“كلما تنازل الليبراليون أمام المطالب الإسلامية بصورة أكثر، كلما زاد تهميشهم في الصراع من أجل مستقبل مصر.”
في الثامن من تموز/يوليو، تجمع عشرات الآلاف من المصريين الليبراليين والإسلاميين في القاهرة والإسكندرية للمشاركة في احتجاجات أُطلُق عليها “جمعة الإصرار”. وقد أتيحت تلك المظاهرات — التي تعد بمثابة استعراض نادر للوحدة الوطنية في طيف سياسي مستقطب — في أعقاب تنازلات ضخمة من قبل الليبراليين إلى جماعة «الإخوان المسلمين». ولأجل ضمان مشاركة الإسلاميين، وافق الليبراليون على أن لا تركز المسيرات على طلبهم الرئيسي بصياغة دستور جديد قبل الانتخابات البرلمانية. ورغم صياغة إجماع مؤقت وخروج أعداد غفيرة للمشاركة في الاحتجاجات، ربما يكون الليبراليون قد تخلوا عن القليل مما لديهم من نفوذ في العملية الانتقالية.
“الدستور أولاً” مقابل جماعة «الإخوان المسلمين»
يرى معسكر “الدستور أولاً” أن الإطار الزمني الانتخابي والخطة الانتقالية التي وضعها “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” الحاكم — وعلى وجه التحديد، إجراء انتخابات برلمانية في أيلول/سبتمبر تليها عملية صياغة دستور وإجراء انتخابات رئاسية — سوف يمنحان ميزة غير عادلة لخصومهم السياسيين من الإسلاميين المنظمين جيداً. وفي 27 أيار/مايو، وفي ظل غياب حوار شفاف وشامل مع “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” حول خارطة طريق للمستقبل، خرج مؤيدو “الدستور أولاً” بأعداد كبيرة إلى الشوارع.
وفي غضون ذلك، صرح رئيس “حزب الحرية والعدالة” التابع لـ جماعة «الإخوان المسلمين»، محمد مرسي، أمام حشد ضم نحو 20,000 شخص في الأسبوع الماضي أن من يدعون إلى إجراء الانتخابات هم “صهاينة وفلول النظام السابق الفاسد”. وعقب ذلك اتهم الأمين العام لـ “حزب الحرية والعدالة” سعد الكتاتني صحيفة “المصري اليوم” اليومية — التي نشرت مقطع فيديو من الخطاب — بـ “التلفيق”.
إن المواجهات الكلامية من هذا القبيل تحدث بوتيرة متزايدة بين معسكري الليبراليين والإسلاميين. إن حجة جماعة «الإخوان المسلمين» هي أن نموذج “الدستور أولاً” يتعارض مع إرادة الشعب، وفقاً لما تم التعبير عنه في آذار/مارس، عندما وافق 78 في المائة من المصوتين على التعديلات التي أدخلت على دستور عام 1971 والتي اشترطت إجراء انتخابات تشريعية أولاً، تليها عملية إعادة صياغة دستورية يقوم بها البرلمان الجديد.
تهيئة الساحة لاحتجاجات جديدة
على أساس هذه الخلفية، بدأ الليبراليون في الدعوة إلى تنظيم احتجاجات جديدة، وخططوا في البداية أن تشمل برنامجاً لوضع “الدستور أولاً” كمطلب رئيسي. وقد اكتسبت تلك الدعوات زخماً وسط إحباط عام متزايد من جراء الممانعة الواضحة لـ “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” في محاكمة مسؤولي النظام السابقين، لا سيما أولئك المتهمين بقتل أو جرح المتظاهرين أثناء الثورة التي استمرت ثمانية عشر يوماً.
وقد تبيّن مدى ذلك الإحباط من خلال المشاركة الواسعة في احتجاجات يوم الجمعة، بما في ذلك ظهور نادر لـ جماعة «الإخوان المسلمين» — الذي لم يقتصر على أعضائها الأصغر سناً أو ممثليها في “ائتلاف شباب الثورة” — إلى جانب بعض الحركات السلفية المتشددة. وكان “حزب الحرية والعدالة” وجماعة «الإخوان المسلمين» قد أعلنا في وقت مبكر من الأسبوع الأول من تموز/يوليو، وبعد يومين من المناقشات الداخلية، بأنهما سيشاركان في الاحتجاجات. وفي نغمة مثيرة للجدل نادراً ما سُمعت من «الجماعة» منذ تولي “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” السلطة في البلاد، انتقد “حزب الحرية والعدالة” وتيرة محاكمات مسؤولي النظام السابق. كما وصف الكتاتني التعامل مع أسر المتظاهرين القتلى بأنه “غير مقبول” ودعا كافة الجماعات إلى “تنحية الأيديولوجيات جانباً والتوحد من أجل تقدم مصر”.
وبطبيعة الحال، أشار إعلان جماعة «الإخوان المسلمين» أيضاً إلى أن مطلب معسكر “الدستور أولاً” قد تمت تنحيته جانباً، مع موافقة “غالبية القوى السياسية” كما يُدّعى، على المضي قدماً في إجراء الانتخابات أولاً. وفي الواقع أن البيان الأخير قبل الاحتجاجات والصادر عن ائتلاف من الفصائل الليبرالية — ثمانية من الأحزاب اليسارية والليبرالية وأحد عشر من الحركات الشبابية والثورية — قد استبعد أي إشارة لمطلب “الدستور [أولاً]” أو الإطار الزمني للانتخابات. وبدلاً من ذلك، ركّز بيانهم — تحت شعار “الثورة أولاً” — على ثلاثة مجموعات من المطالب.
تناولت المجموعة الأولى القضايا الاقتصادية، حيث طالبت بوضع حد أدنى وطني للأجور، وحق العمال في حرية التنظيم، واستعادة أصول مصر “المسروقة” من قبل النظام السابق. أما المجموعة الثانية فتعلقت بإصلاح القطاع الأمني، حيث دعت إلى إعادة هيكلة وزارة الداخلية بصورة جوهرية مع إشراف قضائي ومدني. بينما ركزت المجموعة الثالثة على العدالة ودعت إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تضمن استقلال القضاء وإجراء محاكمات سريعة لمنتهكي حقوق الإنسان وإضافة الرئيس السابق حسني مبارك إلى قائمة المتهمين بقتل المتظاهرين، والإنهاء الفوري للمحاكمات العسكرية للمدنيين.
وهناك جوانب أخرى من بيان الليبراليين هي الأخرى جديرة بالملاحظة. فقد طالبت إحدى الفقرات بأن “تسمح” السلطات لرئيس الوزراء الحالي بممارسة مهام منصبه بحرية، مثل مراجعة التشريعات الجديدة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة. كما طالب بند آخر بمنع مرشحي “الحزب الوطني الديمقراطي” — الذي كان يحكم سابقاً — من الترشح للدورتين القادمتين من الانتخابات البرلمانية، بما في ذلك “مجلس الشورى”. كما دعا البيان أيضاً إلى “إعادة النظر” في الميزانية القومية و[اتباع مبدأ] الشفافية في كافة مخصصاتها — وهو مطلب يبدو موجهاً إلى “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” نظراً لأن الميزانية العسكرية لا تخضع حالياً لمراجعة تشريعية.
الليبراليون يواجهون مخاطر التهميش
يرجح أن الفصائل الليبرالية التي وقعت البيان قامت بذلك لتحقيق إجماع وطني قبل احتجاجات يوم الجمعة. إلا أن هذا المظهر الذي يعكس الوحدة قد يعرقل الجهود الرامية إلى وضع خارطة طريق معقولة للفترة الانتقالية ويرغم الليبراليين على التخلي عن دورهم كصوت المعسكر غير الإسلامي، الذي كان يعتمد على الكلام بشكل متزايد في مطالباته بـ “الدستور أولاً.”
وسابقاً، قال هؤلاء الليبراليون أن “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” قوّض الاستفتاء الدستوري في آذار/مارس بإصداره إعلان دستوري بعد التصويت يضم 63 مادة، تسعة منها فقط تم طرحها للتصويت. وبتنازلهم عن المعركة على عملية صياغة “الدستور”، يمنح الليبراليون الآن “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” والإسلاميين إجازة مجانية، بل والأهم من ذلك، أنهم يتجاوزن فرصة لتعزيز قيام تحول ديمقراطي حقيقي. وبالمقارنة مع خصومهم السياسيين الإسلاميين، اتسم الليبراليون حتى الآن بالضعف في اتخاذ إجراءات شعبية لإقناع الغالبية العظمى من المصريين بأن خارطة الطريق التي تقدموا بها هي الوفاء الأكثر صدقاً بمطالب الثورة.
رد “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”
استجابة للدعوات لتنظيم احتجاجات يوم الجمعة، أعلن “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” أنه منفتح على عملية تعديل قوانين الانتخابات والمشاركة السياسية الحالية. وتشمل التغييرات التي اقترحها اعتماد نظام انتخابي مباشر يعتمد على النسبة المختلطة، فضلاً عن تخفيض السن الأدنى للترشح للبرلمان إلى خمسة وعشرين عاماً. إلا أن تلك الاقتراحات لن تغير مطلب تخصيص 50 في المائة من مقاعد البرلمان لـ “العمال والفلاحين” — وهي مادة عفا عليها الزمن ومثيرة للجدل احتفظ بها “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” رغم حقيقة أن المصريين لم يُسمح لهم بالتصويت عليها أثناء استفتاء آذار/مارس. والأهم من ذلك، أن التعديلات الجديدة المقترحة جاءت، كما هو المعتاد، نتيجة مشاورات غامضة وغير شاملة وعشوائية من قبل “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” وحكومته.
وقد أعلن “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” أيضاً عن “صندوق تعويضات” لعوائل شهداء الثورة. وفي يوم الخميس، تم اتخاذ قرار بإحالة خمسة وعشرين من الشخصيات البارزة في “الحزب الوطني الديمقراطي” — بما في ذلك الأمين العام السابق للحزب ورئيس البرلمان — إلى محكمة الجنايات بتهم قتل المتظاهرين في “معركة الجمل” سيئة السمعة التي وقعت في 2 شباط/فبراير، والتي كان مؤيدو النظام قد استخدموا فيها الجمال لمهاجمة حشود المتظاهرين. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات لم تضعف إرادة محتجي يوم الجمعة، إلا أنها تدل على أسلوب التجزئة وعدم الثبات الذي يميل “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” وحكومته المعينة إلى التعامل بموجبه مع مطالب الثوار.
هل سيكون هناك المزيد من التنازلات في المستقبل؟
بعد عجزهم عن الوصول إلى حل “الدستور أولاً”، تقترح الآن القوى الليبرالية في مصر أجراء “حوار وطني” توافق فيه جميع الأطراف على “مبادئ فوق دستورية” ومعايير لاختيار لجنة صياغة الدستور “مقدماً”. ومن بين أنصار هذا الرأي أولئك الليبراليون الذين يعملون ببساطة نحو تحقيق دولة مدنية (وليس دولة عسكرية أو دينية)، ومن بينهم من يأمل في الفوز بمنصب الرئاسة والقاضي السابق هشام البسطويسي الذي يحظى باحترام وتقدير. ومن شأن هذه المبادئ أن تعكس أسس مصر كدولة مدنية، وتكرّس الفصل بين السلطات، وتضمن الحريات المدنية الأساسية، بما في ذلك حرية الدين. إلا أن بعض الإسلاميين قد عبّروا بالفعل عن استهجانهم لهذا الاقتراح، مصرحين بأنه لا ينبغي أن تكون هناك مبادئ أعلى من الدستور. وفي هذا السياق، كلما تنازل الليبراليون أمام مطالب الإسلاميين بصورة أكثر، كلما زادت احتمالية تهميشهم في النضال من أجل مستقبل مصر.
دينا جرجس هي زميلة أبحاث كيستون فاميلي في مشروع فكرة التابع لمعهد واشنطن.