يشتعل شرق أوكرانيا وتحتدم أزمة الاقتصاد الروسي. يلجأ الرئيس فلاديمير بوتين إلى التصعيد منذ أواسط الشهر الماضي، وتفقد أوكرانيا زمام المبادرة أمام الانفصاليين. يحذر رئيس الاتحاد السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشيوف، منذ أيام، من نشوب نزاع مسلح في سياق “حرب باردة جديدة” معلنة بين الروس والأميركيين. ويهرع الوزير الأميركي جون كيري نحو أوكرانيا منذ يومين لبحث سبل دعمها واحتمال تسليمها السلاح، ويعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في اليوم نفسه عن مفاجأة تتمثل في زيارة مشتركة وفورية مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لكل من كييف وموسكو في مبادرة لوقف التدهور تشبه الفرصة الأخيرة.
هكذا تتسارع دورة التاريخ في اختبار قوة روسي – أميركي – أوروبي فوق الصفيح الأوكراني الساخن بعد خمسة عشر شهرا على بدء “ثورة الميدان”، وما تلاها من ضم روسي لشبه جزيرة القرم والنزاع الدامي في شرق أوكرانيا والذي ذهب ضحيته أكثر من خمسة آلاف شخص.
بينما تحاول واشنطن عبر سلاح العقوبات التحكم بالمشهد عن بُعد، تسقط موسكو في الفخ بعدما تباهى القيصر الجديد بإنجازاته في النصف الأول من العام الماضي. وفي هذا الوقت يشكل استعصاء الأزمة الأوكرانية امتحانا جديا لإستراتيجيات الاتحاد الأوروبي إزاء عدم فهم دقيق لآليات عمل بوتين وتكتيكاته، ونتيجة عدم قدرة برلين وباريس حتى الآن على لعب دور مستقل وفعال (كما نجح نيكولا ساركوزي في الأزمة مع جورجيا في 2008) يجنب أوروبا العودة إلى زمن الحروب ويمنع انقسامها أو اللعب على وتر الشرخ بينها وواشنطن، كما تراهن موسكو المأزومة والمتعنتة في آن معا.
إشارات ارتسام الحلول التي بدأت إثر المشاورات على هامش ذكرى إنزال النورماندي في يونيو الماضي، ومن ثم مع اتفاق مينسك في سبتمبر، أخذت تتبدد نتيجة عدم بلورة جداول زمنية للترتيبات الأمنية والمفاوضات بين كييف والانفصاليين، وكذلك بسبب عدم رغبة بوتين في خسارة ماء الوجه بينما اقتصاده يعاني من العقوبات ومن انخفاض أسعار النفط. ترافق الانكماش مع صعود التضخم وانهيار سعر صرف الروبل وتعرض المصارف لأزمة غير مسبوقة مع هرب أرصدتها، بالإضافة إلى الاستثمارات الخارجية (هروب 151 مليار دولار من روسيا في 2014).
والأدهى بالنسبة إلى القيادة الروسية كشف الأزمة عن هشاشة البنية التحتية والفساد المستشري خاصة في رأس الهرم عند النخب المقربة من القيصر الجديد ورؤساء المجموعات في قطاع الطاقة. بالطبع يتم تحميل الطفرة النفطية السبب، لكن عدم القيام بالتحديث وتنويع مصادر الإنتاج هو السبب. لقد كان العقد الاجتماعي بين السلطة البوتينية والطبقة الوسطى قائما على أساس تحسن أوضاعها وكسبها بعض الغنى مقابل عدم اهتمامها بالسياسة، ولذا جرى استبداله بتهييج الشعور القومي والكلام عن روسيا الجديدة في وجه الحصار الغربي، وما يتكلم عنه لافروف من مخطط أميركي لإسقاط بوتين.
حيال هذا الوضع وفي هروب من استحقاق محاسبة شعبية يركّز بوتين ومحيطه على الخطر الخارجي الداهم كي يقبل الشعب المعاناة ويستمر قدما في المواجهة ليس فقط فوق المسرح الأوكراني، بل في إرسال مقاتلات سلاح الجو الروسي كي تستفز المقاتلات الأطلسية فوق البلطيق أو إسكندنافيا (في 28 يناير اعترضت رافال فرنسية مقاتلات روسية اقتربت من المجال الجوي الفرنسي).
وبرز الأداء البوتيني المتعثر والذي عفا عليه الزمن في منتدى موسكو عن سوريا الذي انعقد أواخر الشهر الفائت. أراد بوتين أن يبرهن تمسكه بالنفوذ في شرق المتوسط وإمساكه بورقة الحل دون أي براعة دبلوماسية، سواء لجانب أخذ تنازلات من النظام أو تعاون مع إيران إلى حد أن مناورة الدبلوماسية المصرية في اللحظة الأخيرة كشفت أيضا عن عدم مرونة روسية، وعن تشدد يخفي الرغبة والمساومة على هذه الورقة في لحظة مناسبة ربما مع المملكة العربية السعودية وقيادتها الجديدة (رغم نفي موسكو الرسمي لما ورد في نيويورك تايمز بتاريخ 4 فبراير عن ترتيب حول خفض إنتاج النفط السعودي مقابل تخلي موسكو عن الأسد) أو لحماية المصالح الروسية تجاه السعي الإيراني الممكن للحلول في سوق الغاز الأوروبي مكان روسيا، خاصة في حال إتمام الصفقة المنتظرة مع واشنطن.
على جبهة الحرب الأوكرانية، تتحرك القوى الانفصالية وفق استراتيجية روسية منذ أغسطس الماضي، وقد تكللت بإنجازات عسكرية ملموسة في الأسابيع الأخيرة مع استخدام أسلحة ثقيلة لا تملكها القوات الأوكرانية، وبناء على خطط قضم يمكن أن تؤدي إلى وصل شبه جزيرة القرم بالشرق الأوكراني. إزاء هذا التصعيد طالبت كييف بتزويدها بالسلاح الملائم وكذلك بالانضمام إلى حلف الناتو. أمام بوتين المستعد للمغامرة أكثر في العام الحالي حتى لا يخسر المبادرة والشعبية في الداخل الروسي، تبدو الجبهة الغربية مفككة لانعدام الرؤية المشتركة بين واشنطن وبرلين على وجه الخصوص. وزاد الأمر تفاقما مع التغيير الأخير في اليونان والذي سيزيد من صعوبات الوفاق الأوروبي بشأن عقوبات جديدة ضد روسيا.
يأتي السباق الأميركي – الأوروبي نحو كييف في هذا الإطار من البلبلة الاستراتيجية بين بوتين المصمم حتى الثمالة ولو كان على حافة الهاوية الاقتصادية (وبالرغم من مرض خطر كما تشيع أوساط البنتاغون) وباراك أوباما المراهن، ببرودة ودهاء، على لي الذراع الروسية وكسب الجولة في نهاية المطاف.
يبرز الانقسام الأوروبي الدبلوماسي والاستراتيجي (عدم تحرك دافيد كاميرون البريطاني إلى جانب هولاند وميركل بالإضافة إلى ما يشبه الطابور الخامس اليوناني) في لحظة تناسب بوتين لقطف ثمن التصعيد العسكري وضعف اتحاد أوروبي بقيادة ألمانية توهم يوما بإمكان الحفاظ على الرخاء الاقتصادي والاستقرار دون أدوات الدفاع والقدرة العسكرية.
في لحظة المبارزة ستكون أوروبا مقيدة بسبب تبعيتها العسكرية لواشنطن وحاجاتها الاقتصادية والإستراتيجية مع موسكو. لكن كل هذا الارتباك الذي يراهن عليه بوتين لن يأتي حكما لصالحه، لأن آليات النزاع الأوكراني يمكن أن تخرجه من طور السيطرة والمناورة، ولأن الداخل الروسي لن يستمر متماسكا تحت الضغط الاقتصادي.
تمثل مبادرة هولاند – ميركل فرصة تقدّم للرئيس الروسي كي يبدأ الخروج من المأزق الأوكراني وفق خارطة طريق تحفظ مصالح روسيا وتحمي استقـلال أوكرانيا. لكن مراقبة تطور المسألة الأوكـرانية منذ نهـاية الحـرب الباردة لا تشير إلى اقتـراب زمن الحلول الفعلية والنهائية بسبب استراتيجية واشنطن التي تخشى التقارب الألماني – الروسي، وبسبب نهج بـوتين الذي لا يمتلك عناصر القوة الاقتصادية لتركيز نفوذه.
ينهك النزاع الأوكراني روسيا وتتضرر منه أوروبا، وتسعى واشنطن للاستفادة من وظيفته في زمن لن تتكرر فيه سياقات زمن ستالين وتشرشل وروزفلت واتفاقية يالطا، بل هو أشبه بزمن حرب طروادة.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس
khattarwahid@yahoo.fr
العرب