فصل من كتاب “هرطقات 2”
*
يتفق خصوم العلمانية في الساحة الثقافية العربية المعاصرة، سواء أكانوا من دعاة الحداثة أم من دعاة القدامة، على اعتبارها نموذجاً لإشكالية مستوردة. فالعلمانية في رأيهم رأت النور في الغرب، وتحديداً الغرب المسيحي. وما رأته إلا لتقدم جواباً عن إشكال هو من إفراز الغرب المسيحي حصراً: الصراع اللاهوتي والسياسي، الذي أخذ شكل حرب متوالية الحلقات دامت ثلاثين عاماً، بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية البروتستانتية. وعن طريق الترجمة والمحاكاة الرثة، الموسومة بـ”التفرنج” كما يقولون، جرى ازدراع تلك الإشكالية الغربية في جسم الثقافة العربية الحديثة بدون أن تكون بها إليها حاجة حقيقية، وبدون أن تلبي طلباً فعلياً –أو متوهَّما أنه كذلك- إلا للجماعة الأقلوية التي تطوعت لاستيرادها: نصارى الشرق.
هكذا كان برهان غليون في كتابه المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات قد سبق له –ولنعترف له بهذه الأسبقية- أن قال إن العلمانية “إشكالية مصطنعة ومنقولة عن الغرب”. ومن بعده أعلن محمد عابد الجابري بدوره أن العلمانية هي نموذج لإشكالية عادمة اللزوم ومستغنى عن خدماتها لأن العلمانية تعني “فصل الكنيسة عن الدولة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصله عن الدولة”. ولئن يكن كل من برهان غليون والجابري قد ربطا استيراد إشكالية العلمانية بحاجة الأقلية المسيحية إلى إعادة ترتيب علاقاتها بالغالبية المسلمة، فإن داعياً ثالثاً من دعاة الحداثة المفترضين قد ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير باتهامه مستوردي هذه الإشكالية العلمانية، أي نصارى الشرق، بالعمالة الحضارية للغرب قائلاً بالحرف الواحد “قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل ويعقوب صروف وفرح انطون ونقولا حداد وسلامة موسى وولي الدين يكن ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين عن الدولة. والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، لا ينتسبون إلى الإسلام ديناً ولا حضارة”.
هذا عن دعاة الحداثة المفترضين. أما دعاة القدامة- وهم غير مفترضين على الإطلاق في زمن الردة هذا- فإنهم ينطقون بلا تمايز بلسان واحد يجد نموذجه في الشاهد التالي: “ليس غريباً أن يكون أول من دعا إلى العلمانية بشعارها الصريح أو تحت أسماء أخرى كالقومية والوطنية هم نصارى الشرق، فإن الحياة المطمئنة التي كفلها لهم المجتمع الإسلامي –بل المحاباة الزائدة في الكثير من الأحيان- لم تكن لتطفئ نار الحقد المتأججة في صدورهم. ولئن كانوا يدركون أن هيمنة الشريعة الإسلامية هي العائق الأكبر لشفاء غيظهم ونفث أحقادهم، فقد استماتوا في سبيل إنهاء هذه الهيمنة وإحلال الأنظمة اللادينية محلها… لكي تقضي على الإسلام”.
بديهي أننا لا نماري في أن العلمانية في وجه من وجوهها –في وجه من وجوهها فقط وليس على الإطلاق في كل وجوهها- يمكن أن تمثل مطلباً للأقليات بقدر ما يمكن أن تقدم لها ضمانة للمساواة التامة أمام القانون. ولكن ما نماري فيه بالمقابل هو أن تكون الأقليات المعنية في الدائرة العربية الإسلامية هي الأقليات المسيحية حصراً. ذلك أن العلمانية فلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد. والحال أن التعددية في الدائرة العربية الإسلامية ليست محض تعددية دينية أو إثنية، بل هي أيضاً تعددية طائفية. فالإسلام العربي، بواقعه الديموغرافي الحالي، يتألف من غالبية سنية بكل تأكيد، ولكن أيضاً من أقليات شيعية ونصيرية وزيدية وإسماعيلية ودرزية وإباضية. ومن منظور هذه التعددية الطائفية الإسلامية، فإن قضية العلمانية في العالم العربي ليست فقط قضية مسيحية-إسلامية، كما يطيب لخصوم العلمانية تصويرها، بل هي أيضاً، وربما أساساً، قضية إسلامية-إسلامية. ولعلنا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن تركيز خصوم العلمانية على البعد الأقلوي المسيحي لإشكالية العلمانية في العالم العربي إنما يخفي، مثله مثل كل منطوق به، مسكوتاً عنه هو أعظم خطورة وفداحة بعد، ونعني به بعدها الطائفي الإسلامي. وقد كان لا بد من انتظار كارثة الاحتلال الأمريكي للعراق حتى ينفجر ذلك المسكوت عنه بكل القوة التي لا مناص من أن ينفجر بها المكبوت الذي طال كبته. ومع ذلك فإن آلية الدفاع الساذجة، المتمثلة بتعليق أمراض الذات على مشجب الغير، سارعت إلى الاشتغال هنا أيضاً لكي تعزو انفجار “الفتنة” الطائفية في عراق اليوم إلى التدخل الأمريكي. ونحن لا نماري في دور هذا التدخل. ولكننا نحدّه فقط بكشف الغطاء عن مرجل المكبوت الذي لا نتردد في القول –وكما سنثبت حالاً- بأنه لا يفتأ يغلي منذ أكثر من ألف سنة. وباستعارة لغة المتكلمين الأشاعرة فلنقل إن التدخل الأمريكي لم يفعل أكثر من أن يقدم المناسبة لانفجار الحرب الطائفية، ولكنه لم يكن هو عاملها على صعيد السببية. فعلى هذا الصعيد لا بد أن نعود إلى التاريخ، وهو تاريخ مديد لا يقاس بعشرات السنوات كما في مثال الحرب الكاثوليكية-البروتستانتية التي تمخضت عن تكريس العلمانية في الغرب كآلية قانونية لتسوية العلاقات بين الطوائف، بل يقاس بمئات السنين من صراع سني-شيعي بقي إلى اليوم متجذراً في مستنقع الطائفية القروسطية بحكم غياب وتغييب المخرج العلماني.
ولأن هذا التجذر في تاريخ الذات هو ما تغيِّبه نظرية العامل الأجنبي -وهنا الاحتلال الأمريكي- فإن هذه الورقة لن تفعل شيئاً آخر سوى استحضار ذلك التاريخ المغيَّب.
الطائفية كثابت دائم في التاريخ الإسلامي
معلوم أن الانشطار السني-الشيعي بدأ سياسياً خالصاً، ولكن بالغ العنف، مع حرب الخلافة التي تتالت فصولها في وقعتين رئيسيتين دارتا في عام ستة وثلاثين للهجرة بين علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول وختنه، من جهة أولى، وبين عائشة بنت أبي بكر، زوجة الرسول، ومعاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية. وفي هاتين الوقعتين، الجمل وصفين، خلَّف الاقتتال عشرة آلاف قتيل في أولاهما، وسبعين ألف قتيل في ثانيتهما. وبصرف النظر عما قد يكون في هذه الأرقام من مبالغة، فإن مثل هذا العدد الهائل من القتلى –بمن فيهم المئات من صحابة الرسول- كان لا بد أن يخلف أحقاداً وضغائنَ مؤرثة، ولاسيما في مجتمع ذي بنية قبلية ترفع الثأر إلى مرتبة القانون. وقد أعقبت هاتين الوقعتين، بعد خمس وعشرين سنة، مجزرة أقل حجماً بكثير، ولكن ذات بعد مأساوي أكبر بكثير أيضاً، تمثلت في وقعة كربلاء التي تمخضت في عام واحد وستين للهجرة عن مقتل الحسين، حفيد الرسول، واثنين وسبعين من أهل بيته وأصحابه. وقد قُتل مع الحسين اثنان من أولاده، وخمسة من إخوته، وثلاثة من أولاد أخيه الحسن، وستة من أولاد عمه عقيل، وكذلك أخوه من الرضاعة. وقد احتزت رؤوس القتلى الثلاثة والسبعين جميعاً، وحملت إلى يزيد بن معاوية في دمشق بعد أن طيف بها في الكوفة. وعدا بشاعة المقتلة بحد ذاتها، فقد أخذت مأساة كربلاء بعداً تأسيسياً لما لن يتردد بعض الدارسين في تسميته بـ”الديانة” الشيعية بالنظر إلى ما تولد عنها من شعور بالذنب وحاجة إلى التكفير لدى أهل الكوفة –وذريتهم من بعدهم- ممن كانوا دعوا الحسين إلى الخروج بهم ثم خذلوه. وقد تضافرت هذه العقدة التأثمية- التي لا تقوم للديانة التوحيدية بدونها قائمة كما لاحظ فرويد في دراسته عن موسى والتوحيد- مع الحقد المكظوم الذي استثارته سياسة لعن علي بن أبي طالب على منابر المساجد طيلة ألف شهر من الحكم الأموي لتحدث في الإسلام انشقاقاً داخلياً أكثر استعصاء على التسوية والالتئام من ذاك الذي عرفته المسيحية الغربية مع الانشقاق اللوثري الذي قادها إلى حرب الثلاثين عاماً الضروس وكان مدخلها في الوقت نفسه إلى الحداثة من خلال الإصلاح البروتستانتي ثم الإصلاح الكاثوليكي المضاد.
والواقع أن تفعيل عقدة الشعور بالذنب تلك هو الذي لعب الدور الأكبر في استبطان الانشقاق الشيعي وتحويل نصابه من التسييس إلى التديين. فطيلة العهد الأموي والشق الأول من العهد العباسي اقتصرت الشيعة على التعبير عن نفسها من خلال حركات الخروج المتتالية التي قادها الطالبيون بشتى منازعهم والتي قمعت الواحدة تلو الأخرى بقسوة كربلائية. كما أن الانتفاضات الطالبية التي قُيِّض لبعضها النجاح المؤقت لجأت هي الأخرى إلى ممارسة عنف انتقامي لا يقل بشاعة.
وقد تميز العهد العباسي الأول بتهدئة نسبية للصراع تمثلت بوجه خاص في الموادعة التي تمت بين المأمون والإمام الثامن علي الرضا، إذ زوَّجه بنته وكتب له بولاية العهد. بيد أن الصراع السياسي عاد يتأجج في ظل خلافة المتوكل الذي “أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها… وأمر بهدم قبر الحسين ومنع الناس من زيارته، فخُرِّب وبقي صحراء”.
وقد أعقبت الانقلاب المتوكلي هدنة قصيرة تمثلت في الأشهر الستة التي دامتها خلافة ابنه المنتصر بالله، الذي كان على حد توصيف السيوطي “قليل الظلم، محسناً إلى العلويين، وصولاً لهم، أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، وردّ على آل الحسين فدك”. ولكن اضطهاد الشيعة أخذ من بعده طابعاً منتظماً تمثل في اعتقال الإمامين العاشر والحادي عشر، علي الهادي النقي وحسن الزكي العسكري، وتصفيتهما في معتقلهما بالسم على ما تفيد المصادر الشيعية على الأقل. وهذا القمع المتواصل هو عملياً ما اضطر الشيعة إلى “تغييب” الإمام الثاني عشر محمد الهادي حتى لا تطوله يد التصفية الجسدية. وبانقطاع سلسلة الإمامة على هذا النحو صارت الشيعة تُعرف باسم الاثني عشرية.
ولئن يكن خلفاء بني العباس، من المتوكل فصاعداً، قد اعتمدوا في صراعهم مع الطالبيين عنصراً إثنياً محدداً، هم الأتراك، فإن اقتحام عنصر إثني جديد لمسرح بغداد السياسي –هم الديلم- أحدث انقلاباً حقيقياً في موازين القوى. ففي المنافسة مع الأتراك الذين كانوا ذوي توجه سني كان لا بد للديلم أن يظهروا ميلاً عكسياً إلى التشيع. وعلى هذا النحو، ومنذ أن دخل أحمد بن بويه الديلمي بغداد سنة 334هـ، بدأت ترى النور تلك الظاهرة التي عمَّدها مؤرخو الحوليات الإسلامية باسم الفتنة، أي ظاهرة الاقتتال وحرب الأحياء ما بين السنة والشيعة: ولا سيما بين حي الكرخ الشيعي وباب البصرة السني. وطبقاً لابن الأثير فإن أول “فتنة عظيمة” وقعت في بغداد بين السنة والشيعة كانت في عام 349، وقد “تعطلت الجمعة لاتصال الفتنة بين الجانبين سوى مسجد براثا، فإن الجمعة تمت فيه”. وفي عام 351 “كتب عامة الشيعة ببغداد، بأمر معز الدولة، على المساجد ما هذه صورته: “لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكاً، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده، ومن نفى أبا ذر، ومن أخرج العباس من الشورى”. فأما الخليفة فكان محكوماً عليه لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك”.
وفي عام 352 دشن معز الدولة طقس عاشوراء الذي ستكون له أبعاد تأسيسية –بالمعنى الذي تحدث عنه فرويد في موسى والتوحيد، ومن قبل في الطوطم والحرام- في التحويل النهائي للانشقاق السياسي الشيعي إلى انشقاق ديني. فـ”في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن يَدُرْنَ في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنيين قدرة على المنع لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم”.
ولكن ابن كثير، مصنِّف البداية والنهاية، هو من يلح على النظامية التي تلبسها هذا الطقس الذي بات يُحيا سنوياً، ودوماً في العاشر من محرم، أي اليوم الذي قتل فيه الحسين. هكذا نراه في البداية والنهاية يفتتح حوادث كل سنة تالية بالقول:
2303 “وفي عاشر المحرم منها (سنة 353) عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية، فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالاً شديداً، وانتهبت الأموال” (ج11، ص 253).
2304 “وفي عاشر المحرم منها (سنة 354) عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وغلقت الأسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين… ثم تسلط أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم، مسجد براثا الذي هو عش الروافض، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة” (ج11، ص 254).
2305 “وفي عاشر المحرم منها (سنة 355) عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم في بغداد” (ج 11، ص260).
2306 “وفي عاشر المحرم منها (سنة 359) عملت الروافض بدعتهم الشنعاء، فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن” (ج11، ص 267).
2307 “فيها (سنة 363) في عاشوراء عُملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة… وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملاً وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيارون في البلد فساداً، ونهبت الأموال” (ج11، ص 275).
بديهي أن ابن كثير ما كان له، من موقعه الراسخ في السلفية السنية، أن يفهم “عزاء الحسين” إلا على أنه “بدعة شنعاء” بدون أن يدرك بعده كطقس تأسيسي لا يمثل تحدياً “استعراضياً” لأهل السنة بقدر ما يعبر عن حاجة ذاتية لدى أهل الشيعة لاستبطان جريمة قتل الابن والتكفير عنها. وهذه الحاجة الذاتية إلى التفريج عن عقدة الشعور بالذنب هي التي لا تفتأ تُفعَّل دورياً في طقس عاشوراء من خلال ظاهرة “اللّطميات” وما يصاحبها من أدبيات بكائية متجددة باستمرار. وأيا ما يكن من أمر، وطبقاً لتلك القاعدة الذهبية التي سنّها ماركس حينما قال إن التاريخ لا يكرر نفسه عندما يكررها إلا ليحوّل المأساة إلى ملهاة، فإن أهل السنة لم يتأخروا عن محاكاة أهل الشيعة في “بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء”. ففي سنة 389 كما يفيدنا ابن الأثير في الكامل بادر أهل “باب البصرة –وهم سُنَّة- فعملوا في ثاني عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء”. وفي البداية والنهاية يقول ابن كثير بمزيد من التفصيل : “لما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يظهرون فيه الحزن على الحسين، قابلتهم طائفة أخرى من جهة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتماً كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما تزور قبر الحسين. وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها” (ج11، ص326).
والواقع أنه ابتداء من منتصف القرن الرابع وحتى منتصف القرن السابع –زمن سقوط بغداد في أيدي التتار- دارت بين سنتها وشيعتها لا “حرب ثلاثين عاما” كما في مثال المسيحية الكاثوليكية-البروتستانتية، بل حرب ثلاثمئة سنة. ومع أننا قد نجازف بالإطالة فلنورد على سبيل التمثيل لا الحصر بعض وقائع هذه الحرب التي تحتل مكاناً مركزياً في حوليات ابن الأثير:
2305 “في هذه السنة (361) وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبية الزائدة، وتحزب الناس، وظهر العيارون، فنهبت الأموال وقتل الرجال وأحرقت الدور. وفي جملة ما احترق محلة الكرخ، وكانت معدن التجار والشيعة”.
2306 “في هذه السنة (362) في شهر رمضان قتل رجل من صاحب المعونة في الكرخ، فبعث أبو الفضل الشيرازي -وكان أقامه مقام الوزير- في طرح النار في النحاسين إلى السماكين، فاحترقت أموال عظيمة، وجماعة من الرجال والنساء والصبيان في الدور والحمامات، فأُحصي ما احترق فكان سبعة عشر ألف وثلاثمائة دكان وعشرين داراً، ودخل في الجملة ثلاث وثلاثون مسجداً”.
2307 “في هذه السنة (363) ثارت العامة من أهل السنة بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأحرقت الكرخ حريقاً ثانياً”.
2308 “في هذه السنة (380) ثار العيارون بجانبي بغداد، ووقعت الفتن بين أهل السنة والشيعة، وكثر القتل بينهم، وأحرق عدة محالّ، ونهبت الأموال، وأخربت المساكن، ودام ذلك عدة شهور”.
2309 “في هذه السنة (382) تجددت الفتن بين أهل الكرخ وغيرهم، واشتد الحال، فركب أبو الفتح محمد بن الحاسب الحاجب، فقتل وصلب، فسكن البلد”.
2310 “في هذه السنة (407) كانت فتنة كبيرة بين أهل السنة والشيعة بواسط، فانتصر أهل السنة، وهرب وجوه الشيعة والعلويين… وفي هذه السنة احترق نهر طابق ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سُرَّ من رأى”.
2311 “في هذه السنة (408) وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض قتل فيها خلق كثير من الفريقين”.
2312 “في هذه السنة (422) تجددت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة، وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزو، فاجتمع له لفيف كثير، فسار واجتاز بباب الشعير والحراني وبين يديه الرجال بالسلاح، فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر، وقالوا: هذا يوم معاوية، فنافرهم أهل الكرخ، ورموهم وثارت الفتنة ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم إنهم أعانوا أهل الكرخ… وقصدوا الكرخ فأحرقوا وهدموا الأسواق… وأحرق وخُرِّب في هذه الفتنة سوق العروس وسوق الصفارين وسوق الأنماط وسوق الدقاقين وغيرها”.
2313 “في هذه السنة (425) وقعت الفتنة ببغداد بين السنة والروافض، حتى بين العيّارين… فمقدّما عياري أهل السنة منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال”.
2314 “في هذه السنة (432) وقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ وأهل باب البصرة، فقتل خلق كثير من الفريقين”.
2315 “في هذه السنة (441) مُنع أهل الكرخ من النوح وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا، وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنية فتنة عظيمة، قتل فيها وجرح كثير من الناس… وبطلت الأسواق وزاد فيها الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا فيه”.
2316 “في هذه السنة (442) اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضّوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم، وهذا عجيب جداً إلا أن يكون من باب التقية”.
2317 “في هذه السنة (443) في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب: “محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر”، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد (ص) في هذا، فنشبت الحرب بينهم واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد [= ابن حنبل] ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا ضريح موسى [=الكاظم] ومحمد الجواد وقبور بني بويه، وأُحرق قبر جعفر بن المنصور ومحمد الأمين وأم زبيدة وقبور كثيرة جداً، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا . وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضاً بمفاسد كثيرة وبعثروا قبوراً قديمة وأحرقوا من فيها من الصالحين حتى هموا بقبر الإمام أحمد… وتسلط على الرافضة عيّار يقال له القطيعي وكان يتبع رؤساءهم وكبارهم فيقتلهم جهاراً وغيلة، ولم يقدر عليه أحد”.
2318 “في هذه السنة (444) هاجت الفتنة في بغداد واستعرت نيرانها وأُحرقت عدة حوانيت… فاجتمع غوغاء السنة وحملوا حملة حربية على الرافضة، فهرب النظّارة والتحموا في درب ضيق، فهلك ست وثلاثون امرأة وستة رجال وصبيان، وطُرحت النيران في الكرخ”.
2319 “في هذه السنة (445) زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنية، وكان ابتداؤها في أواخر سنة أربع وأربعين، فلما كان الآن عظُم الشر واختلط بالفريقين طوائف من الأتراك. فلما اشتد الأمر اجتمع القواد واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد، وأخذوا من الكرخ إنساناً علوياً وقتلوه، فثار نساؤه ونشرن شعورهن واستغثن، فتبعهن العامة من أهل الكرخ وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة قتال شديد، وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ، فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض، وانتقل كثير [=من الناس] من الكرخ إلى غيرها من المحال”.
2320 “في هذه السنة (479) في شوال وقعت الفتنة بين السنة والشيعة، وتفاقم الأمر إلى أن نهبت قطعة من نهر الدجاج وطُرحت النار، وكان يُنادى على نهوب الشيعة إذا بيعت في الجانب الشرقي: هذا مال الروافض!”.
2321 “في هذه السنة (482) في صفر كبس أهل باب البصرة الكرخ فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلق أهل الكرخ الأسواق ورفعوا المصاحف وحملوا ثياب الرجلين بالدم… وفي جمادى الأولى كثُرت الفتن بين أهل الكرخ وغيرها من المحال وقُتل بينهم عدد كثير، واستولى أهل المحالّ على قطعة كبيرة من نهر الدجاج فنهبوها وأحرقوها… وفي بعض الأيام وصل أهل باب البصرة إلى سُويقة غالب، فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال، فقاتلوهم حتى كشفوهم… وجرى من النهب والقتل والفساد أمور عظيمة”.
2322 “في هذه السنة (483) كانت فتنة هائلة لم يُسمع بمثلها بين السنة والرافضة، وقُتل بينهم عدد كثير، واستظهرت السنة بكثرة من معهم من أعوان الخليفة، واستكانت الشيعة وذلّوا ولزموا التقية إلى أن كتبوا على مساجد الكرخ: “خير الناس بعد رسول الله (ص) أبو بكر”، فاشتد البلاء على غوغائهم وخرجوا عن عقولهم، واشتدوا ونهبوا شارع أبي عوف”.
2323 “في هذه السنة (486) وقعت الفتنة بين الروافض والسنة، وانتشرت بينهم شرور كثيرة”.
2324 “في هذه السنة (487) وقعت فتنة بين السنة والروافض، فأحرقت محال كثيرة وقُتل ناس كثير”.
2325 “في هذه السنة (502) في شعبان اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة. وكان الشر بينهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء والسلاطين والشُّحَن في إصلاح الحال فتعذر عليهم ذلك إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة”.
والواقع أنه منذ منتصف القرن الخامس الهجري كان إيقاع الفتن بين السنة والشيعة في بغداد قد تباطأ، ولكن لم يكن ذلك “بغير واسطة” كما يصادر ابن الأثير على ذلك في الكامل. فابن كثير يُفرد على العكس مقطعاً مطولاً من البداية والنهاية لتشخيص تلك “الواسطة” بردّها إلى الانقلاب السياسي والإثني والإيديولوجي الكبير الذي شهدته بغداد في منتصف القرن الخامس مع انتقال السلطة فيها من أيدي آل بويه المتشيعين إلى آل سلجوق المتسننين. في ذلك يقول وهو يعلق على ما أورده من حوادث سنة 448: “وفيها أُلزِم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين. وأزيلَ ما كان على المساجد ومساجدهم من كتابة: محمد وعلي خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بني بويه كانوا حكاماً، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم المحمود أبداً على طول المدى”.
والواقع أيضاً أنه لئن تباطأ إيقاع الفتن في مركز الدولة السلجوقية في بغداد، فقد بقي على وتيرته في الأطراف التي بقي يتعاورها ولاة ومتسلطون من عناصر إثنية وطائفية شتى.
وهكذا يروي ابن الأثير في الكامل: “في هذه السنة (510) في عاشوراء كانت فتنة عظيمة بطوس في مشهد علي بن موسى الرضا، وسببها أن علويا خاصم في المشهد يوم عاشوراء بعض فقهاء طوس، فأدى ذلك إلى مضاربة، واستعان كل منهما بحزبه فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس، وأحاطوا بالمشهد وضربوا وقتلوا من وجدوا، فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة”.
وما جرى في طوس سيتكرر في نيسابور سنة 554 ليأخذ شكل صدام واقتتال بين الشافعية من السنة وبين العلويين من الشيعة. وفي ذلك يقول ابن الأثير في الكامل: “قامت الحرب على ساق، وأحرقت المدارس والأسواق والمساجد، وكثر القتل في الشافعية… وقصر باعهم عن القتال… وبطلت دروس الشافعية بنيسابور، وخرب البلد وكثر القتل فيه”. ولكن تدخل العساكر السلجوقية قلب ميزان القوى، فـ”اشتد الخطب، وطالت الحرب، وسفكت الدماء، وهُتكت الأستار، وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها، وبالغ الشافعية ومن معهم في الانتقام، فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة، وخربوا غيرها. وهذه الفتنة استأصلت نيسابور”. وقد طال أمد هذه الفتنة إلى عام 556، “فخربت نيسابور بالكلية، وبين جملة ما خرب مسجد عقيل، وكان مجمعاً لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافع نيسابور، وخُرِّب أيضاً من مدارس الحنفية ثماني مدارس، ومن مدارس الشافعية سبع عشر مدرسة، وأحرق خمس خزائن للكتب، ونُهب سبع خزائن كتب، وبيعت بأبخس الأثمان، وهذا ما أمكن إحصاؤه سوى ما لم يُذكر”.
وقد تطابقت فتنة نيسابور في الزمن كما في الكيف مع فتنة استراباذ: “في هذه السنة 554 وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة، وبين الشافعية ومن معهم . وكان سببها أن الإمام محمد البزدي وصل إلى استراباذ، فعقد مجلس الوعظ، وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد شافعي المذهب أيضاً، فثار العلويون، ومن يتبعهم من الشيعة، بالشافعية ومن يتبعهم بأستراباذ، ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون، فقتل من الشافعيين جماعة، وهرب القاضي ونُهبت داره ودور من معه، وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حدّ له”.
وفي عام 574 “كان بمدينة الري أيضاً فتنة عظيمة بين السنية والشيعة، وتفرق أهلها، وقتل منهم، وخربت المدينة وغيرها من البلاد”.
وبما أن هذه الفتنة الأخيرة قد تواقتت زمنياً بفارق شهور مع وقعة حطين واسترداد بيت المقدس من أيدي الصليبيين، فلتكن لنا وقفة أخيرة عند علاقة هذه الفتن السنية-الشيعية الداخلية بالعامل الخارجي.
الطائفية والعامل الخارجي
خلافاً لأدبيات “المؤامرة الخارجية”، التي تؤلف ثابتاً بارزاً من ثوابت الإيديولوجيا العربية المعاصرة، فإن حوليات ابن الأثير تقدم لنا ثلاثة أمثلة على دليل العكس، أي على كون الفتن الطائفية الداخلية ليست من صنع الأجنبي ولا من توظيفه، بل هي التي توظف العامل الخارجي توظيفاً فئوياً على مذبح ما نسميه اليوم بالمصلحة الوطنية أو القومية. والأمثلة التي تقدمها حوليات ابن الأثير تغطي الحالات الثلاث من العلاقات التي عرفها تاريخ الإسلام العربي مع العدو الخارجي الذي تمثل على التوالي بالروم والفرنج والتتار.
الحالة الأولى تأتي في سياق كلام ابن الأثير عن أحداث عام 351. ورغم طول النص فإننا مضطرون إلى تثبيته تماماً، إذ على هذا النحو فحسب ينطق بتمام دلالته من المنظور الذي يعنينا هنا:
“ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، فيها كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله في مائتي ألف مقاتل بغتة، فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر عنده من المقاتلة، فلم يقو به لكثرة جنوده، وقَتَل من أصحاب سيف الدولة خلقاً كثيراً. وكان سيف الدولة قليل الصبر، ففرّ منهزماً في نفر يسير من أصحابه. وأول ما استفتح به الدمستق قبحه الله أن استحوذ على دار سيف الدولة وكانت في ظاهر حلب، فأخذ ما فيها من الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة والعدد وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم، ثم حاصر سور حلب فقاتل أهل البلد دونه قتالاً عظيماً، وقتلوا خلقاً كثيراً من الروم، وثلمت الروم بسور حلب ثلمة عظيمة، فوقف فيها الروم، فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلما جن الليل جدّ المسلمون في إعادتها، فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت، ثم بلغ المسلمين أن الشُّرط والبلاحية [= العملاء والجواسيس] قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم، قبحهم الله فإنهم أهل شر وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلَوْه، ودخلوا البلد يقتلون من لقوه، فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً، وانتهبوا الأموال، وأخذوا الأولاد والنساء، وخلّصوا من كان بأيدي المسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فأخذ الأسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم، وأسروا نحواً من بضعة عشر ألفاً ما بين صبي وصبية ومن النساء شيئاً كثيراً، ومن الرجال الشباب ألفين، وخربوا المساجد وأحرقوها، وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض، وأهلكوا كل شيء قدروا عليه، وكل شيء لا يقدرون على حمله أحرقوه، وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشُّرَط في البلد قاتلهم الله، وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضياً يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب… وفيها (سنة 351) كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد (في بغداد) لعنة معاوية… وأبي بكر… وعمر… وعثمان… ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكر ولم يغير… قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا يُنصرون، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم… وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء” (البداية والنهاية، ج11، ص 239-241).
أما الحالة الثانية من حالات التوظيف الداخلي الطائفي للعامل المعادي الخارجي فتتمثل باستعانة كل من فريقي “الفتنة” المقتتلين بالفرنجة –الذين ما كانوا يسمون في الأدبيات الإسلامية المعاصرة للحدث بالصليبيين- لتمكينه من التغلب على الفريق الآخر، يتساوى في ذلك السنة والشيعة بلا تمايز. ففي معرض الكلام عن حوادث سنة 570 –وهي السنة التي شهدت اقتتالاً داخلياً وصراعاً شرساً على السلطة بين الأيوبيين والزنكيين في دمشق وحمص وحماة وحلب- يذكر ابن كثير أن صلاح الدين توجه إلى حلب فحاصرها وهو يدعي الولاء للملك الصالح، ابن نور الدين الزنكي. ولكن هذا الأخير –وكان في الثانية عشر من العمر- كان مدركاً على ما يبدو لمطامع صلاح الدين، فخرج إلى الحلبيين، وكان كثرة منهم من الشيعة منذ أيام الحمدانيين، وجمعهم في ميدان باب العراق، و”تودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد”. ولكن “الروافض” –على حد تعبير ابن كثير- من أهالي حلب استغلوا السانحة ووضعوا لمعاونتهم له شرطاً: “أن يعاد الأذان بـ”حي على خير العمل”، وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمساً، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأُذِّن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل”. ومع ذلك كله وقف الحلبيون عاجزين عن مقاومة صلاح الدين الذي كان تسمى بالناصر. وبعد أن تدبروا أكثر من محاولة لقتله أو اغتياله “راسلوا عند ذلك القومس صاحب طرابلس الفرنجي، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحَّل عنهم الناصر. وكان هذا القومس قد أسره نور الدين [=والد الملك الصالح] وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار وألف أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين”. ونزل القومس عند طلب الحلبيين، و”قصد لحمص ليأخذها، فركب إليه السلطان الناصر… فلما اقترب منه نكص [=القومس] على عقبيه راجعاً إلى بلده [=طرابلس] ورأى أنه أجابهم إلى ما أرادوا منه” (البداية والنهاية، ج12، ص288-279).
وكما لم يحجم الزنكيون السنيون عن الاستنجاد بالصليبيين لوضع حد لمطامح صلاح الدين الأيوبي، كذلك لن يحجم العبيديون الشيعيون في مصر عن الاستنجاد بهم، ودوماً للسبب نفسه. ففي حوادث سنة 569 يذكر ابن كثير أنه “اجتمع جماعة من رؤساء الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاماً، فاتفقوا فيما بينهم أن يردّوا الدولة الفاطمية (التي كان أزالها صلاح الدين)، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك” (البداية والنهاية، ج12، ص275). وفي الكامل في التاريخ يوضح ابن الأثير أن من كتبوا إلى الفرنج باستدعائهم لنجدتهم لم يكونوا من العبيديين الفاطميين وحدهم، بل كان في عدادهم أيضاً، علاوة على “جماعة من الشيعة، منهم عمارة اليمني الشاعر”، جماعة من “جند المصريين ورجالاتهم السودان وحاشية القصر، وافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده”. وقد “اتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد. فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين بنفسه إليهم، ثاروا هم في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذاً باليد لعدم الناصر له”. وعلى أي حال، وبفضل جواسيس من النصارى، عرف صلاح الدين بجلية الأمر، “فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة وصلبهم” (الكامل، ج7، ص85).
أما الفصل الثالث والأخير من فصول هذا التوظيف الطائفي للعامل الخارجي فهو الأكثر مأساوية بما لا يقاس إذ تمثل باستقدام التتار إلى بغداد فأحرقوها وقتلوا “ألفَ ألفٍ” من سكانها. وتفاصيل الواقعة المشؤومة كما يرويها ابن كثير في حوادث سنة 656 أنه “كان في السنة الماضية بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير. فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد”. فقد استبق الوزير ابن العلقمي مجيء جحافل التتار بتسريح تسعة أعشار جيش الخليفة الذي كانت عناصر منه شاركت في الحرق والنهب والاغتصاب، واضطر المسرحون من العساكر إلى الاستعطاء “في الأسواق وأبواب المساجد”. ثم “كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً منه أن يزيل السنّة بالكلية وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين”. ثم لما قدم هولاكو وطوَّق بغداد بمئتي ألف من عساكره، أشار ابن العلقمي على الخليفة بعدم المقاومة وبالخروج بنفسه لاستقبال هولاكو. فخرج الخليفة “في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منـزل السلطان هولاكو خان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم”. ثم عاد الخليفة إلى بغداد “تحت الحوطة والمصادرة” بصحبة الوزير ابن العلقمي والخوجة نصير الدين الطوسي.
وبناء على نصيحة الاثنين أحضر المستعصم بالله “من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والجواهر والأشياء النفيسة” يريد بها “مصانعة ملك التتار”. ولكن بناء على مشورة الاثنين أيضاً أبى هولاكو المصالحة وأمر بقتل الخليفة، فقتله عساكره رفساً بالأقدام، وقيل خنقاً. ثم “مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان… وقد اختلف الناس في كمية من قتل في بغداد من المسلمين في هذه الموقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف… ولم ينجُ أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة… وعادت بغداد، بعدما كانت آنس المدن، كلها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة وقلة” (البداية والنهاية، ج13، ص98).
ورغم أن رواية ابن كثير مطعون فيها وفي تحيزها السني من قِبل المصادر الشيعية –وقد كُتِب أكثر من رد في تفنيدها- فإننا نحوز نصاً يثبت أن كارثة بحجم إحراق التتار لبغداد تظل قابلة مع ذلك للتوظيف الطائفي ولاعتبارها، من منظور هذا التوظيف، نعمة لا نقمة. هكذا يقول محمد باقر الموسى في كتابه روضات الجنات في معرض ترجمته للوزير الطوسي: “هو المحقق المتكلم الحكيم… ومن جملة أمره المشهور المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم في محروسة إيران هولاكو خان بن تولي جنكيز خان من عظماء سلاطين التتارية وأتراك المغول، ومجيئه في موكب السلطان مؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد، لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، وقطع دابر سلسلة البغي والفساد، وإخماد دائرة الجور والإلباس بإبداد دائرة مُلك بني العباس، وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة، إلى أن سال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار، وانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى جهنم دار البوار، ومحل الأشقياء والأشرار”.
والحق أنه، فيما يتعلق بدور العامل الأجنبي في الصراعات الطائفية وبطبيعة توظيفه تبعاً للتفاوت في موازين القوى بين الطوائف المتناحرة، لنا أن نميز بين مفهومين لـ”الخيانة”: مفهوم إيجابي ومفهوم سلبي. فالإيجابي هو الذي يبرر الخيانة للخلاص من الاضطهاد الطائفي من قبل الأكثرية للأقلية، والسلبي هو الذي يبرر امتناع الأكثرية عن الاستعانة بالأقلية الطائفية في مواجهة الأجنبي.
النمط الأول يجد نموذجه في الشاهد التالي الذي نقبسه من كتاب تاريخ العلويين لمؤلفه محمد أمين غالب الطويل (بيروت، ص. 407): “لما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها –وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان- كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة”.
والنمط الثاني، الذي لا يبيح الاستعانة بالطوائف المخالفة حتى في حال المواجهة مع عدو خارجي، يجد نموذجه في الفتوى التالية التي أصدرها ابن باز، المفتي السابق للديار السعودية، عندما طُرح عليه هذا السؤال: “هل يمكن التعامل مع الرافضة لضرب العدو الخارجي؟”، فأجاب: “لا أرى ذلك ممكناً”.
ولعلنا نستطيع أن نستلحق بهذا النمط السالب ما قيل على لسان الإمام جعفر الصادق. فبدون أن يبيح توظيف العامل الخارجي في الصراع الطائفي الداخلي، وبدون أن يبرر لا “الخيانة” ولا “التخوين”، فإنه يقدم مع ذلك الجهاد الداخلي على الجهاد الخارجي ويعطي الأولوية للدفاع عن ثغور العقيدة في مواجهة الخصم الطائفي على الدفاع عن ثغور الأمة في مواجهة العدو الديني. فقد أورد المرتضى الأبطحي في كتابه الشيعة في أحاديث الفريقين “عن الإمام العسكري قال: قال جعفر بن محمد: علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا، ومن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب. ألا من انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذاك يدفع عن أبدانهم”.
وما دمنا هنا قد أعدنا القارئ إلى جعفر الصادق، ومن قبله إلى ابن حزم، وهما من الوجوه البارزة في التراثين الشيعي والسني، فلتكن لنا وقفة –مطَوَّلة بالضرورة- عند الحرب الأخرى التي دارت هذه المرة بين كبريي طوائف الإسلام لا بالأفعال على مسرح التاريخ، بل بالأقوال على صفحات التراث.
حرب الكلمات
قد يكون هناك ما هو أخطر وأفدح وأدوم أثراً من حرب الأفعال، هي حرب الأقوال. فالدماء التي تسفك في كل حرب فعلية قد تجف مع دفن القتيل، وقد يسري عليها قانون التقادم الزمني فلا يبقى لها أي أثر في الذاكرة بعد جيلين أو ثلاثة. ولكن حرب الأقوال، منذ أن تم اكتشاف تقنية الكتابة، حرب قابلة للتجدد باستمرار، ولا يسري عليها قانون النسيان ولا قانون التقادم. ولئن حددنا تقريبياً زمن الحرب الفعلية، السنية-الشيعية، بثلاثمئة سنة، فلنا أن نجزم بلا خوف المبالغة أن عمر الحرب القولية بين هاتين الطائفتين الكبيرتين من طوائف الإسلام لا يقل عن ألف سنة، وهي تدخل اليوم، مع اندلاع الفتنة العراقية في أعقاب كارثة الاحتلال الأمريكي، في ألفها الثاني.
وبالفعل، ومنذ مطلع القرن الثالث للهجرة، ومع إماميه السنيين الكبيرين البخاري وابن حنبل، رأت الحرب القولية ضد الشيعة، بالتواقت مع الانقلاب المتوكلي، بداياتها الأولى، قبل أن تعقبها ابتداء من القرن الرابع للهجرة حرب قولية مضادة على أهل السنة بقلم كبير متكلمي الشيعة: الكليني.
وبدون أن ندعي الحصر –وهو في هذا المجال مستحيل- سنتوقف عند بعض المحطات الرئيسية في هذه الحرب في كلا اتجاهيها المتضادين.
tarabichi5@yahoo.fr
كاتب سوري- باريس
فصل من كتاب “هرطقات 2”
العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية (1-3)للأسف الشديد قرأت القليل من إنتاجياتكم الفكرية, لأنني أعيش خارج الوطن العربي لزمن طويل جدا , وفي خارج الوطن العربي قليل الاحتكاك بالتكتلات العربية و الإسلامية , مما يسمح لي اتخاذ قراراتي في كل شيء- مستقل – خارج نطاق الثاثير العربي و الإسلامي بعادته وتقاليده التي عفا عليها الزمن , ولكن رغم دلك يتزايد لدي – مع الزمن – الرغبة عن بعد معرفة حقيقة تركيبتا النفسي ,على سبيل المثال أو على شكل مقترح فقط , لماذا نخترع دراجة هوائية ادا قد تم اختراعها منذ زمن طويل , علينا نتعلم إنتاجها كمرحلة أولى من اجل إن… قراءة المزيد ..
العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية (1-3)عزيزى د. جورج لعلك مازلت تذكر تلك المناقشة الجانبية بيننا منذ سنوات – إبان تزاملنا في مؤتمر الحكيم مجددا [ المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة ] وكانت تطـّوف حول ضرورة اتخاذ العلمانية مفتاح فرج للباب العربي المغلق .. يومها اعتبرتني متطرفا ً بعض الشئ حسب تعبيرك ، وهأنذا أراك اليوم تثقب القـُفل بقوة هذا المفتاح . دعني إذن أحيي فيك حيوية المفكر القادر على تجاوز التوفيقيّةSyncretism باعتبار الخطاب التوفيقي مجرد قناع للتلفيقية Eclecticism غير المنسجمة ، وغير الممكنة ، سيما حين يكون الأمر متعلقا ً بضرورة إيجاد حلول لمشكلات مزمنة ، حيث لا تفلح التسويات غير… قراءة المزيد ..