هناك عشرات الأسباب التي تقف وراء اختفاء الحرية في بلد من البلدان، وهذه الأسباب المتعلقة بالحكام والطغاة والمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية يجري ذكرها على كل لسان. ولكنْ هناك سبب لا يذكر كثيراً وهو أن من يريدون الحرية يصمتون عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين سواء كانت هذه الحرية متعلقة بالحقوق السياسية أو الاجتماعية، ولكن قبل ذلك وبعده حرية الاعتقاد، وحرية التنوع والاختيار، كما أنهم لا يضعون النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يكفل هذه الحريات. فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنساني هي أن الاعتقاد في دين أو مذهب أو طريقة سياسية ـ أي أيدلوجية ـ هو مسألة ذاتية تماماً تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلي. وليس معروفاً أبداً لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون الى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون الى بروتستانت وكاثوليك وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام. وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء في جميع الأديان والمذاهب أن الله جعل البشر شعوباً وقبائل متنوعة ومتعددة حتى تتعارف وتتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة من الملائكة أو الشياطين.
وفي البلاد العربية جميعها، سقط الجميع في الامتحان عندما اقترب الأمر دوماً من حرية العقيدة، أو عندما اقترب الأمر من حرية الانتماء الى جماعة عرقية مختلفة حتى ولو اشتركت مع الغالبية في نفس الدين وحتى في نفس المذهب. وعندما كان الرئيس العراقي صدام حسين يذبح الأكراد ويدفنهم في الصحراء صمتت الأمة العربية صمتاً رهيباً أو تمتمت بالتعجب والرجاء؛ وكان وراء المسألة كلها هو التضامن مع نظام فاشي في مواجهة مع الإمبريالية أو خوفاً من الانفصال الكردي فتفتت العراق التي يريدها الجميع موحدة. المدهش في الموضوع أن الصمت العربي في المسألة الكردية كان واحداً من الأسباب التي قادت في النهاية الى الاستقلال الفعلي للأكراد حتى ولو كان الإقليم الكردي لا يزال جزءاً من الفيدرالية العراقية التي لم تقم بعد.
وفي مصر، سقط المصريون في أكثر من امتحان، عندما خص الموضوع الجماعة البهائية وتسجيلها في بطاقات الهوية، وعندما اقتربت الحرية من موضوع تغيير العقيدة بين المسيحية والإسلام، وفي كل مرة كانت المصادرة على حرية العقيدة تفسر كما فسرت كل المصادرات من قبل على ضوء الاستعمار، وعما إذا كانت العقيدة عقيدة حقاً على ضوء عقيدة أو دين آخر. وما انطبق على مصر انطبق على غيرها من الدول العربية، فقد تم اضطهاد جماعات مختلفة من القبائل الإفريقية في جنوب وغرب السودان، وسواء كانت هذه القبائل مسيحية أو مسلحة وسنية أيضاً. وفي دول عربية أخرى كانت الاختلافات بين القبائل هي التي خلقت الصراعات، والأمثلة كثيرة في الصمال واليمن. وكان آخر الامتحان التي سقط فيها جميع العرب هي تلك التي تعلقت بالأزيديين في العراق حيث جرت المجزرة لهم من قبل جماعات سنية متعصبة بينما وقف الجمع العربي متفرجاً في الوقت الذي فيه خرجت الحكايات والقصص عما إذا كانت هذه الجماعة من أتباع الشياطين أم لا.
وعلى أي الأحوال فإن كل هذا القبح العنصري لم يعد ممكناً القبول به في العصر الحديث، وقد مرت شعوب قبل العرب على هذا الطريق. فقد حاول الأميركيون دمج واستيعاب السكان الأصليين ومن بعدهم السود بشكل قسري أحياناً، ومن خلال التجاهل أحياناً أخرى. ولا يزال الألمان يحاولون مع الطائفة التركية المسلمة في البلاد، وسبقتها تجارب سابقة للماليزيين تجاه الأقلية الصينية، وادعى الصرب دوماً أنهم لا يعرفون وجود مشكلة للأقلية حتى قامت الأقلية المسلمة بالاستعانة بقوات حلف الأطلنطي بتدمير يوغوسلافيا كلها للفوز بدولة يتمتعون فيها بالمساواة. وأصبح نفس الموضوع مطروحاً بإلحاح على العالم العربي، فإما المساواة الكاملة بلا تحفظات واستثناءات على أساس العرق أو الدين أو اللون، وتوزيع السلطة والثروة بالطريقة التي تكفل للجميع حقوقاً مشروعة؛ أو حدوث شروخ في الدولة العربية الحديثة قد تقودها الى التفتت والتقسيم.
هذه القضية الخاصة بالأقليات والاختلافات العرقية والدينية والمذهبية باتت من أهم القضايا التي تحدد مصير العالم العربي كله حيث تصاعدت النزاعات بشأنها حتى باتت المصدر الأكبر للضحايا وعمليات التدمير المادية الجارية لعدد من الدول العربية. وكان ذلك في جزء منه راجع الى واقع التعددية والتنوع في الدولة العربية، وفي جزء آخر الى وجود المثال “الوحدوي” الذي تعبر فيه الدولة عن حالة من الصفاء والتجانس السياسي بغض النظر عن كل التباينات الأخرى. وفي العادة فإن وجهة النظر هذه كانت تقدمها الأغلبية باعتبارها حالة “واقعية” تعبر عن الأحوال الجارية بحيث لا يعكرها إلا محاولات التدخل الأجنبي لكي تقسم أمة واحدة، والمؤامرات العالمية لتفتيت حالة الانصهار القومي والوطني. وكان ذلك راجعاً ـ جزئياً على الأقل ـ لانتشار فكرة القومية العربية التي بدأت بمغالاة تاريخية عن حالة الوحدة العربية التي كانت موجودة قبل الغزو الاستعماري رغم ما هو معروف من أن العالم العربي والإسلامي كان من الناحية الواقعية مفتتاً بين أمم وممالك وإمارات ومدن وشفالك ومقاطعات. كما كان راجعاً جزئياً أيضاً الى اعتقاد مبالغ فيه في حالة الدولة القومية القائمة على عملية انصهار تاريخية، بينما الواقع أن الأغلبية الساحقة من دول العالم هي دول مركبة تقوم على تركيبات مختلفة من أعراق وأديان وكتل اجتماعية.
والغرض الأساسي من هذه الورقة هي التعامل مع قضية الوحدة والتنوع في العالم العربي، والنتائج الوخيمة لمفهوم الدولة المنصهرة في بوتقة واحدة، والمتجسدة في عمليات عنف، وأحياناً إبادة، وحروب أهلية بأشكال شتى. ومن جانب آخر فإن هذه الورقة سوف تحاول التعامل مع الدروس المستفادة من التجربة العالمية في هذا الصدد حيث تعاملت، ولا تزال تتعامل، دول العالم مع هذه القضية بحلول متنوعة بعضها يمكنه أن يكون مفيداً في الحالة العربية. بمعنى آخر، فإن المطلوب هو البحث عن السياسات التي تكفل من ناحية بقاء الدولة العربية في شكل موحد ومستقر، ومن ناحية أخرى أن يكون ذلك من خلال عملية سياسية تكفل لجميع المشاركين في “الوطن” المساهمة في هذه الحالة.
الوحدة والتنوع في العالم العربي
إكتسب مفهوم العالم العربي صفته من خلال أربعة مصادر: أولها أن مجموعة الدول والشعوب الناطقة بالدول العربية لا تعيش جواراً جغرافياً فقط وإنما بالإضافة الى ذلك كوّنت نوعاً من الثقافة المشتركة والتاريخ المشترك والانتماء على الديانات السماوية، وبالتأكيد فإن تجربتهم مع الاستعمار والتطوّر كانت متشابهة. وثانيها أن هذا الوضع رتّب ظهور حركات سياسية قادت ما عرف “باليقظة العربية” خلال القرن التاسع عشر والتي اعتمدت نوعاً من الشعور القومي المشترك الذي كان مضاداً للاستعمار من ناحية ولرابطة الخلافة العثمانية من ناحية أخرى. ومع القرن العشرين، ومع ظهور القضية الفلسطينية على نحو بارز خلال النصف الثاني منه ظهر من الحركات السياسية ـ البعثية والناصرية والقوميين العرب ـ التي اعتبرت أن هذه الروابط مجتمعة ترتب وجود أمة واحدة تستحق الترجمة الى دولة موحدة. وثالثها أن الدول الاستعمارية، والدول الكبرى والعظمى في العموم تعاملت مع المنطقة العربية في العموم كمنطقة واحدة تشملها مشاعر سياسية واحدة. وحينما قامت دولة إسرائيل فإنها اعتبرت نفسها في مواجهة عالم عربي واحد. ومع بدايات القرن الواحد والعشرين أصبح العالم مشغولاً الى حد غير قليل، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بما عد ظواهر عربية مختلفة منها التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عن بقية العالم، والشمولية والديكتاتورية والاستبداد، والعداء والكراهية للغرب، وبالطبع الإرهاب. ورابعها، أن بعضاً في الجماعة الأكاديمية الدولية المنشغلة بتصنيف العالم الى أقاليم وجدت في “الإقليم العربي” نوعاً من التميّز الخاص بحكم الوجود المؤسسي لجامعة الدول العربية، والوجود السياسي لتفاعلات عربية متميزة.
ولكن هذه النظرة الى العالم العربي باعتباره وحدة متجانسة الى حد كبير سرعان ما تظهر عند النظرة المتفحصة، والممارسة السياسية، أنها تعبر عن حالة كبيرة من التنوع العرقي والديني الذي يجد ترجمته في سلسلة حادة من الصراعات. فالعالم العربي المعاصر هو نتيجة لكثير من التراكمات التاريخية التي ساعدت على تشكيل الإقليم في صورته الحالية عبر قرون عدة. ويمكن القول أن العالم العربي ولد مع وجود المسيحية، ونشأة الإسلام، وقيام الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية، وحكم المماليك، ثم التواجد الاستعماري الكثيف. وخلال ذلك كله تشكل نوع من “الهوية العربية” التي نجمت عن التفاعل الثقافي بين جماعات وشعوب تنتمي الى أصول عرقية مختلفة. وعندما قامت الدولة العربية الحديثة، سواء نتيجة لعملية تاريخية طويلة المدى، أو بتأثير من التقسيم الاستعماري الاعتباطي في معظم الأحوال، أو بكلاهما معاً، فإن الحكومات العربية كان عليها التعامل مع واقع ليس فقط ما تكون من هوية مشتركة، بل أيضاً مع هويات متعددة عرقية ودينية وقبلية متنوعة ظلّت تحافظ على كيانها وحيويتها.
هذا النوع من الازدواجية الثقافية والحضارية والمزاجية في العموم خلقت نوعاً من التوتر النفسي والسياسي بين الرابطة العربية التي رتبتها اللغة العربية والدين الإسلامي ومذهبه السني والتاريخ والتقاليد المشتركة من جانب، والهويات الأولية الأخرى المتنوعة من جانب آخر. وبالتأكيد فإن سلوكيات الحكومات العربية المختلفة لعبت دوراً هاماً في تزكية هذا التوتر، خصوصاً ما تعلق ـ من زوايا أيدلوجية مختلفة ـ برفض التنوع الفعلي الموجود في الدولة العربية. فالحقيقة أنه رغم صفات “الأغلبية” العربية الإسلامية السنية، فإن “العالم العربي” عرف أقليات إثنية مختلفة، على اعتبار أن تعبير “الإثنية” لا ينصرف فقط الى التميّز العرقي وإنما الى ما تعتبره جماعة نوعاً من التميّز القائم على هوية مشتركة من نوع أو آخر. ومن هذه الأقليات توجد الأقلية الشيعية الإسلامية والذين يشكلون الأغلبية ـ النسبية أو المطلقة ـ في عدد من الدول العربية مثل العراق ولبنان والبحرين ـ مع تواجد ملحوظ في سوريا والسعودية وبقية الدول العربية الخليجية. وداخل هذه المجموعات الشيعية فإنه توجد أيضاً مجموعة من التمايزات القائمة على مدى وشكل الاعتقاد في إمام الشيعة، ولكن أهم هذه التمايزات هي تلك القائمة ما بين المعتنقين للإمام الثاني عشر، وهؤلاء المعتقدين في الإمام السابع. ويمثل المسيحيون العرب أقلية ملموسة في العالم العربي، وتعيش الغالبية منهم في مصر والسودان ولبنان وينقسمون بين موارنة وأقباط، بالإضافة الى جماعات أخرى من الكاثوليك والأرثوذوكس اليونانيين والبروتستانت. وعلى الرغم من أن الشيعة والمسيحيين يمثلون أكبر الأقليات في العالم العربي، إلا أن هناك جماعات إثنية أخرى مثل الأكراد والبربر والدروز واليهود.
وكما هو واضح أن المسلمين السنة العرب يشكلون الأغلبية في كثير من الأحوال، ولكن ليس كلها. وتاريخياً فإن اليهود تركزوا في شمال افريقيا (المغرب والجزائر وتونس وليبيا) وفي العراق واليمن، كما بقيت مجموعات صغيرة منهم في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر. وفي الوقت الراهن فإن مجموعات كبيرة من المهاجرين من أجل العمل وقادمين من شبه القارة الهندية ـ وتشمل هندوس ومسلمون ومسيحيون ـ قد هاجروا وعاشوا لفترات طويلة في دول الخليج العربية المختلفة. وفي المقابل فإن بعضاً من الأقليات العربية تواجدت في عدد من الدول المجاورة في تركيا وإيران وإسرائيل وتشاد ومالي، بالإضافة الى هؤلاء الذين هاجروا الى أوروبا والأميركيّتين وأستراليا.
صراعات إثنية عربية
وفي التاريخ المعاصر فإن أكثر الصراعات الإثنية حدة في العالم العربي جرت في لبنان خلال سبعينات القرن العشرين، حيث كانت الحرب الأهلية اللبنانية أكثر الإعلانات المتطرفة عن هذا التنوع. فبينما بدأت الحرب الأهلية في منتصف السبعينات بين المسلمين السنة المؤيدين لمنظمة التحرير الفلسطينية من ناحية، والمسيحيين الموارنة المعادين لها، فإن الصراع سرعان ما تحول على العديد من الصراعات الإثنية التي أدخلت المسلمين الشيعة في المعادلة ومعهم عدد من الطوائف المسيحية الأخرى، وفي النهاية انقلبت كل طائفة على ذاتها استندت لعوامل داخلية وخارجية متعددة. وكان نتيجة هذا الصراع الذي استمر قرابة ستة عشر عاماً هو تدمير لبنان واحتلال جنوبه عن طريق الجيش الإسرائيلي، واحتلال سوريا لبقية لبنان والتحكم في سياستها. وعلى الرغم من مرور سنوات على تسوية هذه الحرب من خلال اتفاق “الطائف” إلا أن آثار الحرب الأهلية لا تزال باقية وتعكس نفسها سلبياً على السياسة اللبنانية كما هو جار حالياً في لبنان.
ولكن ما يهمنا هنا أن الحرب الأهلية اللبنانية مثّلت بشكل واضح الطبيعة العنيفة للصراعات الإثنية في العالم العربي والأنماط التي تأخذها. فخلال فترة الحرب فإن التحالفات تغيّرت بسرعة بين أطراف الصراع؛ وفي نهاية الحرب كان كل طرف قد تحالف ثم خان كل الأطراف الأخرى على الأقل مرة واحدة. وكان عقد الثمانينات مظلماً الى حد كبير حيث كانت بيروت العاصمة قد تم تخريبها وتدميرها تماماً بينما قامت إسرائيل بغزو لبنان وعاصمته واحتلاله بينما تم إجلاء منظمة التحرير الفلسطينية من البلاد. وشهدت فترة الحرب كثيراً من الفظاعات والجرائم ضد الإنسانية سواء من جانب إسرائيل ضد اللبنانيين أو بين اللبنانيين وبعضهم البعض، وبينما اشتهرت مذبحة صبرا وشاتيلا التي قامت بها القوات اللبنانية بالتواطؤ مع القوات الإسرائيلية فإن مذابح الحرب الأخرى كانت لا تقل بشاعة.
وعلى غرار الحرب الأهلية اللبنانية، فقد جرى العديد من الحروب الأهلية في العالم العربي وقامت على أسس أثنية بين طوائف وجماعات مختلفة. وربما كانت الحرب الأهلية في السودان منذ عام 1955 وحتى توقيع اتفاق نيفاشا أطول هذه الحروب وأكثرها ضحايا وأقلها ذيوعاً في العالم العربي. وقد جرت الحرب بصورة أساسية بين الحكومة السودانية الممثلة للقبائل العربية المسلمة السنية في شمال البلاد والقبائل الإفريقية في الجنوب والتي كانت مسيحية ومسلمة معاً. وفي الحالة السودانية كان التمايز العرقي أكثر حدة في أسباب الصراع من التمايز الديني، فبعد تسوية حرب الجنوب والاتفاق على دولة سودانية فدرالية، نشبت حرب أخرى في غرب السودان في إقليم دارفور بين القبائل العربية المسلمة السنية والقبائل الإفريقية المسلمة السنية أيضاً. ولا تزال هذه الحرب مستعرة بين الطرفين على الرغم من المحاولات الدولية للتدخل من أجل حل الصراع.
وبينما تمثل السودان نوعاً صافياً من الصراعات العرقية، فإن الصومال مثّلت نوعاً نقياً من الصراعات القبلية؛ أما العراق فقد مثلت نوعاً آخر من الصراعات العرقية والمذهبية بشكل خاص. وعلى الرغم من أن الصراع كان تاريخياً منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة في عام 1932 بين العرب والأكراد، فإن الصراع الذي نشب بعد الاحتلال الأميركي للعراق صار بين العرب السنة والعرب الشيعة. فمن المعروف أن الأغلبية من العراقيين ينتمون الى المذهب الشيعي، ولكن العراق يوجد فيه أيضاً جماعة العرب السنة، بالإضافة الى الأكراد الذين يمثلون جماعة قومية، بالإضافة الى جماعات قومية وعرقية ومذهبية أخرى. وخلال فترة حكم نظام صدام حسين البعثي فإن الاضطهاد شمل تقريباً جميع الجماعات العراقية، إلا أن الإدراك العام للشيعة والأكراد وغيرهم كان أنه مثل العرب السنة في الأساس. وبعد الغزو الأميركي في مارس 2003 إعتبر العرب السنة أن الغزو كان موجهاً لهم في الأساس ومن ثم تحالفوا بأشكال مختلفة مع جماعات “المقاومة” التي وجهت أكثر عملياتها للعراقيين الشيعة بأكثر مما وجهته لقوات الاحتلال. وعلى الرغم من الصدام المسلح فإن النظام السياسي الذي قام في العراق بعد الغزو اعتمد على صيغة “المحاصصة” التي عبرت عنه في الحكم الأغلبية الشيعية، ومن ثم خلقت لدى السنة حالة من التخوف من طغيان الأغلبية وهو ما ترتب عليه الحرب الطائفية بين الطرفين.
حل إشكالية الوحدة والتنوع في العالم العربي
لا توجد وصفة سحرية في العالم للتعامل مع قضايا الوحدة والتنوع داخل الدولة، ولكن كان هناك عدد من المدارس الفكرية والسياسية التي حاولت التعامل مع الظاهرة. وفي العادة فإن هذه المدارس الكبرى ـ القومية والاشتراكية والليبرالية ـ جعلت من التعامل مع الأقليات جزءاً من فصولها الهامة حيث كان عليها جميعاً التعامل مع واقع تعددي بالضرورة.
المدرسة القومية
وكانت المدرسة القومية في جوهرها على أن الصلات التي ترتبها العلاقة مع الوطن ينبغي لها أن تتفوق على كل الأبعاد الانسانية الأخرى بحيث تخلق رابطة بين “المواطنين” تتعدى الروابط الدينية والعرقية. ولما كان ذلك مستحيلاً، فقد عمدت المدرسة القومية الى دعم الروابط “القومية” ومنها كان الاهتمام باللغة والثقافة والتاريخ “المشترك” والمصالح المشتركة والتي يقع في مقدمتها البقاء للدولة واستمرارها والحفاظ على أراضيها. وفي هذه المدرسة فإن التأكيد على “الخطر” المشترك يصير ممارسة يومية، ويصبح في مقدمة هذه الأخطار السعي من قبل أنواع كثيرة من “الأعداء” تفتيت الأمة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن الفكر “القومي” إما أنه أنكر تماماً فكرة التمايزات العرقية والمذهبية، أو أنها اعترفت بها ولكنها خلق آليات التنشئة السياسية من تعليم وإعلام وفن وأدب ورموز، وأدوات حزبية للقولبة السياسية تقوم بتخريج القوميين المتحمسين من كافة الأطياف العرقية والدينية والمذهبية، وفي أحيان كثيرة ارتبط كل ذلك، كما في الأحزاب القومية المتطرفة النازية والفاشية بنوع من تربية الاحساس بالتفوق الذي يصل الى العنصرية، وسيادة الأمة، وتاريخها المجيد، ورسالتها الخالدة، وفي كل هذه الأحوال كانت النتيجة حالة من القسر، والحصار لكل أشكال التنوع والتعددية سواء كان ذلك بشكل مباشر وصريح حيث تم تدمير التقاليد والثقافات الخاصة بالجماعات والمجتمعات، أو من خلال نشر ثقافة الخوف الشديد التي تدفع هؤلاء للتخلص من التقاليد والثقافات أو على الأقل عدم الجهر بها.
الانفصال وحق تقرير المصير
المدهش أنه كانت النتيجة المتعلقة بالفكر القومي هي خلق حالات مضادة من الأفكار القومية لدى الأقليات، التي تجد نفسها لا تعبر عن ثقافتها وتقاليدها إلا في إطار دولة قومية لها هي الأخرى. وبشكل من الأشكال فإن الرد اليهودي على عمليات الاضطهاد “العرقية” والدينية في الغرب كان ظهور الفكرة الصهيونية التي أدت الى قيام دولة اسرائيل باعتبارها المعبر عن “القومية اليهودية”. كما أن البزوغ الطاغي للقومية “الهندوسية” خلال حملة الهند من أجل الاستقلال كانت هي التي دفعت مجموعة من الاسلاميين الى العمل من أجل تقسيم الهند الى دولتين: الهند وباكستان. وكان ذلك هو الحال في عدد من الدول التي حاولت تحقيق انصهار قسري في بوتقة قومية طاغية حيث أدى الأمر الى تقسيم الدولة من ناحية، وخلق حالة من الطغيان القومي على الأقليات المتبقية في الدولة المنقسمة من ناحية أخرى.
وفي العالم العربي كان ذلك هو ما فعلته المدرسة القومية، ولسنوات طويلة كانت الاجابة عن سؤال حالة الأقليات في كل دولة عربية واحدة وهي أن كل الأحوال على ما يرام، بل وأن المجيب سوف يرفض فوراً توصيف جماعة دينية أو عرقية أو لغوية على أنها “أقلية”، فالجميع مواطنون، والجميع متساوون، والجميع منصهرون في سبيكة واحدة اندمجت عناصرها وتماسكت بفعل التاريخ المشترك والمصالح المشتركة. وإذا كان السؤال في المغرب العربي عن الأمازيغ، وإذا كان السؤال في الخليج عن الشيعة، وإذا كان السؤال في المشرق العربي عن المسيحيين، وإذا كان السؤال في وادي النيل عن الأفارقة والأقباط، فإنك لا تلبث أن تجد حالة من الانكار لوجود قضية من أي نوع، وإذا كان لا بد من التعرض لتفاصيل غياب المساواة رغم وحدة المصير فإنك لا تلبث أن تجد أعذاراً شتى كان أكثرها شيوعاً هو أن الجميع متساوون في الظلم والوقوع “رعايا” لنظم سياسية لها أشكال متنوعة من الاستبداد!
وقد كان الظن سائداً دوماً أن قضية الأقليات تتعلق بالاسلام والديانات الأخرى والمسيحية خاصة في البلاد العربية حيث أدت الحروب الصليبية في الماضي، والتعبيرات المسيحية عن الحضارة الغربية في الحاضر الى تعقيدات كبيرة سياسية ومعنوية خاصة خلال فترة الصراع مع الاستعمار. ولكن ما انكشفت مؤخراً في المشهد العربي يقطع بأن المسألة ليست كذلك، فما جرى من صراع في دارفور كان بين مسلمين من أصول عربية ومسلمين من أصول افريقية، كما أن المسلمين أكثر عدداً من المسيحيين في الجنوب السوداني. والمسلمون هم الأغلبية الساحقة من العراقيين سواء كانوا سنة أو شيعة أو أكراد أو تركمان، ولكن القضية ليست أن تكون مسلماً بل أن تكون نوعاً محدداً من المسلمين.
وهكذا فإن الفكر القومي العربي الذي بدأ في القرن التاسع عشر باعتباره ثورة للتخلص من الهيمنة الاسلامية والسنية التي مثلتها دولة الخلافة العثمانية، ومواجهة مع الاستعمار الذي كان يحاول تفتيت العالم العربي، فإنه سرعان ما تحول مع القرن العشرين على يد الحركات السياسية البعثية الى أداة من أدوات السيطرة والهيمنة سواء من جانب الأقلية العلوية في سوريا أو الأقلية السنية في العراق. وحتى في الدول العربية التي لم يحكمها البعث، فإن الفكرة القومية ظلت على حالها أداة من أدوات الهيمنة والسيطرة والاسترقاق الثقافي والسياسي وبالتالي تم تهميش الشيعة والمسيحيين في دول عربية كثيرة كلها اتفقت علي حقيقة واحدة هي عدم وجود أقليات إلا باعتبارها من عناصر الأمة.
المدرسة الاشتراكية
اعتبرت المدرسة الاشتراكية قضية التنوع الثقافي والحضاري والعرقي والديني والمذهبي قضية إما أنها مفتعلة تستخدمها الطبقات المستغلة من أجل الحفاظ على سيطرتها واستغلالها للطبقات العاملة والكادحة والفقيرة في الهموم؛ أو أنها قضية حقيقية ولكنها لا ينبغي لها أن تجب الروابط الاقتصادية والاجتماعية التي تربط الكادحين ببعضهم والتي تفوق الروابط الاجتماعية الأخرى للقبيلة أو المذهب أو العرق أو الدين أو اللغة. وببساطة فإن الفكر الاشتراكي اعتبر الرابطة الطبقية أقوى من كل الروابط الأخرى؛ وهكذا فإن أنصار المدرسة الاشتراكية في العموم نظروا بتشكك بالغ، وبنفس الطريقة القومية، في كل التعبيرات السياسية أو الثقافية لكل أشكال التنوع والاختلاف داخل الدولة. وكان ما جرى في العالم العربي خلال الستينيات في عدد من الدول العربية ربطت ما بين “الاشتراكية” و”القومية”، وأصبح تحقيق “العدالة” و”الوحدة” الطريق على قادرة على صهر التنويعات المختلفة في دولة واحدة.
وفي الحقيقة، وبعيداً عن الأفكار القومية والاشتراكية، فقد كانت الدولة العربية البيروقراطية المتولدة عنهما هي التي خلقت آليات للعنف والخوف قادرة على كبت التطلعات والتقاليد المختلفة. ولذلك فإنه حتى مع تراجع الفكر القومي، وانهيار الفكر الاشتراكي خاصة بعد زوال الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية فإن عملية القهر استمرت حتى مع الدول التي لم تعتبر الاشتراكية والقومية من المذاهب الفكرية المعبرة عنها. وفي هذه الحالة فقد كان الاسلام هو المعبر عن الفكرتين معاً، مع المحافظة على نفس التقاليد البيروقراطية التي استمرت على رفض الصيغة التعددية للمجتمعات.
المدرسة الليبرالية
كانت المدرسة الليبرالية هي التي قدمت في بلدان كثيرة من دول العالم حلاً لإشكالية التعدد العرقي والمذهبي والديني في دولة واحدة من خلال مجموعة من الآليات السياسية.
المواطنة والمساواة أمام القانون
فهي من ناحية اعتمدت على الفرد كوحدة سياسية أولية ومن ثم فإنها ابتعدت عن الجماعات (الأمة أو الطبقة أو أصحاب الديانة الواحدة)، واستناداً الى هذا الفرد صار هناك أصوات واحد لكل انسان يمارس به السياسة تعبيراً عن نفسه وليس عن القبيلة أو الجماعة. ومن الفردية انبثقت فكرة المواطنة التي تجعل جميع “المواطنين” شركاء في “وطن” واحد على أساس من المساواة الكاملة أمام القانون وصناديق الانتخابات بغض النظر عن العرق أو الدين أو العقيدة أو اللون أو الجنس. وعلى سبيل المثال فإن الدستور المصري الحالي والذي استند الى التقاليد الدستورية التي بدأت مع دستور عام 1923 خلال الفترة الليبرالية يضع في مادته أن دولة مصر تقوم على مبدأ “المواطنة”، بمعنى أن “هويتها” تقوم على تجمع “مواطنين متساويين” في المقام والقيمة الانسانية والسياسية. والمادة 40 من الدستور تأخذ هذه القاعدة المحددة الى دائرة التطبيق فتقول: “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
وهكذا وضع الدستور خمسة اختلافات بين المواطنين لا يجوز التمييز على أساسها أمام القانون؛ كما وضع فارقاً بين “الدين” و”العقيدة” فهما أمران مختلفان؛ ومع ذلك فإن كلاهما لا ينبغي حدوث التمييز على أساسه أمام القانون. هنا فإن النص كله قطعي، فالمواطنون متساوون أمام القانون مهما كانت الاختلافات بينهم، وسواء كانت موضوعية ـ الجنس أو الأصل أو اللغة ـ أو فكرية ـ الدين أو العقيدة ـ فلا يهم في نظر القانون المصري أن تكون أبيض أو أسود، عربياً أو أعجمياً، تتحدث اللغة العربية الفصيحة أو اللاتينية المعقدة، أو تنتمي الى الدين الاسلامي أو المسيحي أو حتى البوذي، أو تؤمن بالعقيدة الشيعية أو السنية أو الشيوعية؛ فطالما أنك مواطن مصري ولم ترتكب جرماً يسبب تقييد حريتك العامة فإنك لن تخضع لقانون خاص بك يختلف عن القانون الذي ينطبق على أعضاء المجتمع.
والفارق بين الدين والعقيدة هو أن الأول يمثل حالة موضوعية وفكرية واجتماعية مستقلة تماماً عن الفرد، بينما “العقيدة” و”الاعتقاد” فإن فيها عنصراً غير قليل من الاختيار الفردي، وهي قد تكون جزءاً من الدين بحيث يعتنق الانسان مذهباً معيناً كعقيدة داخل الدين الأشمل مثل أن تكون مسلماً سنياً أو شيعياً أو مسيحياً كاثوليكياً أو أرثوذكسياً، أو قد تكون اختياراً خاصاً فلسفياً أو فكرياً طالما أنه يخص الانسان وخلاصة سلامه الروحي. ولذلك فإن المادة 46 من الدستور تعيد التأكيد على الفارق بين “الدين” و”العقيدة” عندما يجعل الدول حارساً لكليهما فتقول: “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”، ومعنى ذلك أنه من حق “المواطن” أن يعتقد ما يشاء، وطالما أنه لا يهدد النظام العام، فإن على الدولة أن تحميه من عسف من يختلفون معه في “العقيدة” التي قد تكون ديناً أو مذهباً أو فكرة، أما من يؤمنون بدين بعينه، فإن الدولة ـ وليس غيرها ـ سوف تكفل لهم “حرية ممارسة الشعائر الدينية”.
هذه القواعد الدستورية العامة تعرضت أكثر من مرة للانتهاك وعدم التقدير للدستور السليم؛ فحدث ذلك مرة عندما أثيرت قضية “الديانة البهائية” ووضعها في خانة البطاقة الشخصية حينما أثيرت صحة هذه الديانة بل كان هناك من يتساءل عما إذا كانت ديناً على الاطلاق، ومرة أخرى عندما أثيرت قضية المرتدين الى الديانة المسيحية مرة أخرى وعما إذا كان ذلك يمثل تلاعباً بالأديان أو كفراً صريحاً، وأخيراً عندما تم القبض على جماعة “القرآنيين” واتهامهم بازدراء الأديان بينما كانت الأسئلة الموجهة لهم من جهات متعددة قائمة على سلامة الاعتقاد الذي يعتقدوه. والحقيقة ودون الدخول في تفاصيل العقائد المختلفة ومدى صحتها أو جوازها من الناحية الفقهية أو التاريخية، فإن المهم هنا ليس صحة ما يعتقد به، وإنما القضية هي جواز وحق الانسان في الاعتقاد فيما يراه دون عسف أو اضطهاد أو مصادرة أو حتى التحقيق في الموضوع طالما أن الانسان لا يستخدم هذا الحق في تهديد النظام العام.
اللامركزية السياسية والاقتصادية
لم تكن المواطنة والمساواة القانونية كافية في كل الأحوال للتعامل مع مشكلات التنوع العرقي والديني والمذهبي عندما ارتبط التنوع من ناحية بالنزعات القومية والثقافية، ومن ناحية أخرى بنزعات للاستقلال عن الأغلبية في الدولة خاصة عندما تتعرض الأقلية لأشكال مختلفة من الاضطهاد. فكان نتيجة ذلك أن قدم الفكر الليبرالي فكرة اللامركزية السياسية والاقتصادية التي تتيح نوعاً ما من الاستقلال وحقوق التعبير تتراوح ما بين اللامركزية الادارية والثقافية، والدول الفيدرالية، وحتى الاتحادات الكونفدرالية. وفي التجربة العالمية أمثلة لتجارب متعددة تعاملت مع حالات مختلفة من التنوع العرقي والديني والثقافي في الهند والولايات المتحدة وكندا وروسيا ودولة الامارات العربية المتحدة، ولكن ربما كان أبرزها وأكثرها غنى في الاستعارة من مفاهيم اللامركزية المختلفة ما حدث في التجربة السويسرية. وسويسرا دولة قديمة عرفت أول أشكالها عام 1291 في أحضان جبال الألب عندما تجمعت ثلاثة كانتونات لتكوين “الكونفدرالية السويسرية”، وهذه أخذت في الامتداد والانكماش عبر التاريخ حتى أصبحت 26 كانتوناً منهم ستة تعرف بأنصاف الكانتونات، وهؤلاء تحولوا الى النظام الفيدرالي اعتباراً من عام 1848، وهذه هي الدولة المعروفة الآن وعدد سكانها 7.5 مليون نسمة. وسويسرا أيضاً دولة تعددية مركبة القوميات، فهي من ناحية لديها أربع لغات ـ الألمانية والفرنسية والايطالية والرومانية، وهي من ناحية أخرى تقوم على نظام فيدرالي يعطى للكانتونات كل السلطات التي لا يتم النص عليها قطعياً في الدستور، وتتمثل هذه الكانتونات في المؤسسات الفيدرالية من خلال مجلس الولايات المكوّن من 46 عضواً ـ القائم على صوتين لكل كانتون وصوت واحد لأنصاف الكانتونات الست ـ والمجلس الوطني المشكل من 200 عضو يتم انتخابهم من خلال القائمة النسبية. وفي نفس الوقت فإن سويسرا تعتبر دولة ديموقراطية مباشرة، فلكل مواطن الحق في تعديل القوانين التي تقرها “الجمعية الوطنية المتحدة” ـ أي مجلس الولايات والمجلس الوطني ـ من خلال استفتاء عام إذا ما تمكن المواطن من الحصول على 50 ألف توقيع خلال 100 يوم، بل وأكثر من ذلك فإن المواطن يستطيع تعديل الدستور من خلال الاستفتاء العام إذا ما نجح في جمع 100 ألف توقيع خلال 18 شهراً. وكان نتيجة هذا النظام المركب أن الدولة السويسرية نجحت في التعامل مع مجتمع متعدد الأعراق واللغات والملل، بل أيضاً في تحقيق نجاح اقتصادي يضرب به الأمثال في العالم.
الديموقراطية التوافقية
وفي حالات الانقسام العرقي والديني الشديدة والتي أدت الى حدوث العنف المسلح في شكل حرب أهلية أو التهديد بها، فإن الفكر الليبرالي توصل الى فكرة “الديموقراطية التوافقية” التي تقوم على تقاسم السلطة وأساليب العمل فيها بحيث تمنع الأغلبية من سحق الأقلية أو الاستئثار بالدولة لصالحها. هذه النظرية السياسية التي قدمها العالم السياسي أرندت ليجبهارت تحت اسم Consociational Democracy تم اشتقاقها من تجارب موجودة بالفعل في العالم مثل هولندا وماليزيا وجنوب افريقيا حيث تتفق الجماعات العرقية والدينية المختلفة على قواعد بعينها لإدارة اللعبة السياسية فضلاً عن درجات مختلفة من التقاسم الرسمي أو الفعلي للسلطة. وفي العالم العربي فإن أقرب النماذج الى هذه النظرية كان التجربة اللبنانية التي قامت على تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين بشكل عام (نصف أعضاء البرلمان أو المجلس التشريعي)، ثم بعد ذلك بين الجماعات المسيحية المختلفة من موارنة وروم أرثوذكس وكاثوليك والجماعات الاسلامية المختلفة من سنّة وشيعة حيث توافق الجمع اللبناني على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، بينما رئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً.
والحقيقة أن هذا النموذج للتعامل مع قضايا التنوع كانت له درجات مختلفة من النجاح والفشل في فترات زمنية مختلفة؛ وبينما أحرز نجاحاً كبيراً في الدول التي حققت تقدماً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً مثل هولندا وماليزيا وسنغافورة، فإنه حقق نجاحاً محدوداً في لبنان التي عرفت حربين أهليتين منذ استقلال الدولة، ولكنه لم يحقق نجاحاً يذكر عندما تم تطبيقه في العراق لأسباب متنوعة أهمها أن “التوافق” السياسي لم يحدث بين الطوائف والجماعات العراقية المختلفة، كما أن تقاسم السلطة لم يمنع الهيمنة الشيعية عليها، وكان البحث عن “الاستقلال” للجماعة الكردية مخلاً بالتوازنات داخل الدولة.
ما العمل؟
من العرض السابق نصل الى مجموعة من النتائج: أولها أن قضية التنوع العرقي والطائفي والمذهبي هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الدولة القومية الحديثة التي لا تقوم على امبراطوريات تقوم على أسس دينية أو مذهبية وإنما على أساس من المصلحة المشتركة. وثانيها أن هذه الأوضاع التاريخية قد فرضت على الدول أن تبحث عن طريقة ما للتعامل مع أوضاع التنوع بحيث تحافظ على وحدة الدولة من ناحية، والتعبير عن التنوع الموجود داخلها من ناحية أخرى. وثالثها أن الدولة العربية الحديثة قد مرت بنفس التجربة، فقد كان عليها أن تتعامل مع واقع من التنوع ينفي تماماً وجود حالة من الصفاء القومي أو الوطني. ورابعها، أن العالم العربي لم يكن ناجحاً في التعامل مع قضايا التنوع هذه، وفي كثير من الأحيان أدى الفشل الى حالات من الحرب الأهلية. وفي الوقت الراهن فإن هناك في العراق والسودان والصومال حالة من الصراع المسلح الذي يأخذ أشكالاً شتى؛ كما أن هناك دولاً أخرى تعيش حالات من التوتر الطائفي كما هو الحال في لبنان وسوريا وجيبوتي، وفي حالات ثالثة توجد درجات من الاحتقان كما هو الحال في البحرين ومصر والجزائر والسعودية. وخامسها أن العالم في تجاربه المختلفة حاول أن يصل الى حل لمشكل التنوع العرقي والطائفي بأساليب متنوعة بحيث لا يمكن التوصل الى وصفة جاهزة يصلح تطبيقها في كل الأحوال والدول.
ولكن بالنسبة للعالم العربي تحديداً فإن هناك عدداً من التوصيات التي يمكن استخلاصها من العرض السابق: أولها أنه لا يجوز إنكار القضية كلها، فالتنوع والتعدد هو من الحالات الطبيعية، وما لم يتم إدراكها والتعامل معها، أو يتم النظر إليها كنوع من المؤامرات الأجنبية، فإن القضية على الأغلب سوف تتحول الى أزمات سياسية كبرى. وثانيها أن الاعتراف بالتنوع يعني المعرفة الواسعة عن الطوائف المختلفة واعتبارها جزءاً من التراث القومي، فلا يجوز ألا تعرف الأغلبية السنية العربية إلا القليل عن المسيحية والمذهب الشيعي والأقليات والقبائل المختلفة بحيث يكون ذلك جزءاً من الاهتمام الثقافي للدولة. وفي مصر على سبيل المثال فإن 700 عام من التراث القبطي في تاريخ مصر تم حذفها تماماً من دراسة التاريخ المصري في المدارس والجامعات. وثالثها أن وجود حد أدنى من المساواة القانونية وحقوق المواطنة شرط ضروري لخلق مناخ للتفاهم بين الجماعات المختلفة بل وحتى لخلق مناخ للتوافق حول النظام السياسي إذا كان ذلك ضرورياً. وعلى سبيل المثال فإن الأقلية المسيحية في مصر قبلت الدولة المركزية الديموقراطية بدلاً من تقسيم السلطة عند قيام الدولة المصرية لأن الدولة ونظامها السياسي والقضائي قام بشكل واضح على المواطنة والمساواة أمام القانون. ورابعها ان الدولة التي تعيش في حالة من النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام تكون أكثر استعداداً وقدرة على التعامل مع مشكلات التنوع لأنها تخلف هدفاً مشتركاً في تحقيق الرخاء. وكان ذلك واحداً من الأسباب الهامة لنجاح التجربة الهولندية بين الكاثوليك والبروتستانت، والماليزية بين المسلمين والصينيين. وخامسها أن الدولة التي تعيش في حالة سلام مع جيرانها، أو مع النظام الدولي، تكون في العادة أكثر قدرة على التعامل مع انقساماتها الداخلية، ليس فقط لأنها توفر على نفسها قيام الخصوم الخارجيين استغلال انقساماتها في الصراع، وإنما لأن الصراع الخارجي كثيراً ما يكون سبباً في منع التوافق السياسي أو تدميره إذا كان موجوداً. وبالتأكيد فإن التجربة اللبنانية كان ممكناً أن تكون أكثر نجاحاً إذا لم يكن لبنان جزءاً من معادلات الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وسادسها ان التنوع والاختلاف والتعدد والتوافق كلها تعد حالة من حالات الثقافة السياسية غير المعروفة في الدول العربية عموماً بسبب الفكر القومي في مرحلة والفكر الاشتراكي في مرحلة أخرى، والصراع مع الغرب واسرائيل في كل المراحل، وكل ذلك يجعل خلق هذه الثقافة ونشرها بوسائل الاعلام والتعليم والتنشئة مسألة ضرورية للتعامل مع تنوع العالم من ناحية والتعامل مع تنوع الداخل من ناحية أخرى.
من أوراق مؤتمر المعرفة الأول في دبي )
المستقبل
الوحدة والتنوّع في العالم العربي
تحليل رائع، والمصيبة ان من يقبضون على دفة المسئولية لا يستوعبون. فقط أقول أن د. عبد المنعم نسى الأقلية النوبية في مصر والسودان.
الوحدة والتنوّع في العالم العربيGod Bless You
It is absolutly one of the best articles I have ever read. If We got more others like you and abdurahman Al- Rashid, it will be very good för the future of the middleast. God bless you both.