في الأدب السياسي أخطاء شائعة. ولعل أبرزها تعبير “العلمانية”، الذي يُطلق وأُطلق في العالم العربي على أنظمة من نوع نظام مبارك في مصر، والأسد في سورية، وصدّام في العراق، وبن علي في تونس، والقذافي في ليبيا، وعلي صالح في اليمن (وكلها أنظمة عصفت بها موجة الربيع العربي)، وحتى على النظام الفلسطيني الغلبان، الذي يُقال إن حماس “الإسلامية” انقلبت عليه في غزة.
والصحيح أن هذه الأنظمة كلها لم تكن علمانية، وأن في وصفها بـ”العلمانية” افتئات على الحقيقة، بقدر ما يتعلّق الأمر بحقيقة العلوم الاجتماعية. والصحيح، أيضاً وأيضاً، أن العالم العربي لم يعرف أنظمة علمانية في تاريخه حتى يوم الناس هذا.
الأمر، هنا، يشبه الأواني المستطرقة. في الأكاديميا الغربية، وفي صحافة الغرب، أيضاً، يُكتب الكثير عن “الأنظمة العربية العلمانية”، التي تتهاوى اليوم تحت مطرقة الإسلام السياسي. ويستطرد هؤلاء وأولئك في فك شيفرة العالم العربي، الذي يمثل الدين في نظرهم جوهر كينونته السياسية والاجتماعية. وفي العالم العربي يكتب علمانيون وليبراليون ويساريون عن مخاطر الدولة الدينية، في سياق الكلام عن صعود الإسلاميين.
وليس ثمة ما هو أحلى وأشهى على قلوب الإسلاميين من تأكيد هذه “الحقيقة”، حقيقة أنهم يعيدون الحق إلى نصابه، والهوية إلى مكوّناتها الصحيحة، في مجابهة أنظمة “علمانية مستوردة”. وبل ويحدث أن ناطقين باسم الأنظمة التي ذكرناها، وغيرها، يذكّرون مباشرة ومداورة شعوبهم وساسة الغرب بطبيعة الحال، أن أنظمتهم علمانية”، وتقاوم خطر الأصولية والإسلام السياسي..الخ”.
ينجم هذا الخطأ الشائع عن فوضى المفاهيم، وعن حقيقة أن مفهوم الدولة في الأدب السياسي العربي ما يزال ملتبساً، وبالقدر نفسه مفاهيم من نوع “العلمانية” و”الدولة الدينية”. وبقدر ما يتعلّق الأمر بمفهوم الدولة، فإن الدولة القومية الحديثة كينونة علمانية. والعلماني، هنا، يعني الدنيوي. وفي هذا المعنى لا توجد دولة دينية في الأزمنة الحديثة.
حتى السعودية وإيران لا يمكن وصفهما بالدولة الدينية دون تحفظات، رغم أن الأولى بلا دستور، والثانية تضع الولي الفقيه فوق الدستور. بل وأكثر من هذا يمكن القول إن الدولة الدينية لم تعد ممكنة في الأزمنة الحديثة.
وحتى مع الوصول إلى هذا الحد يصبح التقسيم ما بين العلماني والديني باطلاً. فالدولة الحديثة، بما هي أنظمة مالية وإدارية وتشريعية وسلطات، كينونة علمانية. أما التبريرات الدينية والفقهية التي يضفيها هذا النظام أو ذاك على أنظمته فتدخل في باب الأيديولوجيا، لا في باب مفهوم الدولة.
ولكن كيف نقول هذا الكلام، وقد ذكرنا في البداية أن العالم العربي لم يعرف أنظمة علمانية في تاريخه؟
ثمة أكثر من إجابة من بينها التمييز بين الدولة والنظام. وعدم تجاهل أو تناسي حقيقة أن الدولة القومية الحديثة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بدول كثيرة في العالم العربي لم تستقر كدول قومية حديثة بعد. والدليل أن جغرافية الدولة تصبح هشّة وقابلة للانكسار في ظل أزمات من نوع الاحتلال الأميركي للعراق، والثورة السورية ضد نظام آل الأسد، والثورة ضد نظام القذافي..الخ. باختصار، تكتمل هوية الدولة عندما تصبح الحدود السياسية للدولة أكثر أهمية من حدودها الطائفية والإثنية واللغوية (فكّروا في سويسرا وبلجيكا، مثلاً).
هذا جانب. والجانب الآخر أن الأنظمة المذكورة، وغيرها في العالم العربي، مرّت بمراحل مختلفة اتسمت آخرها (أي العقود الأخيرة في حكم بن علي ومبارك والقذافي وصدّام، ونرجو أن نضيف إليهم قريباً بشّار الأسد) بمحاولات تَديين قسرية للدولة والمجتمع، عن طريق جهاز التعليم والإعلام المركزيين، محاولات كانت مصحوبة بمشاريع للتوريث، وتحوّلات طرأت على بنية النخبة الحاكمة فحوّلتها إلى نخبة من المماليك تحتل شعباً أجنبياً بالحديد، والفلكلور السياسي والوطني، والنار.
وأعتقد أن ثمة علاقة بين التديين، ومشاريع التوريث، وآليات التحوّل إلى نخبة مملوكية. التديين يرفع من شأن الأفكار المطلقة، والأفكار المطلقة ضرورية لعقلنة وشرعنة القمع. أما الفلكلور السياسي والوطني فأرخص الأقنعة وأوسعها سوقاً وأيسرها تسويقاً. وهذه الأشياء متضافرة ملائمة للتوريث. وفي هذا السياق ينبغي تأويل عمليات التديين في الأنظمة المذكورة باعتبارها تتناسب طردياً مع الموقف من كينونة الدولة. يزداد التديين كلما ضعفت كينونة الدولة وغاب الفرق بينها وبين النظام، والعكس صحيح.
لذلك، في وصف تلك الأنظمة بالعلمانية ما يُسهم في تزييف الواقع. التزييف الذي استفاد منه الجميع. استفادت الأنظمة، واستفاد الإسلاميون، واستفاد اليمين واليسار، الكل استفاد لأسباب مختلفة بطبيعة الحال.
ولكن إذا لم تكن تلك الأنظمة “علمانية” فماذا تكون؟
لا يوجد نظام علماني يمارس تديين الدولة والمجتمع على طريقة الأنظمة المذكورة. (ابحثوا في مناهج التعليم، وسياسة أجهزة الإعلام الرسمية في كل الأنظمة المذكورة) الصحيح أن هذه الأنظمة “هجينة”، تجتمع في تكوين هويتها عناصر مختلفة منها ما هو راسخ وأصيل في الثقافة والمخيال العربيين، ومنها ما هو جديد و”مستورَد”. الشعبوية” هي العنصر المستورد الوحيد، أما المملوكية والسلطانية فهما في جذر الميراث الثقافي للعرب، وفي” المخيال الشعبي.
سيظل هذا الالتباس قائماً، ولن يتمكن العرب من الفكاك منه، قبل استقرار الدولة القومية الحديثة في الفكر، وفي الواقع، باعتبارها كينونة علمانية. ومع ذلك ينبغي التفكير، دائما، في حقائق من نوع أن العلمانية والديمقراطية ليسا صنوين. وإذا اجتمعا، وهذا لن يتحقق في عالم العرب في وقت قريب، ستكون تلك أعلى مراحل الربيع العربي، وإن كره الكارهون.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني