم أنها أسعدتهم في البداية إلا أن تلك الإهانة لم تكن كافية مقابل الثمن الغالي الذي دفعه كل أهل الحارة.