نشرت جريدة “لوموند” الفرنسية التحقيق التالي حول القاعدة العسكرية الفرنسية الجديدة في أبو ظبي، التي ستمثّل وجوداً عسكرياً و”واجهة تكتولوجية” فرنسية في منطقة الخليج والمحيط الهندي. أرقام الدبابات والمقاتلات التي اشترتها، وسوف تشتريها، دولة الإمارات توحي بأن هذا الحشد العسكري هو من نوع “المعدات سابقة التمركز” التي كان الحديث عنها قد تكاثر في التسعينات. فمن الصعب أن تستوعب دولة صغيرة مثل دولة الإمارات 350 دبابة “لوكلير” أو 63 مقاتلة “رافال” تُعتَبَر بين الأحدث في العالم.
“الشفاف”
*
سيدشّن نيقولا ساركوزي قاعدة عسكرية فرنسية في أبو ظبي في يوم 27 أيار/مايو المقبل. وتفضّل السلطات الفرنسية التكتّم على هذا التاريخ مع أنه معروف للجميع! كما تفضّل السلطات الفرنسية عدم التطرّق كثيراً إلى الندوة الدولية حول الأمن والأمن البحري التي ستنعقد في عاصمة دولة الإمارات في يومي 25 و26 مايو، والتي يأمل قصر الإليزيه في أن يدعو للمشاركة بها عدد من حكام دول الخليج. أما سبب هذا التكتّم الفرنسي، فهو المفاوضات الديبلوماسية والتجارية الحساسة جداً الجارية حالياً.
في هذا الإطار، يتزايد الوجود العسكري الفرنسي، الذي سيضم وحدات من أسلحة البحر والجو والبر، ولكن وسط التكتّم. ولا يخفي العسكريون الفرنسيون رضاهم عن هذا التطوّر، خصوصاً في فترة تقشّف في الميزانيات. وحسب أحد الجنرالات الفرنسيين: “هذه ثورة صغيرة بالنسبة للجيش الفرنسي. لم نؤسس قاعدة جديدة في الخارج منذ سنوات طويلة”.
إن قرار إنشاء قاعدة عسكرية ثالثة في المحيط الهندي- إلى جانب قاعدتي “ريونيون” و”جيبوتي”- يجسّد تطوّر الأولويات الإستراتيجية لفرنسا. وكان “الكتاب الأبيض حول الدفاع والأمن الدولي” قد ركّز على هذه الألولويات الإستراتيجية حينما تطرّق إلى “قوس الأزمات الجديد الذي يمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي”. وسيتمركز في القاعدة 450 جندياً من مختلف الأسلحة (علاوة على العسكريين الذين سيقيمون فيها بصورة مؤقتة)، بينهم 30 بالمئة سيكونون فيها مع عائلاتهم. وتمثّل القاعدة إمتداداً لاتفاقية الدفاع والشراكة الإستراتيجية المعقودة بين فرنسا ودولة الإمارات في العام 1995. وكانت دولة الإمارات هي التي بادرت للمطالبة بإقامة القاعدة العسكرية منذ عدة سنوات، ولكن السياسة الخارجية لجاك شيراك كانت أكثر تركيزاً على بلدان إفريقيا الناطقة بالفرنسية منها على دول منطقة الخليج. بالمقابل، أعطى ساركوزي موافقته على إنشاء القاعدة الجديدة فور وصوله إلى قصر الإليزيه.
تلحّ فرنسا ودولة الإمارات على أن هذا المرفق العسكري “ليس موجّهاً ضد أحد”، ولكن هذا التعبير يؤكّد ضمناً أن الخطر الذي يمثّله تطوّر القدرات العسكرية الإيرانية هو في صُلب إهتمامات البلدين. إن “الخطر الإيراني” يثير القلق في دول الخليج خصوصاً أن الجمهورية الإٍسلامية هدّدت مراراً بإغلاق مضيق هرمز إذا ما تعرّضت منشآتها النووية لأي هجوم عسكري.
ويقول أحد الديبلوماسيين أن “هنالك مصالح كبرى في هذه المنطقة، وقد أصبحت منطقة الخليج لاعباً في العولمة. وتشعر دولة الإمارات منذ مدة طويلة بالحاجة إلى التميّز عن جيرانها، وكذلك بالحاجة إلى عدم الإعتماد على الولايات المتحدة وحدها”. وتضيف مصادر في هيئة الأركان الفرنسية أن “أبو ظبي ترغب في مشاركة فرنسا في تعزيز إستقرار المنطقة”. ومن جهتها، تحرص فرنسا على صيانة أمن الطرق البحرية لإمدادات الطاقة التي تمرّ عبر المحيط الهندي. وكذلك في الإبقاء على العلاقات الإستراتيجية والتجارية المثمرة التي تربطها بأبو ظبي.
إن باريس تملك أسباباً عدة لمراعاة دولة الإمارات، التي تمثّل أول زبون لصادرات الأسلحة الفرنسية. فقد سبق لأبو ظبي أن اشترت 388 دبابة “لوكلير”. وأنشأ متحف “اللوفر”، وجامعة “السوربون”، (كذلك متحف “غوغنهايم” النيويوركي) فروعاً في أبو ظبي، وتأمل فرنسا أن تكون المفاوضات الجارية حالياً لبيع مفاعلين نوويين من نوع EPR (كونسورتيوم أريفا- سويز- توتال) قد أحرزت تقدمّاً كبيراً قبل زيارة ساركوزي للإمارات في نهاية شهر مايو.
إن القاعدة العسكرية الفرنسية في أبو ظبي هي، رسمياً، “قاعدة مساندة”، وستكون تحت قيادة “الأدميرال قائد القوات الفرنسية في المحيط الهندي”، ولكنها يمكن أن تتحوّل سريعاً إلى قاعدة عملياتية. ومنذ أكتوبر 2008، تتمركز في قاعدة “الظفرة” الإماراتية 3 مقاتلات “ميراج 2000″ تابعة لـ”مركز الحرب الجوية” (Air Warfare Center)، وهو عبارة عن مركز تدريب يضمّ مقاتلات فرنسية وأميركية وبريطانية.
إن هذه القوة الجوية الفرنسية في أبو ظبي يمكن أن تصبح أكبر، حتى لو تسبّب ذلك بتقليص القوة الجوية الفرنسية الموجودة في “جيبوتي” (10 مقاتلات “ميراج”). من جهة أخرى، يمكن لقاعدة “الظفرة” أن تستضيف طائرتي تموين بالوقود “كي سي- 135” تتمركزان حالياً في قاعدة “ماناس” بقيرغيزستان، التي قرّرت حكومة “بيشكيك” أن تضع حدّاً للوجود الأجنبي فيها.
وسيتوقّف على حصيلة المفاوضات الجارية حالياً مع أبو ظبي بخصوص بيعها 63 مقاتلة “رافال” قرار إستبدال مقاتلات “ميراج” الحالية بمقاتلات “رافال”. ويبدو أن المفاوضات بين البلدين باتت متقدمة، ولكن بشرط: أن تشتري فرنسا 60 مقاتلة “ميراج 2000” التي يملكها سلاح الجو الإماراتي حاليا.
علاوة على التجهيزات الجوية، ستضم قاعدة “أبو ظبي” منشآت مرفأية الهدف منها هو استقبال وإعادة تموين السفن الحربية الفرنسية العاملة في المحيط الهندي. ولن يكون هذا المرفق البحري الوحيد الذي ستستفيد منه فرنسا في دولة الإمارات: ففي إمارة “الفجيرة”، ستستخدم فرنسا مرفأ صغيراً لغواصاتها الهجومية النووية (SNA). وتمثّل “الفجيرة” موقعاً إستراتيجياً فريداً من نوعه: فهذا المرفأ الذي يقع إلى الشرق من مضيق هرمز يطلّ على خليج عُمان مما يعني أنه لن يتأثر في حال إقدام إيران على إغلاق مضيق هرمز.
من جهة أخرى، سيتمثّل حضور الجيش الفرنسي في “أبو ظبي” في مركز تدريب على القتال في بيئة صحراوية وفي المدن، يمكن لاحقاً أن يتطوّر إلى مدرسة حربية لدول المنطقة.
علاوة على هذه العناصر العسكرية للقاعدة الفرنسية في “أبو ظبي”، فإن القاعدة ستكون “واجهة تكنولوجية” للصناعات الدفاعية الفرنسية. فعدا مقاتلة “رافال”، من المقرّر أن تضمّ القاعدة أحدث ما يمتلكه سلاح البرّ الفرنسي من معدات.
وهذا ما قد يفتح شهية دولة الإمارات، التي عُرِفَ عنها توقها إلى الحصول على التكنولوجيات الجديدة، وخصوصاً في ميدان الدفاع. إن قاعدة نيقولا ساركوزي العسكرية ستكون تجسيداً لإمكانية تزاوج المصالح الإستراتيجية والتجارية بكل انسجام.
لوران زكّيني- “لوموند”
الأصل بالفرنسية: