سألتْ المذيعة مراسل قناتها في بلد عربي، كان عرْضة لعمليات «القاعدة» الارهابية، عن ردّة فعل غالبية مواطني ذاك البلد على مقتل زعيمها، بن لادن. لم يكن المراسل مرتاحاً، ربما لأنه كان يتوقع من مواطنيه فرحة أو ارتياحاً أكبر، لعلّهم يستجيبون لـ»سياسة» القناة، أو لما ينتظره هو… ولكنه، أي المراسل، أبدى قدراً من النزاهة، فوصف ما عاينه بأم عينيه. قال، بعد تنحْنح، ان المشاعر موزّعة في بلاده، بين أناس «مرتاحين» وآخرين «غير مرتاحين». ماذا عن الفئة الأخيرة؟ عادت المذيعة فسألت، ما الذي أشعرهم بعدم الارتياح؟ وكانت إجابة المراسل، شبه المنتظرة، قال: «صحيح ان هذه الفئة ترى في بن لادن قاتلا، نال من أرواح مسلمين بقدر ما نال من غيرها؛ ولكن، نهايته على يد الاميركيين تحديداً هي التي أثارت غيظ هذه الفئة واستنكارها، ودفعتها لإعتبار بن لادن شهيداً«.
نحن، المشاهدين، لم نعرف نسبة الناس الذين رأوا الرأى الثاني هذا، ولكن نرجّح من سألهم المراسل عن رأيهم ذهبوا أبعد مما أعلن في توصيفهم لهوية قتلة بن لادن رعايةً، ربما، لتوجهات القناة. لا نحتاج الى حدْسنا للتخمين بأن هذه الصفة الإضافية، بعد الجنسية الأميركية، تتعلق بديانة صاحب القرار في اغتيال بن لادن.
في نفس الوقت تقريبا، كانت شاشة أخرى تحاور فنانا حول الاحداث الدامية التي تشهدها بلاده؛ فقال، من ضمن ما قال، ان جيش بلاده الذي يطلق النار على مواطنيه لا يفعل غير إعادتهم الى صوابهم، وبأن قتلهم ليس من باب القتل، بل للتأديب… وكاد يقول ان «قتل الحبيب زبيب». بمعنى آخر: لا محسابة لمن يقتل المواطنين. مواطنون يقتلون مواطنين، لأنهم الأعلم بمصلحتهم، قريبة أو بعيدة المدى. ما المشكلة؟
هذا التفريق بين الذي يُقتل على يد اناس لا يحملون هويتنا القومية او الدينية، والذي نسمّيه «شهيداً»، مهما كان عدد الارواح التي أزهقها في مساره القائم على القتل، ومن بينها أرواح مواطنين من هاتين القومية والدين… لا شيء غير القتل؛ وبين الذي يُقتل على يد أبناء جلدته، والذي يسمّى «قتيلا»، تبلغ درجة الاستهانة به الى حدّ منع دفنه، ومهما كان مسالماً ومقصده شريفاً، لكي لا نقول عظيماً… هذا التفريق هو من صميم تقاليدنا العاطفية-الفكرية. والنتيجة الطبيعية له: ان الذين يرفعون شعار، أوهدف، مقاتلة الاشرار من غير ابناء الهوية ذاتها، يستطيعون قتل ما يحلو لهم من مواطنين ابناء جلدتهم من دون حساب. ضحايا «القاعدة» يرفعون زعيمها الى مرتبة الشهداء العظام المأسوف على رحيلهم. والفنان يعطي شهادة براءة ذمة لنظامه من تهمة القتل المنظّم والمتعمد لمواطنيه، لا لسبب غير السبب المتعلق بهوية القتلة و»مشروعهم السياسي«.
وهذا يفسر أمرا غريباً: الأنظمة العربية كلها تشرع في قتل مواطنيها المحتجين؛ ولكن اذا اعتدنا التصنيف القديم لهذه الأنظمة بين «معتدل» و»ممانع»، فان حصة الأخير، «الممانع» من القتل «المريح» هي اكثر من مضاعفة اذا ما قورنت بحصة «المعتدل». والامر الأكثر غرابة: قرأتُ مؤخرا دراسة (عميد حسن حساني)، مقارنة ايضا، بين عدد شهداء المجازر التي ارتكبتها اسرائيل منذ العام 1947 في بلدة الشيخ الفلسطينية وصولا الى مجزرة قرية قانا الثانية عام 2006، وبين عدد ضحايا نظام استبدادي بوليسي معاد لأميركا واسرائيل، من العام 1980 وحتى الآن، فكانت النتيجة ضآلة عدد الضحايا اسرائيل أمام عدد ضحايا النظام المعني. هل نحتاج الى مقارنة اخرى؟ حصار غزة والقاء القنابل على أهلها لمدة شهر، كم من التظاهرات والاعتصامات والنداءات، الموجّهة والمنظّمة… من أجل إدانة اسرائيل؟ وكم من التظاهرات والاعتصامات، في هذه الأيام… من اجل إدانة انظمة تقتل شعوبها؟
الآن: هل يمكننا تخيّل نهاية بن لادن قبل اندلاع الثورات العربية؟ هل كان يجرؤ الاميركيون على رميه في البحر آنئذ؟ هل كانت قدرتهم هي نفسها على استيعاب غضب متعملق، يحسب له الف حساب؟ اي بمعنى آخر: هل الثورات العربية كانت كالاسفنجة التي امتصّت غضبا لا يُطاق، ويزيد من كراهية الاميركيين؟ المحللون الغربيون مجمعون على انتهاء مرحلة بن لادن مع بدء اندلاع الثورات العربية…
ولكن: في مصر، ثاني بلاد الثورة ، تظاهر السلفيون غداة مقتل بن لادن مستنكرين وغاضبين ضد اميركا… وبعد ذلك بيومين، أولئك السلفيون انفسهم كانوا يهاجمون الاقباط ويحرقون كنائسهم ويتسبّبون بمقتل (لا «إستشهاد») 12 مواطنا، وبجرحون اكثر من مئتين، إثر اختراعهم لقصة جديدة عن مسيحية أسلمت… عما يفيد هذا الايقاع؟ عن التلازم الحميم بين الاستبداد والثورة المضادة من جهة، وبين المقْبلين على القتل على الهوية الدينية او القومية، من جهة أخرى، ومن دون أي حساب، سواء كان هؤلاء المقبلون، قادة أنظمة أو زعماء مجموعات منظّمة. هذه قاعدة من قواعد الاستبداد، عربياً كان ام اعجمياً: ان تجيز قتل ابن الهوية نفسها، من دون حساب، من دون مبرر شرعي، ان تكون غالبا في حالة «مقاومة» أو «ممانعة»، ما يسمح لك بالمزيد. ان لا تجيز قتل المجرمين من بينك الا على يدك، واذا حصل على يد «عدوك»، تعتبر هذا المقتول «شهيدا»… تحزن على رحيله!
من أين أتتْ هذه الصيغة الفاصلة بين «شهيد» ومجرّد «قتيل»؟ تلك القاعدة الذهبية للاستبداد التي تقول بعدم حرمة قتل ذوي القربى؟ كما لو كنا أمام جريمة الشرف المعهودة، التي تعطي للأب أو الاخ أو الابن «أسبابا تخفيفية» إن لو قتل ابنته أو زوجته أو أمه «لأنه شكّك بسلوكها الاخلاقي». كأن القانون يريد القول: لا عقوبة على الجرائم العائلية: الجرائم ضمن العائلة الواحدة… القاعدة العائلية للاستبداد السياسي.
مرة اخرى: من أين أتت هذه الصيغة؟ ربما من العقلية القبلية «أنا وأخي وإبن عمي…»، التي يعلمها جميعنا. من الأسر «الهوياتي» للإنتماء ربما، أيضاً، الذي يحوّل الدين أو القومية الى سجن مغلق تُستباح في داخله الأرواح على يد مالك ادوات القتل، نظاما سياسيا كان أو مجموعة.
سؤال آخر، صعب أيضاً: هل هذه الصيغة هي المسؤولة عن استدامة الاستبداد؟ أم الاستبداد هو الذي اخترعها؟ كواحدة من حجج القتل؟ القتل الذي لا ينتظر مرتكبه عقابا… بل يستهجن أصلا ممن يطالب بمعاقبته؟ قد لا نجد جواباً على هذه المعضلة، وقد تكون محاولة الاجابة عليها مجرّد تمرين عقلي، لا ضرر منه، ولكن لا نفع ايضا.
المهم ان تكون روحية الثورات العربية قد تعلمت هذا الدرس: اذا كانت مصرّة على تحقيق أهدافها الديموقراطية، وإن على المدى البعيد، أو المتوسط، فعليها ان تبني ركنا فلسفيا، قاعدة فلسفية، تمنح كل الحيوات البشرية أهمية من الدرجة نفسها، مهما كان لون صاحب هذه الحياة، أو دينه أو جنسيته أو اثنيته؛ ومهما كان لون قاتله، او دينه او جنسيته… ان ترفع قيمة الحياة البشرية، الفردية منها والجماعية، الى مصاف القداسة.
ثمة من سوف يعترض ويخوّن، وأيضا يكفّر: «يعني ذلك انك تؤيدين اسرائيل…؟ أو أميركا…؟»الخ. والجواب ان الثورات العربية، بعفوية عظيمة وعجيبة، رفعت سلميتها في وجه قتلتها «المحليين»، ووضعتهم في مرتبة العداوة رقم واحد. انها لغة جديدة، منطق جديد يتجاوز التكفير والتخوين ويحرر من تسلّط «ذوي القربى» ومن وطأة حقهم الأبدي بالقتل. بهما تستمر جذوة الثورة عبر الزمن، سواء انتصرت أو تعثرت أو بعُدت أو تعقّدت… أو حتى فشلت.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل