هذه السنة حلّت الدكرى الثانية والثلاثون لإندلاع الحرب الاهلية القديمة. وحشد لها «المجتمع المدني» اللبناني رفضاً لعودتها. والناس لبّت دعوة هذا «المجتمع»، واشتركت في فعالياته المختلفة، والتي توّجت بالتجمع في ميدان سباق الخيل؛ في المكان التأسيسي لتلك الحرب، وحول «البوسطة»، الرمز التأسيسي الآخر لها. «البوسطة»، او الحافلة، التي قتل فيها عدد من الابرياء، وكانت شرارة تلك الحرب المرذولة.
والمفاجأة… او عدم المفاجأة ربما، ان عدد هؤلاء الناس الذين لبّوا الدعوة كان هزيلا؛ اذا ما قورنَ بالحشود الغفيرة، الملبية لنداء التصارع الاهلي، والمتلقية لغته وشحنته وشعاراته تلقّي العطشان للماء.
ومن ثم فالحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها: ان الحشود التواقة الى السلم الآن في لبنان، أقل من تلك المنخرطة انخراطا شبه وجودي… في منطق الصراع الاهلي.
هذا بعض ما ينضح به الآن المشهد السياسي اللبناني… على السطح. تعمّق قليلا ولن تبارحك الحيرة: اللبنانيون انفسهم، هل يريدون او لا يريدون الحرب؟ واذا كانوا لا يريدون، فهل يستطيع شيء في الدنيا إرغامهم عليها؟ الاجابات احيانا تنحو منحى سفسطائياً. ومع ذلك تجمع كل لازماتها على رفض الحرب: «اللبنانيون لا! لا يريدون العودة الى الحرب، لا يريدون تجرّع مراراتها، لايريدون… ولكن»…
دائما هناك «لكن». ومنها تتفرع الاقوال، لتعود فتصب في مصبّ واحد: حرية القرار، لدى ابن الحشود كما لدى الزعماء. هل يملكون او لا يملكون قرارهم؟ والى اية درجة؟ هذا هو المجهول بعينه. ليس في الاجابة ما يشفي طلَبا على الفهم. فيبقى السؤال معلقاً: لماذا يحتشد اللبنانيون الآن للحرب اكثر مما يحتشدون للسلم؟ اين تقع بالضبط مسؤوليتهم الفردية؟ خاصة عند المشتغلين بالضمائر؟ هل يعود ذلك الى ان طبيعة التعبئة الصراعية غريزية، اي اقوى من كل التعبئات؟ وهل التعبئة من اجل السلام امامها باهتة عديمة الحوافز؟ أوَليس وراء التوق الى السلام غريزة ايضا؟ كما وراء الحرب؟ وهل هي الآن اضعف؟ أم ان الحشود المعبأة للحرب هي حشود تابعة لقيادات تعبئها، وبقرار ليس معروفاً إن كان قرارها؟ تابعة اقتصاديا وقيميا ودينيا… والاهم من كل ذلك تابعة عصبيا. وماذا تعني بالضبط التعبئة العصبية هذه؟ هل تستطيع ان تكون اطارا جامعا للحرب كما للسلم؟ بحسب التقلّبات «الاقليمية والدولية»؟
«المجتمع المدني» اللبناني، وهو الاقوى والاثرى من بين المجتمعات «المدنية» العربية الاخرى. هو الذي بادر الى فعاليات رفض العودة الى الحرب (جمعيات قديمة واخرى جديدة ولدت وسط مناخ احتمال العودة الى الحرب). لماذا بدا ضعيفاً؟ لِمَ كانت حشوده الهزيلة لا تلبّي صورته؟ هناك سوء تفاهم على الارجح. قد لا يكون هذا المجتمع بالقوة التي صٌوّر بها. وقد لا يكون «مجتمعا مدنيا» بالمعنى المتعارف عليه: مستقلا عن تكويناته الحاكمة اي الطوائف بحيث بدا ضئيلا امام محوريتها.
ثمة امر لافت آخر، قد يكون مرتبطا بما سبق. السخط واللعنات التي يصبّها غالبية اللبنانيين على سياسييهم وقادتهم وزعمائهم. كل فاتحة حديث سياسي لا بد ان تبدأ بلازمة السخط واللعنات هذه. مهما تناقض اصحابها في المواقف. تسمع اللازمة من احد المنضوين تحت جناح قوى 14 آذار، فتتوقع بسذاجة انه سوف ينقد زعماء 14 آذار. والعكس ايضا صحيح: تسمع من منضوٍ في قوى 8 آذار نفس اللازمة، فتقول….
ولكن لا شيء من ذلك. اللازمة مثل تلاوة تعويذة «ديموقراطية»، يقصد بها صاحبها ربما التبرّؤ مما هو اصلا فيه، أي الانحياز السياسي الغريزي الدقيق. ليس هذا انحيازا يكاد يقول، بل الموقف الذي لا بعده ولا قبله موقف. فيؤلّه ذاك السياسي ويؤبْلس ذاك في اواسط الحديث! مع انهم كلهم في بدايته كانوا اشراراً!
تماما كما في بقية الخطابات العربية: صاحب الصوت الواصل فيها الى أقاصي الجماهير، هو ذاك الذي يحقّر شأن «الزعامات» و»الحكومات» و»المنظومات الرسمية العربية». ثم بعد ذلك، تعالوا للتدقيق… فينتقل الصوت ببرهة خاطفة الى عالم آخر من الاقوال، بخور من الألسنة. وهذا عيب سياسي عربي بامتياز ايضا، لا يحيد عنه اللبنانيون بالرغم من سيادة الوقاحة والملاسَنة على تخاطبهم السياسي. هذا ما لا يخدم الدقة والوضوح.
وهذا ما ييسّر امر استخدام اصطلاحات ديموقراطية لخدمة صراع اهلي عنيف. اكبر انجاز لغوي حققه «حزب الله» وحلفاؤه في لبنان، انهم سمّوا انفسهم «معارضة». اطلقوا على خصومهم صفات «الموالاة» «واللاشرعية» و»اللادستورية» و»المستأثرة بالسلطة»… فاستقبلتهم الاجواء العربية بترحاب ديموقراطي بلغ اقصى فوائده لدى الاثنين، «الحزب» نفسه و»المعارضين» العرب، من اصحاب التوجهات الاسلامية واليسارية خصوصاً: المأخوذين بالتحليلات النضالية والنافخين بنار السخط العام. وبالنسة لهؤلاء، ليس هناك اجمل من «معارضة» عربية تستطيع زلْزلة أركان «حكومة لا دستورية… سلطة ظالمة… مستبدة مستأثرة بالقرار…»!
والامر لا يخلو من طرافة. معارضة مغلوبة تقود حرباً و»تنتصر» وتصر على الانتصار. معارضة تثمّر هذا «الانتصار»، لتشلّ بلداً بمؤسساته واقتصاده وعيشه… «معارضة» لا اساس بنيوي لها غير الطائفة. فملعم مدرسة ابتدائي مثل بارون يدخن السيجار، مثل بائعة ملابس جاهزة…. كلهم يمكن ان يكونوا مع «المعارضة» كما مع «الموالاة». انها المصطلحات الديموقراطية في خدمة الحصة الاكبر لكل طائفة، «نصيب» كل طائفة من تلك البقرة الحَلوب التي اسمها لبنان.
واذا اردت التأكّد اكثر فأكثر، فما عليك الا التمشّي في شوارع بيروت، والتوقّف قليلا امام الحواجز العسكرية التي تزنّر محيط منزل زعيم «معارض» وزعيم «موال» على حد سواء. مربعات امنية من غير تمييز. امتيازات اخرى من غير تمييز… بين زعيم «معارض» مع بلاطه، وزعيم «موالٍ» مع حاشيته.
طبائع سياسية غريبة. يسندها «التكيف اللبناني الفريد»، ويكفل استدامتها. فالتكيف كله هو تكيف مع فكرة الحرب. وانواع التكيف لا تقتصر على تدبير الاحوال مع تدني الموارد، أوعلى إبتكار تعبيرات جديدة للتعلق بالحياة والابتهاج بها… حتى وسط احتمالات الموت، او ربما بسببها.
بل التكيف ايضا مكابرة مؤداها ان الاحوال «عادية» وان الاخطار تتساوى. وهذه افدح التكيّفات. تلك التي تؤجل الغد الى بعده… ثم الى اجل غير مسمّى. لتستفيق على الضياع النهائي للوقت. لكن ايضا، بعد حين.
الحياة