تمهلت في الكتابة عن أحداث غزة المأساوية، حتى استطيع استعادة توازني أمام المجازر التي يرتكبها الجميع ضد الجميع. حقا ما يجري تجاوز الجنون… شعب في مراحل معقدة من النضال، ويحتاج الى الالتفاف وراء مطالبه الوطنية، ويعاني من حصار اسرائيلي، تمارس فيه اسرائيل وسائل منوعة من الاذلال والتجويع والتدمير والقتل، وحصار دولي خانق، فتحت فيه بعض الثغرات بعد اقامة حكومة الوحدة، وتوقعي أن يعود الآن أشد وأقوى… وحصار عربي يتميز بالعجز الشامل عن فتح ابواب الأمل،امام الشعب الفلسطيني..
كل هذه المعطيات تقود الى منطق بسيط، زيادة الالتفاف حول المطالب الوطنية ضمن استراتيجية سياسية واحدة، تضع في راس أولوياتها، تحقيق الهدف الأسمى للشعب الفلسطيني باقامة دولته المستقلة.
هذا جانب. الجانب الثاني لا يقل أهمية، وهو صيانة الشرعية الفلسطينية، باعتباره بؤبؤ العين. فقدان الشرعية يعني ببساطة فقدان الحق بوطن قومي. جرت أحاديث كثيرة عن فوضى السلاح، وعن “جيش” حماس وتسليحه.. ولكن الحقيقة ان حماس لم تستعمل سلاحها الا في مقاومة الاحتلال، حتى شمت رائحة السلطة. فتوهمت انه حان الوقت لانجاز مشروعها برمته.
لن يتمكن الشعب الفلسطيني من انجاز حلمه الوطني في ظل سيطرة فئوية مسلحة، لا تتردد في ارتكاب مذابح ضد الآخرين لفرض سيطرة تنظيم فئوي. حتى المعارض لأفكار حماس يواجه خطرا على حياته. ولا أستهجن أن تفرض حماس والمنظمات الأصولية التي تنبت مثل الفطاريش في غزة، قيودا مستوحاة من دولة الطاليبان. أمس هددت فئة اسلامية بأسم ” سيوف الحق الاسلامي في فلسطين ” مذيعات التلفزيون الفلسطيني بالذبح ( قطع الأعناق )اذا لم يلتزمن باللباس الاسلامي. حتى ابناء الشعب الفلسطيني سيرفضون دولة طالبان الفلسطينية، وطنا تقوده فوضى السلاح وتصفية الحسابات بالقتل والحرق والذبح والعقلية الطالبانية. هل ستحولون غزة الى افغانستان الطالبانية؟!
مثل هذه الدولة لا مكان لها في عالمنا ولن تقوم. الشعب الفلسطيني لا يريد مثل هذه الدولة أيضا… أو على الأقل لن يكون اجماع وطني حولها.
تستطيع حماس أن تنتصر نصرا الهيا على فتح وعلى قوى الأمن الفلسطينية. وتستطيع أن تعلن يوما تاريخيا للاحتفال باول انتصار فلسطيني عظيم في المائة سنة الأخيرة. انتصار مثل هذا سيكون بكاء للأجيال، بكاء لم يعرفه شعبنا حتى في نكبته. ما يجري الآن أفظع من النكبة بأبعاده ومخاطره. انه انتحار رسمي للحلم الفلسطيني. أو ذبح رسمي للمستقبل الفلسطيني برمته. انه اقرار بنهاية الحلم الوطني الفلسطيني، واستبداله بالحلم الطالباني – الحماسي. من ليس حماس يذبح. هذا تماما ما يجري في غزة. ربما صوت الرصاص الان أكثر ارتفاعا من بكاء الامهات وعويل الأطفال المرعوبين. ونشوة النصر الالهي تجعل الأصابع أكثر خفة بالقتل حسب الهوية أو الانتماء السياسي. الفظائع التي ترتكب في غزة ستبقى وصمة عار لا غفران لها ولا نسيان… ولكن ليس هذا هو المهم.. في السطر الأخير، الحلم الفلسطيني يقتل اليوم بأيدي فلسطينية، وبالبث المباشر.
الحصار الاسرائيلي والدولي والعربي،اذا تحقق النصر الحماسي في غزة سيكون قاتلا. احفظوا ما أقول، لن يتماثل احد في العالم مع نظام حماس في غزة. النموذج الذي تقدمه حماس في غزة لن يقبله حتى ابناء فلسطين. وقلوبنا ليس على حملة سلاح القتل، قلوبنا على أطفال وامهات الشعب الفلسطيني، قلوبنا مع أبناء شعبنا الذين تقتل حماس حلمهم بالخلاص والتحرر واطلاع فجر الدولة الفلسطينية. دولة حماس ليست حلمنا الوطني، ولن تكون!!
بعد انتصار حماس في الانتخابات الفلسطينية، رأيت بوضوح أن نصر حماس كارثة للشعب الفلسطيني، وسجلت ذلك في مقال أثار علي الكثير من النقد، وأعترف اني لم اتوقع أن تكون كارثة انتصار حماس بالحجم الذي وصلته اليوم، توقعت حصارا وتضييقا وتجويعا واذلالا وبطشا اسرائيليا دون تدخل دولي لوقفه، ولكن في اسوأ احلامي لم أتوقع ان انتصار حماس سيقود الى ارتكاب مذابح جماعية. الى تحول حماس من النضال ضد الاحتلال الى قتل ابناء الشعب الفلسطيني، بحجة عمالتهم لامريكا واسرائيل. تحولتم الى الخصم والحكم. تتهمون عشوائيا وتقتلون بلا ضمير. ربما تتهمون فتح وقوى الأمن الفلسطينية الشرعية بالعمالة للشياطين والجن أيضا؟!
لا ابرئ ساحة التنظيمات الأخرى وعلى رأسها تنظيم فتح وفروعة المسلحة المختلفة.. ولكن المستهجن أن القيادة السياسية لحماس منخرسة وعاجزة عن وقف التدمير الذاتي للشعب الفلسطيني.. أو انها في موقف العروس… الصمت علامة الرضا؟
الآن بات واضحا، ان أحداث غزة ستعطي التبرير الكامل للسياسات الاسرائيلية، وستعطي لأسرائيل الضوء الأخضر الدولي لتبطش بحماس وبالفلسطينيين، دون حساب. تصنيف حماس ضمن منظمات الارهاب بات الآن تصنيفا غير قابل للطعن. وبالضبط في هذه المرحلة الحرجة من المعاناة الدولية من الأرهاب. ان ما قامت به حماس هو ورطة لها أيضا، سيقود بالتأكيد الى فرض حصار غير مسبوق لتجفيف حماس، بشكل لم نعهده سابقا. ما يثير الألم بقلوبنا ليس مصير حماس والدائرين في فلكها، انما مصير ابناء الشعب الفلسطيني في هذه المأساة الجديدة التي تنزلها بهم انتصارات حماس!!
ما يؤلم أكثر أن هزيمة حماس أيضا تقتضي ضريبة دم رهيبة. فهل تنطق العروس قبل فوات الأوان؟!
nabiloudeh@gmail.com
*كاتب، ناقد واعلامي – الناصرة