من العسير على أي كاتب أن يلم إلماما تاما بفكر وإنتاج الفيلسوف والمفكر البريطاني الكبير برتراند رسل. فقد عاش الرجل قرنا كاملا في فترة حاسمة من فترات التاريخ الإنساني، فبين ميلاده في الثامن عشر من آيار1872م ووفاته في الثاني من شباط 1970م، ثمانية وتسعون عاما من العمل الجاد المتواصل، أبدع خلالها ما يزيد عن مئة كتاب، إلى جانب مئات المقالات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والدين والأخلاق والجنس.
لقد هالني إنتاجه الغزير، وإطلاعه الواسع ، وأنا شخصيا لازلت أتمتع بقراءة كتبه حتى اليوم. انه سليل أسرة رسل الشهيرة التي أنجبت قادة سياسيين شغلوا أرفع المناصب السياسية في الدولة البريطانية. فقد كان جده جون رسل رئيسا للوزراء على مذهب الأحرار. وكان أبوه مفكرا حرا. وأثناء إقامتي في لندن أتيحت لي فرصة اكتشاف برتراند رسل مجددا من خلال سيرته الذاتية، وهو يذكرني بكتاب “الاعترافات” للفيلسوف جان جاك روسو وفي سبيل الحق أو “قصة حياتي” لداعية اللاعنف غاندي. ويوجز رسل حياته وفلسفته وما عاش من أجله في مقدمة كتابه هذا قائلا:
«لقد تحكمت في حياتي انفعالات ثلاثة، بسيطة بيد أنها متناهية القوة: الحنين للحب، والبحث عن المعرفة، والإشفاق الشديد على الذين يقاسون ويتعذبون. ولقد تقاذفتني هذه الانفعالات، كالرياح العاتية في طريق غير مستقيم فوق بحر عميق من العذاب، يصل إلى حافة اليأس ذاتها.
“تلمست الحب، أولا، لأنه يجلب النشوة، وهي نشوة وصلت من العمق حدا كان يمكن أن أضحي بما بقى من الحياة من أجل بضع ساعات من هذه السعادة. ثم تلمسته، ثانيا، لأنه يخفف الوحدة، هذه الوحدة الرهيبة التي يشرف فيها الوعي الراجف على حافة عالم يدلف إلى هوة باردة سحيقة لا يسبر لها لها غور ولا حياة فيها.ثم تلمسته، أخيرا، في الرؤية التي تتمثل للشعراء والقديسين حينما ينظرون بعين الخيال إلى الفردوس وذلك عن طريق الحب الذي يربط بين قلبين ربطا كاملا فيستشعران تجاوب العشاق الإلهيين. هذا ما سعيت إليه، وبالرغم من انه يبدو أفضل مما تمنحه حياة الإنسان، فقد كان في النهاية هو ما وجدته.
“وبنفس الدافع سعيت إلى المعرفة. كنت أرغب في فهم قلوب الناس، ومعرفة السبب الذي يجعل النجوم تضيء. كما حاولت أن أتبين القوة التي قال بها فيثاغور والتي بمقتضاها يسيطر بها العدد على فيض الكائنات. ولقد حققت شيئا من ذلك، ولكني لم أصل إلى الكثير. وقد أدى ذلك الحب وتلك المعرفة، بقد ما توفر لي منهما، إلى التسامي الذي بلغ بي عنان السماء. ولكن عاطفة الإشفاق كانت تعيدني ثانية إلى الأرض. .إن صرخات الألم تتردد أصداؤها في قلبي. إن وجود أطفال يتضورون جوعا وضحايا يتعذبون على أيدي الطغاة، وشيوخ عاجزين قد أصبحوا عبئا مقيتا على أبنائهم . إن وجود عالم من الوحدة والبؤس والألم لما يحيل الحياة الإنسانية كما يجب أن تكون إلى سخرية للساخرين.
“إني أتوق إلى تخفيف وطأة الشر، ولكني لا أستطيع، فإنني أعاني منه أنا الآخر.
“تلك كانت حياتي. لقد وجدت فيها ما أستحق أن أعيش من أجله، ولو منحت الفرصة لأسعدني أن أعيشها مرة أخرى.»
كان رسل محبا للسلام، ورقيق الشعور، وناشطا سياسيا بارزا، وإنساني التوجه. فكل فكر لا معنى له إن لم يكن في خدمة الإنسان والمجتمع وفي سبيل سعادتهما في آن معا.
اتجه رسل في الفترة الأولى من حياته إلى المنطق والرياضيات وفلسفة العلم، وكان قد تلقى في طفولته تعليما خاصا وراقيا وأتقن الفرنسية والألمانية في صغره. ثم التحق بكلية ترينيتي في جامعة كمبردج واطلع مبكرا على أعمال العالم الايطالي بينو والعالم الألماني فريجة وأصدر في تلك الفترة بالاشتراك مع الفرد نورث وايتهيد كتابه القيم “مبادئ الرياضيات”. وبفضل هذا الكتاب أصبح رسل من كبار فلاسفة القرن العشرين.
وبعد أن عمل فترة في السلك الدبلوماسي في ألمانيا، كتب كتابا بعنوان “الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا” ثم أصدر كتابا آخر عن الفيلسوف الألماني ليبنتز. ومن مؤلفاته في تلك المرحلة كتابه “التصوف والمنطق”. وفي وقت مبكر نمت صداقة قوية بينه وبين الفيلسوف النمساوي لود فيج فتجنشتين. وقد كان هذا الفيلسوف في البداية تلميذا لبرتراند رسل ثم أصبح صديقا له. ويذكر رسل في المقدمة التي كتبها لكتاب فتجنشتين دراسة منطقية فلسفية أن فتجنشتين قد أفاده وأثر في تفكيره.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى تألم رسل أشد الألم وجن جنونه، وانفجر واضطرم كاللهب المشتعل ثم اتجه بقوة إلى التفكير في مشكلات الإنسان الاجتماعية والسياسية بعد أن كان غارقا في المنطق والرياضيات وقال آنذاك جملته الشهيرة لقد تخليت عن فيثاغور. وهكذا راح يتدخل في السياسة ويثير سيلا من النقاش والتعليق مع كبار رجال السياسة في بلده ويمارس الصحافة ويلقي المحاضرات العامة في كل مكان لإنارة الوعي والرأي العام ويصدر أربعة كتب على التوالي: الحرب سليلة الخوف، ومبادئ إعادة البناء الاجتماعي، ثم سياسة الوفاق، والعدالة في زمن الحرب.
ثار رسل على المذابح والحروب ودافع بقوة عن السلام في وقت كانت بريطانيا متورطة في تلك الحرب، وهكذا حوكم رسل على ميوله السلمية ونشره مقالا يدعو إلى السلام في جريدة، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر عام 1918م. وقد كتب كتابه القيم “مقدمة إلى الفلسفة الرياضية” في السجن عام1919م، ثم اصدر كتابه “تحليل العقل” في عام1921م .
تنوعت اهتمامات رسل بعد الحرب العالمية الأولى فكتب في المشاكل الفلسفية العامة مثل مشكلة المعرفة وفي القضايا الاجتماعية والأخلاقية والتربوية.
وحسب المؤرخ ويل ديورانت، كان الفيلسوف رسل مسرفا في التفاؤل، ويصب في فلسفته الاجتماعية تصوفا وغموضا وعاطفة ولا يطبق على نظرياته الاقتصادية والسياسية نفس التدقيق وإمعان النظر في الفروض ونفس الشك في البديهيات التي جعلته يرضى عن الرياضيات والمنطق. وساقه حبه للكمال أكثر من الحياة إلى صور رائعة فاخرة تصلح لان تكون قصائد شعرية للتخفيف من أعباء العالم أكثر من كونها محاولات عملية للاقتراب من مشاكل الحياة. من الممتع أن تفكر في مجتمع يحترم فيه الناس الفن أكثر من الثروة ولكن الفن ليس إلا زهرة تنمو وتترعرع في تربة الثروة والمال. والتجربة الشخصية لرسل نفسه هي أقوى ناقد له. عندما زار روسيا هاله ما رأى وصعق وخيب أمله وزعزع إيمانه وتحطم وثنه الشيوعي. واثر هذه الزيارة التي قام بها لروسيا والتي قابل فيها لينين وتروتسكي وغوركي، اصدر عام 1920م كتابه “الممارسة والنظرية البلشفية” أعلن فيه عداءه للبلشفية. وكتب بعد ذلك كتابا آخر بعنوان”لماذا لست شيوعيا؟”.
قام بعد زيارته لروسيا بزيارة إلى الصين لإلقاء محاضرات في الفلسفة في جامعة بكين وبقى هناك عاما يحاضر فيها. وانفسحت أمام رسل آفاق واسعة ومناظر جديدة في البحر الصيني الزاخر بالناس. وأدرك أن أوربا أسطورة كاذبة أمام الصين كما يلمس القارئ في قوله:« لقد أدركت انه ليس للجنس الأبيض تلك الأهمية التي كنت أعتقد، فلو أبادت أوربا وأمريكا نفسها في الحرب فان هذا لا يعني فناء الجنس البشري أو انتهاء المدنية إذ سيبقى بعد ذلك عدد كبير من الصينيين. والصين أعظم أمة رأيتها إطلاقا من عدة وجوه. فهي ليست أعظمها من الوجهة العددية والثقافية فحسب، بل يبدو لي أنها أعظمها من الوجهة العقلية. لا أعرف مدنية أخرى ما للصين من سعة العقل والواقعية والرغبة في مواجهة الحقائق كما هي، دون محاولة تشويهها في قالب معين».
إن فلسفة برتراند رسل تغيرت وتبدلت بسبب تنقله وأسفاره ورحلاته الكثيرة من بلد لآخر، ولكن مع تقدم السن أنضجه الزمن وعلمته الحياة وأصبح أكثر حكمة واعتدالا وإدراكا لصعوبة الإصلاح الاجتماعي.
بعد عودته من الصين، بدأ يعيش من الكتابة في الصحف وإلقاء المحاضرات وتأليف الكتب. فقد أصدر كتبا لعامة الناس من مثل “ألف باء الذرات” و”ألف باء النسبية” و”حول التربية”. ثم اصدر لاحقا “مبادئ الرياضيات”، و”تحليل المادة”، و”موجز الفلسفة”، و:التصوف والمادة” و”الزواج والأخلاق”، و”العلم والدين”.
وفضلا عن هذه الكتب التي ورد ذكرها آنفا، فان مؤلفات رسل تضم هذه الكتب القيمة: تاريخ الفلسفة الغربية، والمعرفة البشرية مجالها وحدودها،والعدالة زمن الحرب،والعلم والدين، وغزو السعادة، ودروب إلى الحرية، والقوة: تحليل اجتماعي، وفلسفة لاينبتز، وتحليل العقل،والتصوف والمنطق، والفكر الحر والدعارة الرسمية، ولماذا لست مسيحيا؟، ومعرفتنا بالعالم الخارجي، والاستشراف العلمي، واحتمالات الحضارة الصناعية، والتعليم والنظام الاجتماعي، ومبادئ إعادة البناء الاجتماعي، ومقالات شكوكية، وإطراء الكسل، والبلشفيك والغرب، وقضية الصين….الخ الخ.
ترجمت بعض كتب برتراند رسل إلى العربية. اذكر منها تاريخ الفلسفة،وحكمة الغرب. وقد ترجم هذا الكتاب الأخير الدكتور فؤاد زكريا ويتألف من جزئين: الجزء الأول عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي منذ بداياتها الأولى في العصر اليوناني حتى النصف الثاني من القرن العشرين، وحاول فيه إلقاء نظرة شاملة على الفلسفة الغربية منذ طاليس حتى فتجنشتين والجزء الثاني عرض فيه أهم ملامح الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وسيرة برتدراند راسل الذاتية، ومبادئ الرياضيات، والفلسفة وقضايا الحياة وغيرها.
عاش رسل بعد عام 1944م في انكلترا بصفة مستمرة وأصبح معروفا في بريطانيا بفضل برامجه الإذاعية التي تضمنت السلسلة الأولى من محاضرات ريت، السلطة والفرد، وفاز بوسام الاستحقاق البريطاني عام1949م.وفي عام1953م ظهرت له مجموعة قصص تحت عنوان الشيطان في الضواحي.
كان برتراند سل ارستقراطيا ومحافظا في نشأته ولكنه تزوج أربع مرات وصدم الناس بآرائه في الحب والزواج وأصبح نجما لامعا في سماء الفلسفة الانكليزية ثم انخرط في قضايا عصره وعمل الكثير من أجل الناس واشتهر بمواقفه الداعية للسلام ومناهضة الحروب ونزع السلاح النووي ومساندة قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية وشارك مع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في إقامة محكمة للضمير العالمي من أجل محاكمة مجرمي الحروب في العالم. وهكذا فرض هذا الفيلسوف الكبير نفسه على ثقافة عصره وحصل على جائزة نوبل للآداب عام1950م.
وهكذا انخرط رسل في قضايا سياسية كثيرة خلال عشرين عاما وخاصة في قضية نزع السلاح النووي وحرب فيتنام، ووجه بقوة انتقادات شديدة ضد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل وفاته في عام 1970م اصدر الفيلسوف برتراند رسل سيرته الذاتية في ثلاثة مجلدات وهي جديرة بالاقتناء والاطلاع عليها. فقد اثبت رسل من خلال هذا الكتاب بأنه أحد كبار فلاسفة القرن العشرين ومن أكثرهم توهجا ووعيا وحكمة.
soubhidarwish@gmail.com
كاتب سوري ـ باريس
الفيلسوف البريطاني برتراند رسل
اريد موضوع جيد عن العالم البريطاني