ليس سهلا أن تستقل ّ مركبة الوجع، وتعبر بها ثلاثمائة وثلاث وثمانين صفحة، وأنتَ تُصرّ على عدم التَرجُّل منها، من جهة. ومن جهة أخرى أن تظل ممسكاً بدفّة جملتك العصبية لتجنّب ذاتك الدمار الذي ستخلّفه لك هذه الرحلة المُضنية، وأنت تخادعُ نفسكَ أجمل خداعٍ طفولي فتقول لها هذا عمل روائيّ أدبي، ومن حقّ الفنّ عليه أن يخترع الخيال ويزيد في الأحداث ما شاء. وبهذه الطريقة وحدها تتجنب على المدى الأقرب البكاء. وعلى المدى الأبعد ربما تنقذ نفسك من الكثير من الخراب والدمار اللذين ينتظرانك في أقرب محطةٍ للزمن.
“القوقعة” وإن تكن العمل الروائي الأول “المطبوع” لمصطفى خليفة، ولكنها عملٌ مُتقنٌ ورواية ناضجة بكل المعايير الفنية. وحتى يكون أي عملٍ فنيّ “ناضجا” لا بدّ له من شرطين رئيسين أولهما الموهبة، وثانيهما التقنيّة الفنيّة.
وقد اشتغل الراوي “خليفة” عليهما بأناةٍ وذكاءٍ حرفيٍّ، حتى لَيَجعلُ المتلقّي يقبل منه ولا أقول “يرضى منه” بهذا الطوفان من التّفصيلات التي يطغى عليها الوجع الحسّي والألم الصّارخ، رغم أن الراوي كان يُوجّهه بين الفينة والفينة نحو الذهن والتجريد، وإن كان بشكل ضنين. فالأحداث استغرقت معظم جسد الرواية، وكلُّها حشدٌ حسّي وقاسٍ، ونزوعٌ إلى الجانب التسجيليّ كهدف رئيس، وهذا ما تنبئنا به على الغلاف الخارجي تحت العنوان عبارة: “يوميات مُتلصّص”.
إن مقدرة الروائي على التحليل والغوص في النفس الإنسانية، وتصوير دواخلها وتساؤلاتها وتهيّؤاتها، قد خففت من ثقل الجانب التسجيلي، وأنقذت الرواية من الرتابة التي تولّد الملل، فظلّت محافظةً على خيط التشويق، لأن التحليلات وتصوير الدَّواخل وما يعتمل فيها من تساؤلات ظلّت تنفح القارئ بشيءٍ جديدٌ. وهذا الجديد ليس هائلاً ومدهشاً، أو خارقاً يضربُ في أعماقنا، ولكنه جديد أحسن الروائي توزيعه على جسد الرواية ليحافظ على صلته بالمتلقي في هذا المشوار الطويل المتعب و المُمِضّ.
يحسُّ المتلقي وهو يُبحرُ مع الرواية أن الزمن الروائي يتلبَّسُه.. زمن شائخٌ ساكنٌ يُظللّه كشجرة هدّلَ أغصانها قيظُ الاستواء، وقد يمرَّ النهار بكامله ولا يتحرّك فيها شيء، إلى أن تهبَّ نسمة خجولة فتُحرّكُ بعض وريقاتها، وكأنها بشارةُ حياة.
وعلى مدى اثنتي عشرة سنة، وثلاثمائة واثنين وسبعين صفحة من الرواية كانت النسمة الوحيدة هي تلاوة اسمه فخروجه من باب المهجع الذي أُغلق أمامه للأبد في ذلك السجن الصحراوي؛ ثمَّ ذلك بسرعة وزخم كأنها عملية بتر خاطفة، وفي هذا الحيّز الصغير جداً، بدا الزمن ولمرّةٍ واحدة سريعا ومستبداً لم يترك لبطل الرواية السجين، حتى لحظة واحدة للوداع.. وداع كائنات آدمية قبع بينها هذه السنين كلَّها.
ولحظة العبور من داخل إلى خارج السجن صورها الراوي تصويرا وصفيا من الخارج، لا أدري إن كان مقصودا منه، وكأنه عملية إعدام لأي بهجة أو أمل ممكن.. لكن المتلقي بالتأكيد كان ينتظر أن يصوِّر الراوي الدراما التي تحدث داخل نفس سجين، وهو يغادر هذا العالم الجحيميّ، ألم تحدثه نفسه بألوانٍ من الخوف والأمل لحظة خروجه ليلاً ؟ والتساؤلات القلقة الكثيرة؟!
كذلك عند وصوله العاصمة ص\277\، قبل الظهر وحتى منتصف الليل، تنتظر النفس أن يُستفاض في تصوير المشهد، وإحساس السجين بالمدى والمكان المفتوح وشروق الضوء واكتشاف الأفق، وما الأحاسيس والمشاعر التي انتابته وهو يرى المدينة والناس من خلال سيارة البوليس التي تقلّه، وما الذي تنازعه بعد هذا الغياب؟! أسئلة شتّى يواجه بها، عقلُ وشعورُ المتلقي، وإحساسُه الفني، الراوي الذي استغرق ما شاء تفاصيلَ السجن، بينما واجهه بهذه السرعة المشهديّة فيما بعد الخروج من السجن.
وإذا كانت رؤية أماكن الطفولة، بعد هذا الغياب المروّع والمضني، وإحساسه بقرب بيته جانب الفرع لم تحرك فيه شيئاً بسبب دماره النفسي ومواته الداخلي، فقد كنا نرغب بتسليط الضوء على هذا الموات ذرة ذرةً في هذا المشهد، لا أن نلحظه بشكل مقتضب وسريع، أو نستنتجه نحن.
الزمن في الرواية ترسم مسارَه الكليَّ حركتان. فبخروج البطل من قوقعة إلى قوقعة أكبر يتم تدوير الزمن بشكل ذكيّ و رائع. الحركة الأولى كان ينظر فيها من داخل قوقعة السجن إلى الخارج الذي هو معادل للفضاء والمدى والحريَّة. والحركة الثانية تبدأ عندما يصبح في هذا الخارج، فيستدير سهم النظر نحو الداخل، مديراً ظهره للخارج، ولكن هذا الداخل هو ذاته، الذي غدا سجنا آخر وقوقعة أخرى. بمعنى أنه عندما عبر ووصل إلى الخارج\الحرية. وجده\وجدها لا شي، لقد افتقد المحلوم المُتحقَّق وسلبه للأبد. لقد كان ما يحلم به و يتوهمه حريةً مسلوبةً في الحقيقة والواقع، إلّا في مخيِّلته..فتغدو لحظة الامتلاك هي الوعي المخيِّب والمرير بأن المُمتَلَك مسلوب.
وإذا كان في الوعي الإنسانيّ أن الثابت هو المكان، والمتحرّك هو الزمان، فإن سكونية الزمن في الرواية قد تماهت بسكونية المكان، فغدا المكان من منظار آخر أشبه بزمن يتحرك. وإن صورة السجن وهي بُعدٌ مكاني تطارد البطل وتلحقه\ص380\ وفي هذا التماهي بين الزمان والمكان نحن أمام شارتين أو أيقونتين:
الشارة الأولى : “زَمَكان السجن”
وهو زَمَكان معبأ ثقيل ومظلم، يحتبس بداخله الحياة، لكن هذه الحياة عمياء أيضاً ومحتقنة ولربما ذكرنا هذا بالكون في حالة البدء الأول الذي تضج في داخله الآلهة الصغيرة تنشدُ الخلّاص من الظلمة والسكونية، لكن في حالة الكون البَدءِ كانت معركة الحياة هي الرابحة، إذ شقَّ مِردَوخ الكون، وانبلج الضوء أو حدث الانفجار الكبير وتكونت المجرات والنجوم والأفلاك، وكانت الحياة والحرية اللتان نعرفهما، في حين زَمَكان السجن الحقيقي لا مِردوخ فيه ولا آلهة تملأ أمداء الخيال، بل مخلوقات بائسة من طين أسود كثيف وثقيل..وقُصارى ما أعطانا إياه هذا الزَمَكان الحقيقي للسجن هو أنه تثاءب عن أمل من نوع ما، كما عبَّر على لسان البطل: (( الأمل بشيءٍ أفضل كان موجوداً في القوقعة الأولى )) \ص380\
الشارة الثانية : “زَمَكان الحريَّة”
وهوَ زمَكَان واسع فسيح لكنه خاوٍ خاوٍ ..كأنما كل شيء فيه يتناهى ويتلاشى. والأمل الغامض في أعماق البطل، أو حلمه بالحريَّة وهو في السجن، تحوَّل في كيانه إلى شيء مُتَحجِّر، أو مُستحاثة ترك عليها الزمن آثار حياة ميتة منذ الغابر السحيق..
شارتان متقابلتان وملء فضائهما تنوح رياح رمادية، وكأنها ترنيمة العدم.
أما شخوص الرواية فقد بدت أشبه بكائنات لزجة في قاع الجحيم أو العالم السفلي، ما عدا قليل منها. ولعل أشد هذه الشخصيات رعباً وقرفاً وأمية هي شخصية (الوحش) وهو سجين من عنصر (البلديات) أي السجناء أصحاب الجرائم الشائنة مثل القتل والمخدّرات والاغتصاب وهم يكلَّفون داخل السجن بأعمال السخرة وما شابه. وهذا الرجل ذو تكوين بدني مخيف، ضخم رغم أنه لا يتجاوز المئة والستين سنتيمترا، وذو قوة بدنية هائلة على قدر أميّته ودونيّته، يساعد المعدمين شنقاً، خاصة الذين يأبون الموت سريعا فينفِّذ ذلك بطريقة أشد همجية ورعباً، وأبعد في اغتصاب إنسانية المحكوم بالإعدام. وقد أحسن الراوي سواء كانت هذه الشخصية هي شخصية حقيقية بكل أبعادها أم هي من عنديّاته الفنيّة، أحسن بجعلها من خارج صفِّ السلطة أو شرطة السجن، فهؤلاء كفَوا ووفَوا، لنصل بالفكرة، وبشكل حي ملموس لا بشكل تجريدي إلى أن الإنسان في النهاية هو الذي يقمع الحرية ويسلب الحياة من الإنسان الآخر وأن أعداء الحياة والحرية موجودون خارج السلطة..
إن شخصيات القمع متنوعة الطبائع والمنابت والمذاهب والمشارب، فمنها البسيط الذي ألجأته ضرورات وإكراهات الحياة إلى أن يكون في هذا الحيز وهذا الدور، فتدرّب عليه وأتقنه فوق ما يجب.. فمن كان يتقيأ لدى أول مشهد إعدام صار بعد فترة يتسلّى بجثث المشنوقين ومن يُفترض فيه أن يتحلى بالوعي والإنسانية العالية بحكم اختصاصه كطبيب كما في شخصية طبيب السجن أكثر عفونة ودونيّة من الجلّاد إذ يقوم بتصفية أربعة عشر طبيبا من رفاق دورته كانوا بين المساجين.
ونجد في هذه الشخوص أن الناظم الأهم لها جميعاً هو أُمية بناهم النفسيّة والوعي بقيمة الإنسان وبالتالي بقيمتهم هم، لاأمية القراءة والكتابة والتعليم أضف إلى هذه الأرض الخصبة فيهم شهوة السلطة والسيطرة التي هي معادل لشهوة الألوهة كما يقول أدونيس. ويكفي أن نتصور إنساناً مساعداً في الجيش شبه أميّ يرى إلى الجنرال وكأنه أسطورة، أو إلى إله ما خارق ربّما، فإذا به في وضعه كسجّان، قد صار الأقوى والمتحكِّم بهذا الجنرال، يستطيع إذلالَه، وحتى سلبه حياته.. قوة أميّة عاتية لا تفارقها الدونيّة أو الإحساس بها، تتحكّم بالأقوى والخارق فأي مصير بائس لهذا الإله المسكين الذي يقع بين يديها ؟!..
في مقابل هذه الشخصيات المسوخ المرعبة لا نعدم بعضَها المضيء كبعض الأطباء، نسيم وسمير وغسّان وغيرهم وكذلك زاهي والشيخ محمود ورئيسا المهجع…
وقد أضاء بين هذه الشخصيات وتوّهج بقوة ثلاثٌ منها:
شخصية (نسيم) الطبيب والفنان الإنسان، وشخصيّة الخيار الأخضر، وشخصيّة الكلام الذي ولدت لدى البطل بعد عشر سنوات من الصمت في الصفحة\217\
نعم..الكلام والخيار لعبا دورين كشخصين مهمين من شخوص الرواية..فالخيار الأخضر ورؤيته بعد هذه السنين الطويلة من الانقطاع عن التواصل مع كل أشكال الحياة يمثل أحد شخوص الرواية الذي لمع سريعاً وولّى تاركاً أثره عالقاً في نفس المتلقّي إلى ما بعد انتهاء الرواية :
(ما أسكرني كان الخيار، الخيار بلونه الأخضر، انسابت روائحه وعطوره إلى أنفي ودون أن أفكّر أو أعي بما أقوم به مشيت وجلست إلى جانب تلّ الخيار الأخضر أنها رائحة الطبيعة، إنها رائحة الحياة…أمسكت واحدة وأدنيتها من أنفي وتنشّقتها بعمق أغمضت عينيّ وأعتقد أنّ ملامحي كلّها كانت تتبسّم. ) \ص187\
أما “نسيم” ولنلاحظ إيحائية الاسم، فقد كان زلزالاً آخر رجّ كيانَه، وقلقل وجوده وتفكيره، وبعد الخروج من السجن يصوّر لنا الراوي مشهد لقائه به مع الدكتور هشام في بلدته الساحلية.. (جلسنا نسترق النظر إلى بعضنا…مضى أكثر من نصف ساعة على لقائنا ولم تلتقي نظراتي بنظرات نسيم…نسيم لم يبتسم أبدا، زائغ النظرات لا يتكلّم.) \ص369 -370\
واللافت أن هذا المشهد بخل عليه الراوي بالتفصيل والتحليل والأناة التي كان يتحلّى بها أثناء وصف مشاهد التعذيب في السجن، فبعد أن يصف اللقاء بشكل مقتضب، يعود ليقول، وكأنه يعوّض عمّا فاته القول والوصف:
(عندما التقينا حضننا بعضنا بعنف، نحن الثلاثة حضننا بعضنا وبدأنا نبكي) \ص370\
وقد يكون الفقر الذي اعتلى هذا المشهد معادلا رمزيّاً لفقر الروح لدى البطل الذي ظل معه ولم يفارقه حتى بعد خروجه من السجن..لكنّ هديّة نسيم الموجعة كانت حبّاً غامضاً منحه إياه عندما نادى باسمه وألقى بنفسه من فوق البناية ذات الطوابق الست.
وأمّا شخصيّة الكلام فهي الوحيدة التي ولدت واستمرت وانتصرت على العدم، بل وتلاقحت وولدت..نعم ولدت..يوميّات متلصص اسمها القوقعة وولّدت ما يُكتب عنها كهذه الصفحات التي نَخُطُّها، وما سيكتب عنها أيضا..فبعد عشر سنوات من إجبار البطل على الصمت حتى خُيّل إليه أن الكلام مات وفي الصفحة\217\ عبّرنا عن عودة الكلام بالولادة، لأنه كان ولادة جديدة له بحق، واجه فيه الموت بشخصيّة أبي القعقاع وتحدّاه ، وانتصر انتصاراً حاسماً لا هزيمة بعدَه والانتصار الثاني الذي انتصره الكلام هو انتصار للراوي على رمز الموت والقهر مُمَثّلاً بالسجن والسجّانين والسلطة، بواسطة روايته ( يوميّات..)..
أبو القعقاع أُعدم ومات والسجن تحرر منه البطل وولّى، والسلطة رفعت عن عينيه بعد ثلاثة عشر عاما عصابة الظلمة، ولثام الخرس الإجباري، وها هو كلام الرّاوي يصبح أعلى من هؤلاء جميعا ويصل إلى كلّ إنسان..
أخيراً..ما دامت الرواية يوميات، ولها بعدٌ تأريخي حقيقي، فإن هناك جانباً يُسجَّل عليها.. فنحن لم نشهد فيها إلا معاناة السجناء وهم من الإخوان المسلمين فتجعلك تشعر بتعاطف جمّ معهم. ولكن الواعين بالبعد التأريخيّ للرواية وأعمال “الإخوان” ما لم يكن من أنصارهم، يتعاطف معهم كبشر يعانون، لا “كإخوان”، وهذا حق. فالمجرم في النهاية إنسان، وله حقوقه كآدمي، حتى وإن كان حكمه الإعدام، فما بالك بمتّهمين راحوا ضحيّةً لبطش السلطة الأعمى، وهم ليسوا بإخوان ولا مسيسين حتى؟! والراوي إنسانٌ واعٍ بالأحداث التاريخية المصاحبة لكل ذلك، فكنّا نتمنّى لو صوَّر لنا الوجه الآخر للإخوان عندما كانوا يمارسون الدور الذي لا يقل شناعة، إن لم يَفُق دور جلّاديهم في السجن، والأعمال الإجرامية من تفجيرات وقتل أعمى، وإيقاظ أحطّ ما في النفوس من نعرات طائفية، وبثٍّ لفكرٍ ظلاميٍّ متوحّش يعود بالمجتمع إلى أحلك عهود البشريّة وأكثرها رعباً وتمزّقاً وبدائيّةً..
وفي النهاية، وبعد هذه الرحلة من الوجع الكاسح كالداء أو الوباء نقول:
إذا ما اعتبرنا أن أروع رمز للحياة هو الماء، فإن هذا البطل البائس والضحيّة العائد إلى الحياة، قد حاول أن يقبض على هذه الحياة المسلوبة والهاربة منه على مدى اثنتي عشر عاماً، وثلاثمائة وثلاث وثمانين صفحة..نجده يقبض حقاً على الماء فيروغ من بين أصابعه، وينسلُّ من ناظره بتراخٍ وكسلٍ واستهتار…
والذرّاتُ الحيّة في جوهر الحياة تتلاشى وتتهادى إلى العدم، ومن شجرة الحياة فيه ينسلُّ النُّسغ الحيّ، فتتهدّل وتذوي أوراق شجرته..ومع عربة الزمن الغبراء المتهادية بضعفٍ وخوَر تغيب شيئاً فشيئاً أطياف الألوان والنَّضرة إلى غيبوبة الكون .. ويبقى جذعُ الشجرة المتصلّب الخالي إلّا من قساوة وجهامة الموت..شاهداً على أن الحياة مرّت يوماً من هنا.
“القوقعة”، رواية، مصطفى خليفة
منشورات دار الآداب – بيروت لبنان – طبعة أولى \2008