مع بداية السنة 2016، يكون مرّ قرن كامل على اتفاق سايكس ـ بيكو الذي رسم، سرّا، خريطة الشرق الأوسط مع بدء انهيار الدولة العثمانية وتحوّلها الى “الرجل المريض” في المنطقة.
كان سايكس ـ بيكو اتفاقا بريطانيا ـ فرنسيا، علما انّه كان في البداية بريطانيا ـ فرنسيا ـ روسيا. لكنّ الجانب الروسي لم يعد جزءا من الإتفاق بعدما اندلاع الثورة البولشفية في العام 1917 وانتقال اهل الثورة، على رأسهم لينين، الى الإهتمام بالشأن الداخلي الروسي وتثبيت السلطة الجديدة التي اقامت “ديكتاتورية البروليتاريا”…
هل كان سايكس ـ بيكو في اساس المصائب والهزائم العربية على كلّ المستويات العربية والتي يتوّجها اليوم التفتيت الممنهج لسوريا ككيان لم يرض يوما بحدوده، بل شكا دائما من انّ ظلما كبيرا لحق به بسبب سايكس ـ بيكو؟
لم يكن سايكس ـ بيكو في اساس المصائب والهزائم بمقدار ما انّه كان شمّاعة، علّق عليها عرب كثيرون مشاكلهم وعجزهم لتبرير تقصيرهم وتخلّفهم في آن. كانت المصيبة في قسم من العرب لم يقدروا قيمة سايكس ـ بيكو، بل استخدموه في عملية هرب مستمرّة الى امام…
بعد مئة عام على سايكس ـ بيكو، تبدو المنطقة في حاجة الى سايكس ـ بيكو جديد، خصوصا بعدما تبيّن ان العراق الذي عرفناه انتهى وان سوريا التي اعتدنا عليها صارت جزءا من الماضي، اللّهم الّا اذا حصلت اعجوبة تنتزعها من براثن ايران وروسيا و”داعش” وتعيدها الى اهلها. لا يمكن انقاذ سوريا، ككيان، الّا بعيدا عن النظام العلوي القائم الذي يسعى حاليا الى انقاذ نفسه عبر اقامة كيان خاص به مرتبط بممّر مع المنطقة الخاضعة لنفوذ “حزب الله”، اي لإيران، في البقاع اللبناني.
ما جعل سايكس ـ بيكو يفشل، علما انّه كان في الإمكان تحويله الى قصة نجاح، الإبتعاد العربي عن كلّ ما هو منطقي وواقعي بدءا بالعجز عن استيعاب ان المطلوب منذ البداية الحدّ من اضرار المشروع الصهيوني وليس عمل كلّ شيء من اجل خدمته.
نسي معظم العرب انّ وعد بلفور الذي “ينظر بعين العطف الى اقامة وطن لليهود في فلسطين” كان في العام 1917، اي انّه مرتبط الى حدّ كبير باتفاق سايكس ـ بيكو الذي توصلّت اليه بريطانيا وفرنسا في السنة 1916.
لم يستطع العرب، عموما، فهم معنى التعاطي مع موازين القوى ببرودة وبشكل علمي. كلّ من تعاطى مع موازين القوى بعقل مستنير ذهب ضحيّة العنف والإرهاب. هناك مثلا مهمان على ذلك. اغتيل الملك عبدالله الأول (الأردني) في القدس واغتيل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح في عمّان، على يد عناصر من حزب فاشي، مكوّن من مجموعة اقلّيات، كان ولا يزال يعمل في خدمة كلّ ما من شأنه انجاح عملية التدمير المستمرّة للمجتمعات العربية. كان ذنب عبدالله الأوّل ورياض الصلح انهما حاولا ادخال بعض العقلانية الى الرؤوس العربية الحامية
والمريضة في الوقت ذاته.
اعتقد معظم العرب انّ الشعارات كافية لإيصالهم الى ما يطمحون الى تحقيقه. لم يفرّقوا يوما بين الحقيقة والخيال. لذلك لم يتعاطوا مع سايكس ـ بيكو كحقيقة وواقع. لم يعملوا على تطويره. حاولوا تجاوزه وذلك من اجل تدمير ما بقي من كيانات سياسية كان للإتفاق البريطاني ـ الفرنسي الفضل في قيامها.
من قرار التقسيم في 1947 الذي رفضه العرب… الى الإنقلاب العسكري في سوريا عام 1949، الى الانقلاب العسكري في مصر في 1952، الى حرب السويس في 1956، التي كانت كارثة مصرية بكلّ معنى الكلمة، وصولا الى التخلص من النظام الملكي في العراق صيف 1958، مرورا بالوحدة المصرية ـ السورية التي اسست لنظام الأجهزة الأمنية في سوريا و”الإشتراكية” التي تفقر المواطن، استمرّ مسلسل المآسي. توّج هذا المسلسل باستيلاء البعث، بكلّ تخلّفه، على السلطة في سوريا والعراق وتكريس لاجتياح الريف للمدينة والقضاء على كلّ ما هو حضاري فيها.
لم يكن هناك عقل عربي يمنع كارثة حرب 1967، التي لا تزال المنطقة تعاني من نتائجها الى يومنا هذا. لم يكن هناك عقل عربي يمنع سقوط لبنان ويتحسّب لمعنى هذا السقوط ولنتائجه في المدى الطويل. عندما شجّع العرب، على رأسهم النظام الأقلّوي في سوريا على اغراق لبنان بالمسلّحين الفلسطينيين والسلاح المرسل الى الميليشيات الطائفية ثمّ المذهبية، كانوا يزرعون بذور المآسي التي نعاني منها اليوم، على رأسها المأساة السورية. لم يعد مستبعدا ان تأتي السنة 2016 بالخطوط العريضة لسايكس ـ بيكو جديد بمشاركة روسية علنية هذه المرّة، في حين سيحلّ الأميركي والإسرائيلي، وربّما الإيراني ايضا، مكان البريطاني والفرنسي، اي مكان السيّدين ماركس سايكس وفرنسوا جورج ـ بيكو.
لم يمتلك لبنان ما يكفي من المناعة الداخلية لمواجهة العقل التخريبي للأنظمة العربية التي تآمرت من اجل حصر الصراع مع اسرائيل بارضه وباهل الجنوب المظلومين تحديدا. شاء هذا العقل العربي التخريبي المتخلّف معاقبة لبنان على اتخاذه قرارا صائبا وحكيما يقضي بعدم مشاركته في حرب 1967 بغية المحافظة على ارضه. فُرض على لبنان اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969 عقابا له على اعتماده الحكمة والتروّي.
لا يزال البلد يعاني من نتائج هذا الإتفاق، خصوصا بعدما حلّت ميليشيا “حزب الله” مكان الميليشيات الفلسطينية وذلك من اجل تكريس لبنان “ساحة” استخدمها النظام السوري طويلا وتستخدمها ايران اليوم بالشكل الذي يخدم مصالحها التي لا تبدو بعيدة بأي شكل عن المصالح الإسرائيلية.
كان سايكس ـ بيكو نعمة، لم يستطع اي نظام عربي المحافظة عليها والتكيف معها والعمل على تطويرها بما يخدم اهل المنطقة ومستقبل ابنائهم. على العكس من ذلك، استُخدم سايكس ـ بيكو عذرا ليقمع كلّ نظام شعبه باسم فلسطين احيانا وباسم الوحدة العربية ومواجهة الإستعمار والإمبريالية العالمية في احيان اخرى.
لم يكن العرب من اهل المشرق، يستحقون سايكس ـ بيكو. هل سيستحقون ما سيخلف سايكس ـ بيكو في ظلّ “داعش” والمشروع التوسّعي الإيراني الذي الغى الحدود المعترف بها بين الدول العربية لمصلحة الرابط المذهبي؟
هل ستكون المشاركة الروسية في سايكس ـ بيكو الجديد مساهمة ايجابية في مجال رسم خريطة جديدة اكثر استقرارا للشرق الأوسط؟ الأكيد ان الجواب هو لا والف لا، خصوصا ان روسيا ـ فلاديمير بوتين دولة مريضة من كلّ النواحي، فيما المشروع التوسّعي الإيراني لا يمكن ان يكون له اي مستقبل لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب الى انّ ليس لدى ايران الحالية ايّ نموذج سياسي او اقتصادي او حضاري تقدّمه باستثناء استثارة الغرائز المذهبية والبناء على ما يتبع ذلك. انّه مشروع قائم على التدمير من اجل التدمير ليس الّا.
كم سيترحّم العرب على سايكس ـ بيكو في ذكرى مرور مئة عام عليه. كان هدية من السماء لم يتمكّنوا من المحافظة عليها، لا لشيء سوى لأنّهم لم يدركوا منذ البداية معنى ان تكون لديهم دول وانظمة سياسية قادرة على تطوير نفسها بنفسها بدل اللجوء الى الأنظمة العسكرية والأجهزة الأمنية التي ولدت من رحمها الميليشيات المذهبية، من “داعش”، التنظيم السنّي اسما، الى “الدواعش” الشيعية بتسمياتها المختلفة.