مثلما لم يوجد في العام 1969 من يستوعب النتائج المترتّبة عن توقيع اتفاق اتفاق القاهرة، باستثناء العميد ريمون ادّه، لا يوجد في السنة 2019، التي تشرف على نهايتها، سوى قليلين يدركون المعنى العميق لانهيار القطاع المصرفي اللبناني. ما نشهده حاليا في “عهد حزب الله”، الذي زاد عمره على ثلاث سنوات، هو انهيار آخر لجزء من لبنان… او لما بقي من لبنان.
كان القطاع المصرفي بنظامه الحر، الذي احتاج بناؤه سنوات طويلة، خطّا أساسيا في الدفاع عن لبنان. هناك من يعتبر انّه بقي خط الدفاع الاوّل عنه في ضوء تشابك المصالح بين كلّ فئات المجتمع من اجل المحافظة على مصارف بيروت كجاذبة للاموال والاستثمارات العربية وغير العربية واموال اللبنانيين العاملين في الخارج ولعب دور الملجأ الآمن لها. لذلك، كان ذلك التنوّع في تركيبة كلّ مصرف من المصارف، وهو تنوّع ساهم فيه العرب الاغنياء الذين وجدوا موقعا قويّا لهم في غير مصرف لبناني. لذلك أيضا كانت هناك دائما مصارف اجنبية تعمل انطلاقا من لبنان وبيروت بالذات. بقي معظم هذه المصارف يعمل في احلك الظروف…
يقيت المصارف تدافع عن لبنان وساعدت في صموده بعد توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي لم يكن سوى كارثة. من يدافع حاليا عن المصارف التي يوجد من يريد تحميلها أعباء ما حل ببلد لم يعد فيه صاحب الوديعة قادرا على التصرّف بها كما يشاء؟
من يهاجم المصارف ويدعو الى استعادة أموال منها، يعتدي على كلّ القيم التي قام عليها لبنان. يحدث ذلك في وقت لا يوجد من يريد مواجهة الحقيقة ويفضّل الهرب منها عن طريق رفع الشعارات الطنانة التي لا فائدة تذكر منها. هل صدفة ان يلتقي عند مهاجمة المصارف بقايا حزب شيوعي اكل الدهر عليه وشرب وأحزاب طائفية ومذهبية تمتلك ميليشيات مسلّحة لا ولاء لها للبنان… باعتراف قادتها؟
ينسى رافعو هذه الشعارات الطنانة، من الذين ينتمون الى ميليشيات مذهبية لا تدرك ان ليس لدى ايران ما تصدره الى خارج حدودها غير الغرائز المذهبية، ان لبنان كان حالا فريدة في المنطقة بسبب نظامه الليبيرالي من جهة ومصارفه من جهة أخرى. هذا ما مكن لبنان من الاستفادة الى ابعد حدود من كلّ الاحداث التي مرّ فيها الشرق الاوسط بعد 1948 حين اُعلن قيام دولة إسرائيل على ارض فلسطين مع كل ما لحق بظلم بالشعب الفلسطيني… وبعد سلسلة الانقلابات العسكرية في مصر وسوريا والعراق التي رافقتها تأميمات. كان هذه التأميمات تجفيفا للغنى الحقيقي داخل مجتمعات عربية كانت مصر تمثل طليعتها.
كان اكثر ما افاد لبنان في تلك المرحلة، مرحلة خمسينات القرن الماضي وستيناته، هروب كبار رجال المصارف الفلسطينيين والسوريين اليه، إضافة الى عدد كبير من رجال الاعمال. كذلك هربت كفاءات مصرية ثمّ عراقية مع رساميل كبيرة في وقت كانت بيروت تمثل المكان الذي يأتي اليه اغنياء الخليج كما يرسلون اليه ابناءهم للتعلّم في جامعاته، في مقدّمها الجامعة الاميركية. ينسى كثيرون ان الجامعة الاميركية تأسست في 1866، أي قبل ما يزيد على قرن ونصف قرن!
ظلّ النظام التعليمي في كلّ وقت مصدر غنى للبنان. ما ينطبق على النظام التعليمي ينطبق على النظام المصرفي الذي تحوّل في مرحلة ما بعد بداية الاضطرابات الداخلية الى حصن منيع حال دون سقوط لبنان حتّى عندما انهار سعر صرف الليرة اللبنانية في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس امين الجميل وتلك التي تلتها في العام 1988.
لم يعد هناك حاليا ما يدافع به لبنان عن نفسه. في حال استمرّ الوضع على ما هو عليه، ستكون هناك مجاعة في لبنان. هناك نحو 23 الف موظف يعملون في المصارف اللبنانية. وهناك 120 الف موظف يعملون في مؤسسات خاصة صغيرة وكبيرة. هؤلاء مهددون بالصرف في حال استمرّ الوضع الاقتصادي في التدهور. معظم هؤلاء لديهم قروض عليهم تسديدها للمصارف. كيف سيسددون هذه القروض التي لها علاقة بالسكن او شراء سيارة، فضلا عن أمور أخرى في حال توقف النشاط التجاري في البلد؟
يبقى سؤال. هل وضع لبنان ميؤوس منه؟ الجواب اقرب الى نعم من ايّ شيء آخر. لا تزال هناك فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خصوصا بالنسبة الى القطاع المصرفي الذي ستحتاج إعادة الثقة به وبلبنان عشرات السنوات في اقلّ تقدير. اين الفرصة؟ الفرصة في تشكيل حكومة اختصاصيين على وجه السرعة. وحدها حكومة من هذا النوع التي يستطيع رئيسها التحدث الى الاميركيين والعرب والأوروبيين من اجل إيجاد آلية تخرج لبنان من الدائرة المغلقة التي يدور فيها وهي دائرة لن تأخذه سوى الى الدمار.
هناك عهد اسمه “عهد حزب الله” شارف على نهايته. تكمن خطورة هذا العهد في انّه أزال خطا، ربّما كان وهميا، رسمه المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة، والعرب القادرون ماليا. كان هذا الخط يفصل، ولو نظريا، بين الحكومة اللبنانية من جهة و”حزب الله” الذي يتحكّم بمفاصل الدولة اللبنانية وسياستها الخارجية من جهة أخرى. ما ساهم في إزالة الخط أيضا تدخل الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني في سوريا والعراق واليمن…
لم يعد هذا الخط الوهمي موجودا، اقلّه من وجهة نظر واشنطن والعرب القادرين على مساعدة لبنان. فوق ذلك كلّه، اكتشف الاميركيون والاوروبيون والعرب ان لبنان لا يريد ان يساعد نفسه، لا عن طريق تشكيل حكومة “محترمة” ولا عن طريق اختيار شخصية ما زالت قادرة على مدّ الجسور مع الخارج. على العكس من ذلك، هناك من يريد تصفية حساباته مع سعد الحريري في هذه الظروف بالذات. كان يمكن لمثل هذا التوجّه ان يكون منطقيا لو امكن إيجاد شخص على رأس الحكومة يكون قادرا على فتح قنوات اتصال ذات جدوى مع واشنطن والعواصم الاوروبية والعربية. لماذا لا يكون بحث عن مثل هذا الشخص في حال كان مطلوبا منع عودة سعد الحريري الى موقع رئيس مجلس الوزراء؟
دافع النظام المصرفي، مع عدم تجاهل حصول تجاوزات كثيرة في أحيان كثيرة، عن لبنان المتنوّع والمزدهر الذي عرفناه والذي كاد ان يذهب ضحية توقيع اتفاق القاهرة قبل نصف قرن.
من يدافع حاليا عن النظام المصرفي الذي فيه ودائع لكل اللبنانيين من كل الطبقات والمذاهب والطوائف والذي يختزل في الوقت ذاته جزءا من ثقافة الحياة والحيوية اللبنانية والمبادرة الفردية التي تميّز بها اهل البلد؟…