التطورات المحلية المتعلقة بقضية الحريات، تجعلنا نتجه بالمقال إلى التيار الليبرالي في الكويت، لأنه هو المعني أكثر من أي جهة أخرى بهذا الأمر، كون الحرية تعتبر رأسمال التيار، بل لابد أن يكون الليبرالي هو المدافع الأول عن الحرية المتعلقة بأصل آخر من أصول الليبرالية وهو احترام حقوق الإنسان.
فالتيار الليبرالي وعلى الرغم من قيام بعض المنتمين إليه بالدفاع عن مبدأ الحرية فيما يتعلق بقضايا عديدة برزت على السطح مؤخرا في الكويت، ويأتي على رأسها قضية الكاتب محمد عبد القادر الجاسم، إلا أن المراقب لموقف أشخاص بارزين في التيار يلحظ تخاذلا ولا مبالاة تجاه هذا المبدأ، الأمر الذي قد يعرض تسميتهم بليبراليين إلى شرخ كبير.
فالليبرالي لا يمكن تسميته بهذا الاسم إن لم يكن همّه الأول هو الدفاع عن الحريات، ويأتي في إطارها حرية الكلمة وحرية التعبير. والليبرالية لا يمكن أن تقوم لها قائمة إن لم تستند إلى الدفاع عن الحقوق والحريات واحترام حقوق الإنسان. لكننا نجد، وبكل أسف، العديد ممن أسموا أنفسهم ليبراليين وهم غير مبالين بما يحدث حولهم من تطورات سلبية تمس قضايا الحريات في الكويت. ومن هؤلاء من هو نائب في البرلمان وكاتب ومثقف وسياسي وغيرهم من شرائح المجتمع.
فالنهج الليبرالي يقوم على المطالبة بالحقوق والحريات الفردية، ومن ضمنها حق النقد من خلال التعبير سواء بالكتابة أو بالكلام. كما يشدد على الدفاع بصورة مستميتة عمّن يقوم بهذا الدور المبدئي. لذلك فإن من يتساهل في ممارسة هذا الدور أو يخشى على مصالحه الشخصية والاجتماعية والسياسية فعليه أن يقر بعدم انتمائه إلى هذا النهج. بل عليه الإقرار بأنه يستغل الليبرالية لتحقيق مصالحه الشخصية، فيما هو في الواقع يمارس عملا غير أخلاقي.
فالليبرالية هي مدرسة أخلاقية قبل أي شيء آخر، لأنها تطرح مفاهيم الحياة الحديثة التي ساهمت في إقرار التعايش والتسامح بين المختلفين. لقد استطاعت أن تؤصل للتعايش بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والفكرية المختلفة، ولولاها لكانت البشرية لا تزال تعاني من مرض الإقصاء العرقي والطبقي والديني. لذلك هي تشدد على ضرورة التقيد بالقانون في معركة كسب الحريات،
وتناهض أي دعوة للتعدي على الحريات باسم الدفاع عن القانون.
لكن، يبدو أن الكثير ممن يسمون أنفسهم ليبراليين غير قادرين على تحديد موقف واضح تجاه موضوع الحرية والدفاع عنها. فنائبة في مجلس الأمة ادعت بأنها ليبرالية، فشلت في تأكيد ليبراليتها في العديد من القضايا، من ضمنها قضية دخول مفكرين تنويريين إلى البلاد لإلقاء محاضرات فيها، مثل قضية دخول الدكتور نصر حامد أبو زيد، لأن الدفاع عن الدكتور كان من شأنه أن يسبب لها متاعب فكرية واجتماعية ودينية مع ناخبيها في دائرتها الانتخابية. وموقف النائبة هذا يمارسه الكثير من الكتاب والمثقفين والسياسيين الذين لا أستطيع إلا أن أصفهم بـ”الليبرالويين” الذين يزعمون بأنهم ليبراليين فيما مواقفهم تؤكد عكس ذلك.
إن التحدي الرئيسي الذي يواجه العديد من الليبراليين في الكويت، بل وفي معظم الدول العربية والإسلامية، هو في مواجهة الواقع الاجتماعي والثقافي والديني الذي يتصادم مع العديد من المفاهيم الليبرالية الرئيسية، ومنها مفهوم الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. ومن ثَمّ أجد أن القيام بتحولات ليبرالية من خلال تغيير الواقع الاجتماعي الكويتي عن طريق التعايش المستند إلى حرية التعبير وحرية الكلمة والتسامح والانفتاح على قضايا حقوق الإنسان ومواجهة الفكر المناهض لذلك، هو تحد رئيسي للتيار الليبرالي، وبالتالي لابد من فضح من يقصّر في هذا الاتجاه أو من يجد بأن مصالحه تمنعه من الخوض في هذا المجال.
فـ”الليبرالويون” يتعمّدون عدم الاقتراب من الواقع الثقافي والاجتماعي في الكويت، ويؤثرون التركيز على العمل السياسي فقط، لأن ذلك يسمح لهم بالتحرك وسط هامش كبير من المناورة، إذ يساعدهم ذلك في إخفاء الكثير من رؤاهم غير الواضحة، وبالتالي يحافظون على رصيدهم الشعبي الاجتماعي مقابل عدم الإخلاص لليبرالية وعدم تبني مفاهيمها الرئيسية. فـ”الليبرالويون” انشغلوا، وبإفراط، في النشاط السياسي دون الثقافي والاجتماعي، وبالذات مع أطراف في السلطة، متأملين الحصول على مكاسب سياسية من خلاله، وهو باعتقادي انشغال مشروع، غير أن النتيجة جاءت على عكس التوقعات، وأثبتت أن أحد مفاصل التحرك السياسي هو الواقع الثقافي والاجتماعي.
إن النخب الثقافية الليبرالية، بوصفها معول بناء الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية الليبرالية بالمجتمع، تحمل على عاتقها مسؤولية إحداث تحولات ليبرالية في المجتمع الكويتي، ويأتي في إطار ذلك نقد مواقف هؤلاء “الليبرالويين”. كما أن على هذه النخب ألاّ تتجاهل عوامل مؤثرة في هذا الاتجاه، من ضمنها تلك المرتبطة بالدور الحكومي المناهض للفكر الليبرالي والمتصل بتنفيذ أجندة “المصالح”. وذلك لا يلغي مسؤولية النخب الليبرالية بضرورة استيعاب الواقع الاجتماعي والثقافي الكويتي، الأمر الذي أثر في ظهور شريحة “الليبرالويين” وفي تأخر عملية تبني المفاهيم الليبرالية.
فعلى النخب الليبرالية الكويتية ألا تنشغل بالتنظير للصراع السياسي أكثر من انشغالها بالتنظير للصراع الثقافي والاجتماعي. فمن الخطورة بمكان في إطار الدفاع عن الليبرالية تجاهل القضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة بالحريات العامة في المجتمع والتوجه فحسب صوب المكاسب السياسية. فقضايا حرية التعبير أو حقوق الإنسان لابد أن تعتبر همّاً رئيسيا لا همّا ثانويا، ولابد أن تأخذ حيزا رئيسيا في الطرح، لا أن تغلبها القضايا السياسية.
ومما هو معروف أن مفهوم الحرية وأهميته بالنسبة للإنسان يختلف بين الليبرالي وغير الليبرالي (الحكومي أو الديني)، فقد كان النداء عبر التاريخ خافتا ومختلفا مقارنة بالعصر الحديث الذي علا فيه صوت الحرية وأصبح من أهم المفاهيم الإنسانية منزلةً. فهو يمثّل أحد الحقوق الأساسية للإنسان الراهن. ونحن إذ نجهد للمطالبة بحقوقنا والدفاع عنها، كان لزاما علينا تركيز مطالبنا على الحرية، التي نعتقد بأنها تتوافق مع حقوقنا الفطرية، وأن نسعى إلى إثبات ضرورتها وأهميتها في الحياة.
ومع أن الحرية جزء لا يتجزأ من الإطار الذي تتشكل من خلاله العدالة، فإننا نعتقد بأنه لا يمكن للعدالة أن تتحقق إلا بوجود الحرية. فإذا كان تعريف العدالة بمعنى إحقاق حقوق الإنسان، فإن الحرية هي أحد الحقوق التي لا يمكن للعدالة أن تتحقق إلا بإحقاقها. وإذا ما ادّعت جهة ما، كالحكومة أو مدرسة أيديولوجية فكرية ما، من خلال نشاط أفرادها أو حزبها أو نظامها السياسي، بأن من أهدافها تحقيق العدالة لكنها تضيّق على الحريات في المجتمع، فإن مسعاها هذا سيكون ناقصا وبعيدا كل البعد عن الليبرالية الحقيقية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com