“الشفاف” – بيروت
يجلس أنور ياسين في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، يستعيد أجزاء من ذاكرته، يوحي للمتحدثين معه أنه يدرك كل شيء عن قصته، ولكنه خلال لحظات يعاود تذكر أشياء كانت غابت عنه في ليلة اختفائه القسري في بيروت، بعد خروجه من عمله في تلفزيون الجديد.
قصة اختفاء أنور ياسين لمدة 18 ساعة أو اختطافه وإعطائه مواداً أفقدته جزءاً من الوعي، أو نوّمته مغناطيسياً كما في فيلم “العقرب” للأميركي “وودي ألن”، وهو الجزء المتعلق بالانتباه وحفظ ما يحصل معه، لم تكن عادية، فأنور لم يكن نائماً ولكنه لا يتذكر شيء مما دار في تلك الليلة الغريبة بعد أن شرب كوباً من العصير.
أنور ياسين، قلت للرجل، أنا الذي يعمل في تلفزيون الجديد، يتذكرني الرجل ويقول لي انت انور الذي كنت في سجون الاحتلال الاسرائيلي لمدة 16 عاماً. إذاً، الرجل عرفني منذ البداية، هكذا يروي أنور للناس من حوله قصة اللقاء مع الرجل الذي أراد شراء سيارته.
خرجت حوالى الثامنة مساء من التلفزيون، ركبت سيارتي وسرت قليلاً، أوقفني رجل يريد شراء السيارة، قال لي انه جاهز للدفع فوراً، قلت له السعر الذي يناسبني، قال لي يجب أن أرى السيارة وقوتها في القيادة، أجلسته مكان السائق، ذهب الرجل باتجاه الكولا، ودعاني لشرب فنجان قهوة، بقيت في سيارتي بانتظار الرجل فيما هو تأخر بضع دقائق قبل أن يأتي حاملاً فنجاناً من القهوة، شربت منه رشفة واحدة ورميته، لأني بطبعي لا أحب القهوة.
الاعياء يظهر واضحاً على أنور في المستشفى، فهو ومنذ وصوله سئل عن القصة مئات المرات، وهو أخبرها مئات المرات وفي كل مرة كان يتذكر جديداً في القصة، ينبهه إلى أنه قد خطف فعلاً، وليس حلماً أسوداً ما عاشه ذلك اليوم.
يقول أنور ان الرجل قاد السيارة باتجاه منطقة المصيطبة ومنطقة زقاق البلاط، على أساس أنه سيقوم بجلب بقية المال المطلوب، فالخاطف كان يحمل في جواربه مبلغاً كبيراً من المال، ولكنه لا يكفي ثمناً للسيارة. يتوقف الرجل بالقرب من أحد محال العصير، يقول لأنور يجب أن نحتفل، ينزل من السيارة ويذهب لشراء كوبي عصير، يتأخر قليلاً، ويعود مع امرأة وفتاة صغيرة. أثناء الانتظار، يقوم أنور بوضع مسدسه الشخصي إلى جانبه بشكل مخفي.
تصعد المرأة والفتاة في الخلف، يقود الرجل السيارة، يتحدث الرجل عن الأرباح القليلة التي يجنيها من بيع السيارات، وحاجته إلى سعر رخيص ليربح أكثر، تدور السيارة في شوارع بيروت، المرأة والطفلة صامتين في الخلف، وأنور يفقد الوعي الفكري، اي أنه لا يتذكر شيئاً مما يحصل معه، حتى اتصال أقاربه به.
هنا يتدخل أحد أخوة زوجة أنور في الحديث، يقول انه اتصل بأنور عدة مرات، الأولى قبل منتصف الليل، قال له: أنور أين أنت؟، يقول ان أنور أجابه أنا في طرابلس، يتكرر الاتصال فيكون الجواب كل مرة مختلفاً، مرة في الحمرا، ومرة في النيابة العامة الاستئنافية، وقصص لا يتذكر منها أنور شيئاً. يقول الشاب انه في احدى المرات ردت امرأة عليه ومرات رد أحدهم ولكن صوت الموسيقى كان يطغى على السيارة.
هذه الأحاديث لا يتذكرها أنور، ولكنه يقول ان الواقع لديه بدأ يتذكره لحظة قيادته سيارته في نزلة السفارة الكويتية باتجاه الضاحية، حين انتبه إلى انه يقود السيارة، متفاجئاً بالمكان، تقدم أنور بسيارته باتجاه منطقة صفير حيث ذهب إلى منزل عائلة زوجته.
تقول زوجة أنور أنها لم تنم منذ صباح الأربعاء يوم اختطاف أنور. فهي انتظرت أنور، في المنزل لأنهم قاموا بدعوة بعض الأصدقاء للعشاء عندهم، أتى الأصدقاء، وغاب أنور، سهر الأصدقاء إلى منتصف الليل وخرجوا وهم يستغربون عدم التزام أنور بمواعيده، فهذا ليس من عاداته. إذاً، بقيت الزوجة مع شقيقها يحاولون الاتصال بأنور. عند الصباح بلّغوا التلفزيون حيث يعمل أنور، وبدأت الاتصالات بالأمنيين لمعرفة مكان الرجل الذي قاتل في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وأسرته إسرائيل في واحدة من أشهر العمليات، “عملية جبل الشيخ”، التي قاد تفاصيلها الشهيد جورج حاوي، في العام 1988.
يقول أحد أشقاء زوجة أنور أنه اتصل بعد ظهر ذلك اليوم “الخميس” بأنور، فوجد الهاتف مفتوحاً بعدما كان أغلق عند الفجر. رد عليه رجل وقال له “أنور ذهب إلى بيته”. حاول الشاب أن يأخذ اسم الرجل فأعطاه اسماً ما. في هذا الوقت، كان أنور يصل إلى منزل أقاربه. يصل صديقه من السجون الاسرائيلية، الأسير المحرر نبيه عواضة، يسأل أنور أين كان، يقول أنور كنت في التلفزيون، يقول له لا يا أنور، أنت في أي يوم، يقول أنور أنا في يوم الأربعاء، ينبهه نبيه إلى أنه يوم الخميس.
يضحك أنور لفكرة ضياع يوم من عمره، وهو الذي قضى 16 عاماً بأيامها ولياليها في سجون الاحتلال. لم يتذكر أنور صديقه الآخر الذي كان يفتش عليه مع نبيه، فهو وليوم الجمعة كان يستعيد بذاكرته شيئاً وتغيب عنه أشياء.
تنويم مغناطيسي، أو مادة مفقدة للإدراك كما في الأفلام الأميركية، حيث يقوم الشخص بالتصرف من دون علمه بما يعمل، هل هي عملية سرقة؟ لا أحد ينفي ولا أحد يؤكد، فالرجل الخاطف أو الخاطفين أخذوا من جيب أنور مبلغ 400 دولار أميركي، ولكنهم تركوا مسدسه، وكذلك تركوا السيارة وما فيها من أغراض ولم يمسوا شيئاً.
هل هي قصة خاصة حسب ما جرب البعض أن يقول في اليوم الأول للاختفاء؟ لا يظهر ذلك أبدا.ً فالرجل لا مشاكل لديه، وهو يركض بين عمله في التلفزيون وبيته الصغير وطفله وزوجته. وما ورد في القصة يؤكد ان لا رابط بين أنور والخاطفين، إلا إذا كان هناك شيء غير معلوم.
إذاً، هل من قصة تشبه قصة حلمي موسى حين اختفائه في دمشق قبل أسابيع؟ لا أحد يؤكد هذه القصة، ولكن البعض يذكّر ان الرجلين أسرا في سجون الاحتلال لفترات متشابهة أي 16 عاماً لكل منهما، وكذلك الاثنان يعملان كصحافيين في وسيلتين اعلاميتين، والاثنان خطفا عن الطريق، مع فارق أن حلمي خطف في دمشق وأنور خطف في بيروت.
أنور وفي لحظة هدوء يقول، قد يكون ما حصل صدفة وقد يكون رسالة. لا أحد يعلم. ولكن الشيء الوحيد المعروف ان ذاكرة أنور ضاع منها يوم. يوم يفتقده الرجل، الذي افتقد أعواماً طويلة قضاها في فلسطين بالقرب من رفاق ناضل معهم في مواجهة الاحتلال.
oharkous@gmail.com