شاعت في مجتمعنا بعض المصطلحات التي لابسها كثير من الوهم وسوء الفهم، حيث يكتفي بعضهم بتلقي المصطلح وتبنيه دون أن يفكر في مضمونه بل إنه مع قصوره في الفهم الصحيح لا يتوانى عن الإضافة إليه من عندياته ليتوافق ومبتغاه وما يريده منه. أما الاجتراء على المصطلح وسلب المفهوم أهم خصوصياته وهي الدقة والتحديد والوضوح فلا تعني له شيئا .
كلنا يذكر كيف راج عدد من المصطلحات زمن الصحوة التي كانت تطلق جزافا وكيفما اتفق، مثل شيوعي وعلماني وصولا إلى ملحد وزنديق وكافر. وربما ما زال بعضنا يذكر تلك الوريقات التي وزعت بُعيد قيادة السيارات من قبل بعض المواطنات وكيف جرى التعريف بأزواجهن وتصنيفهم. فأُردف كلُ اسم بما راق لكاتب تلك الوريقات من مصطلحات فأحدهم علماني، والآخر شيوعي، والثالث علماني شيوعي، والرابع شيوعي ملحد وما إلى ذلك. بل إن مصطلح شيوعي ظل رائجا عندنا وحظي بكم كبير من الاهتمام والاحتفاء على الرغم من أن الشيوعية انتهت في موطنها الأصلي! مما يدل دلالة قاطعة على رسوخ المصطلح مع ما يعتريه من خلط مفهومي في أذهان مطلقيه، وتساهلهم في التصنيف والتكفير والإلغاء حد الرغبة الدفينة في التصفية دون خوف من الله الذي ينهى عن الرجم بالغيب، الله الذي نصّبوا أنفسهم حماة لدينه لكنهم أول من يجترئ على انتهاك نواهيه .
وبعد أن انحسرت موجة مصطلح علماني في مجتمعنا أو كادت بعد أن فقد وهجه لكثرة ما استعمل فصار مستهلكا، ورغبة في الجديد الذي يمكن أن تضاف له معانٍ تخدم توجها بعينه، راج هذه الأيام وبقوة مصطلح الليبرالية الذي صار لدى بعضهم مرادفا للعلمانية وشتان ما بين هذا وذاك، ولفرط شيوع المصطلح تجد بعضهم يقول فلان ليبرالي، فإذا سألته عمّا تعنيه الليبرالية أرتج عليه وتلجلج .
لعل أول نقطة ينبغي الوقوف عليها هي التأكيد على تحرير المصطلح مما علق به من خلط وتشويه وسوء فهم وتحديد مفهومه تحديدا دقيقا حتى لا يكون مدعاة لرمي الليبراليين بالكفر.
والليبرالية Liberalism كما جاء في مصادرها مصطلح لاتيني من ليبر ويعني حرا أي غير مملوك، وهي اتجاه فكري ورؤية فلسفية ومذهب سياسي وحركة اجتماعية تجعل الحرية قيمة عليا. وتعود جذورها إلى عصر التنوير كرد فعل على استبداد الكنيسة وعصر الإقطاع والملوك المقدسين. وتركز الليبرالية كاتجاه سياسي على الإيمان بالتقدم وقدسية الحقوق الفردية والحد من قيود السياسة، والتأكيد على سلطة القانون، وحماية الحريات السياسية والمدنية، وإقامة ديموقراطيات حرة بانتخابات نزيهة حيث يتمتع كل المشاركين من ناخبين أو مصوتين بحقوق متساوية وفرص متكافئة للفوز أو للمشاركة (فلا مجال لقوائم التزكية).
أما الليبرالية الاقتصادية فهي نظرية في الاقتصاد تؤكد على الحرية الفردية التي تقوم على المنافسة الحرة وتنادي بحرية المشروع الاقتصادي على قاعدة العقلانية الاقتصادية التي فكت ارتباطها بالعقلانية عموما في مرحلة الدولة الاستبدادية لرأس المال الاحتكاري، وتأمين نظام اقتصادي يدعم حرية البيع والشراء .
وعلى الصعيد الفكري تسعى الليبرالية لتحقيق مجتمع يتمتع بحرية الفكر، أي حرية الإنسان في التفكير والقول والكتابة، أي تحرير الفرد من العبودية الفكرية. وتتحرك الليبرالية وفق أخلاق المجتمع الذي يتبناها وقيمه، وتتكيف حسب ظروفه ومعتقداته.
ودعا الليبراليون الجدد في أمريكا إلى حق الإنسان في الرخاء والأمن وإلغاء العنصرية في كافة أشكالها، وفرض ضرائب تصاعدية تتزايد كلما زاد دخل الفرد
الليبرالية حسب هذا المفهوم تستهدف الإنسان لأنه محور كل التغيرات الثقافية والفكرية والسياسية بتقديم منظومة من الأفكار القيمية التي تبنيه وتحسّن سلوكه وتقوّم ما أعوج منها، وتنادي بتأكيد كرامته وحمايته من الاستغلال وصون حقوقه ومنع التعدي عليه تحت أي اسم أو مظلة مهما كان نوعها، والمساواة في الحقوق والواجبات بين كافة شرائح المجتمع ونزع القداسة عن الأفراد وإعلاء سيادة القانون الذي يعلو فوق الجميع .
هذا بعض ما تطرحه الليبرالية سواء اتفقنا معها أم اختلفنا، لكني أجد في بعض طرحها لا سيما المنظومة الأخلاقية تناغما مع ما جاءت به الشرائع السماوية خصوصا الإسلام. أولم يدعُ الإسلام إلى الحرية ونبذ العبودية لغير الله، حتى الحرية في الاعتقاد (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) أي من يرد أن يؤمن فليؤمن ومن يرد أن يكفر فليكفر لكنّ حسابه على الله، ألم ينهَ عن الاحتكار والجشع والبخل وكنز الأموال والذهب والفضة؟ ألم ينبذ العنصرية وينادى بالمساواة بين البشر فيما عدا التقوى؟ ألم يدعُ إلى تحرير سلوك الإنسان من الكبر والتعالي والغرور والخيلاء؟ ألم يأمرء بالصدقة والزكاة وجعلهما حقا للفقير والمحروم؟ (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)؟ إذن ما بال الذين يقولون إن الليبرالية تتنافى كلية والدين الإسلامي؟ لماذا لا تعني الليبرالية عند بعضهم إلا الخروج على الدين؟ لماذا يعتبرون كل فكر يقدم لخدمة الإنسان ضد الإسلام؟
المعارضون لليبرالية يأخذون عليها تركيزها على حرية الإنسان، لكن هذه الحرية يمكن أن تكون نسبية بين مجتمع وآخر، وليس كل من نادى بالليبرالية نادى بها على إطلاقها، أفلا يوجد مجال للانتقاء بحيث يؤخذ منها ما يتناسب والفكر الديني ويترك منها ما يتعارض معه؟
هل امتثل بعض كبار التجار والمحتكرون والمستثمرون لتعاليم الإسلام فامتنعوا عن الممارسات التجارية غير الإنسانية كاحتكار السلع والأراضي والمبالغة في أسعارها والثراء الفاحش واستغلال البشر؟ مما زاد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بل إن بعض الممارسات الاقتصادية في بلادنا جعلت الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا كما حدث في سوق الأسهم منذ أشهر. أما احتيال بعض ذوي الأنفس المريضة على ما يتوجب عليهم من زكاة وصدقة، والثراء غير المشروع والغش والرشى ونهب المال العام فحدث ولا حرج. المنادون بتطبيق الشريعة الإسلامية لم ينجحوا في تطبيق ما جاء به الإسلام على هؤلاء.
يقول أحد منتقدي الليبرالية في مستواها الاقتصادي: (وإذ تدعي الليبرالية مكافحة الاستبداد وتدعو إلى الحرية المطلقة فهي بدعوتها لاقتصاد السوق وحرية المبادلات واعتراضها على دور الدولة الاقتصادي، تساهم بإنتاج أبشع أنواع الاستبداد ممثلا برأس المال المتوحش الذي يهمش الضعفاء في الغرب ويحرمهم من أنظمة الخدمات العامة التي توفرها الدولة ويفترس بالمقابل ثروات الشعوب والأمم الفقيرة في الشرق أو ما تبقى منها ويخوض حروبا طاحنة ضد كل من يعترضه ويمرغ أنوف الممانعين بالوحل)، فهل الاستبداد الذي يتحدث عنه لا يوجد إلا في طرح الليبرالية؟ أليس الاستبداد حسب المفهوم الذي ساقه قد استوطن في بعض بنية المجتمعات العربية والإسلامية، وما اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وانتشار الفقر وشيوع الجريمة إلا ثمرة من ثمار ذلك الاستبداد!!
هنالك من يضفي على الليبرالية مفهوما مرتبطا بالتفسخ والانحلال ومعاداة الدين، فيسبغون ذلك بكرم متناه على كل من يطرح طرحا تنويريا بهدف التغيير والتجديد والتحديث، فيتهمونهم بالدعوة إلى التغريب وفتح البارات والملاهي الليلية رغبة في إشاعة الفاحشة. بل حتى مصطلح التنوير يرفضونه ويدعون أنه مغاير للإسلام لمجرد أنه مصطلح غربي تهاوت سلطة الكنيسة بسببه وساد الإشعاع الحضاري في أوربا بعد قرون من الظلام والإظلام! وبناء على هذا الطرح لا يجوز أن نقول نحن تنويريون.
يتعرض أي كاتب في الشأن المجتمعي لخطاب إقصائي محمل بمفردات التخوين والتشكيك ناهيك عن الادعاء ببساطة الطرح والقصور عن تناول القضايا الكبرى في المجتمع والعجز عن طرح استراتيجية وطنية لما يكتب عنه من قضايا. بل أصبح الهجوم على الكتاب التنويريين وسيلة يتقرب بها العاجزون من الكتاب إلى أصحاب الخطاب المتشدد لينالوا بركاتهم! الشق الأول خطاب حفظنا مفرداته لفرط ذيوعه وانتشاره، وأبشع ما يميزه هو اغتصابه اللغة من حيث انتزاع مفردات معينة من سياقها الخاص وحقلها اللغوي ومن ثم توظيفها في سياق آخر حتى تبدو ألفاظا وتعابير معلبة جاهزة للاستخدام عند أي نقاش. جمهور هذه الخطاب ظاهرة صوتية يتلقى هذه المفردات مع ما يشوبها من خلط مفهومي فيعمل على بثها عبر الإنترنت واللقاءات التليفزيونية والمحاضرات والمقالات الصحفية، فتروج ألفاظ التخوين والتصنيفات التي تعود بالوطن إلى زمن اليمنية والقيسية اللتين تصارع أربابهما بغية إثبات التفوق والحق في الوجود على حساب الأخرى، لكن مما يتميز به هؤلاء هو أنهم يطرحون أنفسهم في غاية الوضوح .
بعض المتابعين لما يطرحه الكاتب يريدون منه أن يكتب في مقالة صحفية كل شيء في وقت واحد. فهم لا يفرقون بين المقالة الصحفية أو الدراسة أو البحث العلمي، وكثيرا ما يتهم الكتاب التنويريون أو الليبراليون بأنهم لا يطرحون الحلول، مع أن الكاتب يكمن دوره في تحريك الركود وإيقاظ السكون وعلى صاحب القرار تلقي الرسالة عمل بها أم لم يعمل. إنهم يريدون منه أن يكون كاتبا ومفكرا وسياسيا ومحللا اجتماعيا ونفسيا ومخططا استراتيجيا وتنمويا، ولا بأس أن يكون محللا ماليا!!
أما الشق الآخر من هذا الخطاب فأصحابه محسوبون على الثقافة بما يكتبونه في الصحف وفي المواقع الألكترونية، بعضهم بأسمائهم الحقيقية التي يكتبون بها في الصحف، وبعضهم الآخر مزدوج الشخصية تارة يكتب باسمه الحقيقي الذي يكتب به في الصحيفة، وتارة يتمترس خلف اسم مستعار يتخذه وسيلة للهذيان فيخوض في شأن الآخرين أيما خوض مستغلا أيّ معلومة عن الآخر يخال إليه أنه وحده من يعرفها وأن صاحبها يستاء من نشرها، فينتشي ببثها في سلوك مشين يوضح حقيقته التي لا يعرفها قراؤه “إن كان له قراء بحجم قراء الآخر” ويكشف الزيف ويعمل على تعريته! !
كاتبة ومذيعة في قناة غير سعودية كتبت مقالاً في إحدى الصحف عن الليبراليين السعوديين من الكتاب ووصفتهم بالنفاق ومنهم الكاتبات فقالت (أما العنصر النسائي في حزب مدعي الليبرالية فالأمر يستحق التندر. إن أشد الكاتبات السعوديات جرأة في الدعوة إلى التحرر ترفض أن تنشر لها صورة إلى جانب مقالها – الصحيفة التي تكتب فيها تنشر صور الكاتبات – وسيفاجئك رأيها: عاداتنا وتقاليدنا، أنا لا أحب أن تستغل صورتي، يكفيني الهجوم الذي أتعرض إليه بسبب قلمي)!!!
لماذا يستسهل بعضنا الاتهام وإلقاء الكلام على عواهنه؟ لماذا يعتقد بعض المثقفين ممن يحسبون أنفسهم على التيار الليبرالي أن جميع الكاتبات اللاتي يكتبن في الشأن التنويري لا بد أن تكون لديهن القناعة نفسها فيما يتعلق بنشر الصور والظهور على القنوات الفضائية؟ لماذا تحسب هذا التصرف نفاقا لا قناعة فعندما تقتنع بنشر صورتها ستفعل؟ النفاق معناه أنها تدعو إلى مالا تسمح به لنفسها، إضافة إلى أن خطاب التنوير والدعوة إلى التحديث ليسا إثما، فتفعله على طريقة (طباخ السم ما يذوقه) المسألة مسألة قناعة لا أكثر، أما الخطاب الذي ندعو إليه جميعا فلا يتعارض مع النص الديني ولا يخرج عمّا رسمه الإسلام وإلا لما سمحت الصحف بنشره!
(الرياض)