مناقشة الجماعات اللبنانية، ومنها الشيعة، مسألة “نهائية” لبنان وطنا ودولة، ونهائية انتسابها الى لبنان، إقرار يكاد يكون صارخا بأن المسألة لم تحسم، وان لبنان ليس وطنا نهائيا، وان مرجع الجماعات السياسي والتاريخي، واحيانا كثيرة الأمني والعسكري، ليس الدولة اللبنانية وهيئاتها وقوانينها وسلطاتها. والمناقشة تتناول، فعلا، عناصر لا تقتصر على الدولة والوطن. فهي تتناول، اليهما، الشعب والامة والمجتمع. وهذا يعقّد المسألة. فيبدو ان الدخول في الدولة، في معناها الاداري والاجرائي والقانوني، امر بديهي، ولا تختاره الجماعات، كما لا يختاره الافراد. ويبدو الانتساب الى الوطن الجغرافي او البلداني “تحصيل حاصل” او امرا واقعا لا مفر من الاقرار به.
*
من تظاهرات حركة الإمام الصدر في بعلبك 1974
لم تكن علاقة شيعة لبنان بالدولة اللبنانية، الانتدابية فالاستقلالية، واحدة ولا متجانسة ولا ثابتة. فاستقبلوا اعلان دولة لبنان الكبير على ثلاثة مذاهب او انحاء: “فرؤساء العشائر” والاعيان والوجهاء والعلماء مالوا الى تأييد اعلان الدولة: فهم وعدوا بالاقرار بالمذهب الجعفري مذهبا خامسا، والدولة الجديدة تنقذ “الجماعة العاملية”(الجنوبية) من سطوة “العصابات” و”الثوار” الفيصليين وفوضاهم وعدوانهم على الاملاك والناس وتقرهم هم على الصدارة، والشراكة مع جيران الجبل القريب تحت لواء قوة منتدبة لا طاقة لهم بحربها، وهي وعد باقتسام “ثمرات التقدم”، على قول معاصر رائج. وخرج على الفريق الاول فريق ثان من ابناء “العشائر” الكبيرة والصغيرة، ومن الفلاحين الفقراء و”الطياحة” والتحقوا بفيصل وبعض ضباط “امنه” واستخباراته. فحاربوا الفرنسيين و”عملاءهم” من اصحاب الارض والمختارين والمسيحيين. واستكان فريق ثالث، بعلبكي – هرملي، تحت لواء “العشائر الحمادية”. وهذا الفريق بدا سادرا عن المسألة السياسية. فما يعنيه هو وحدة العشائر وارضها ومراحاتها ورعيها. وهذه لم يلحقها ضرر. فسكنت العشائر الى حين وتحركت عشائر اخرى، درزية، في جبل العرب وحوران. ولكن ضعف اجتماعها حال بينها وبين التطرق الى المسالة السياسية او الكيانية.
وعلى قدر او آخر، اقامت علاقات الجماعات الشيعية بـ”الدولة” (وبالشعب والأمة) على هذا الانقسام. فالشطر الاعظم من الجماعات هذه والى “الدولة” اي السلطة، لقاء حقوق ومنافع توقعها. فكان الطاقم النيابي، وظله الطاقم الاداري، عنوان الولاء هذا. واقامت الاطراف الاجتماعية والاهلية على “تعصبها” و”ثورتها” فكانت مادة تيارات وحركات واحزاب متحفظة او معارضة. وانحلّت العشائر في الاثناء، ولكن “روحا” عشائرية حادة وقوية لم تنفك، على رغم التحولات الاجتماعية العميقة، تسري في اوصال الجماعات كلها، وخصوصا الشيعية منها.
وقوام “الروح” هذه هي التنصل من الدولة، على معانيها الادارية والامنية والسياسية كلها، والسعي في انشاء “دولة” ظل، او “دولة اهلية”، تميل مع نوازع الجماعة. واشترك الافرقاء الثلاثة في طرح “حقوقهم” على الدولة، وعلى الجماعات اللبنانية الاخرى، وفي اضمارهم انتسابا غير معلن الى “امم” اخرى، على تفاوت كبير في اعلان هذا الانتساب، او ادراكه، او العمل بموجبه.
التحصيل و”الحرمان”
ولكن ما حصّلته الجماعات الشيعية من لبنان في غضون نصف القرن المنصرم منذ إعلان الدولة اللبنانية، لم يكن مصدره الدولة أو السلطة والادارة بل الاجتماع اللبناني، وعلاقاته ومبادلاته ونظمه الداخلية التي رعتها الدولة، وحضنتها ولم تستأصلها، على خلاف ما حصل في سوريا القريبة، وفي “الداخلية” العربية عموماً. فكان سوق العمل والتملك والتجارة والوظيفة والهجرة والزراعة باعثاً قوياً على إنماء طاقات أعداد كبيرة من المتحللين من العلاقات الاجتماعية والسياسية المقيدة. وردف التعليم الطاقات المتحررة هذه بقوة متعاظمة شاعت في الاجسام الاهلية كلها. ورعت الليبرالية اللبنانية حيوية سوق العمل والتعليم، على رغم تفاوت توزيع ثمرات الحيوية هذه، وقصور السلطات العامة عن الاضطلاع ببعض أعباء التجهيز في المصالح المشتركة.
ولم يؤدِ هذا الى اندماج الجماعات الشيعية في الدولة – الأمة اللبنانية، أو في الشعب اللبناني. فالحركات السياسية، الاهلية، انفصلت عن الطاقم النيابي الرسمي. وأشاعت في جمهورها الضيق، المتخلف عن أطوار الاجتماع والثقافة، أفكاراً وقيماً عروبية وسورية واسلامية وقومية “تحررية”، مرجعها “أمم” مفترضة ليست “الأمة” (يا للهول!) اللبنانية بينها. وتعللت بعلل شتى تنكر كلها، في نهاية المطاف، على الدولة اللبنانية، بما هي صورة الارادة السياسية المجتمعة من “استفتاء” اللبنانيين وهيئاتهم، سيادتها على مواطنيها وأراضيها. وكان “الحرمان”، من مياه الليطاني أو أسعار التبغ العادلة أو المدارس أو الكهرباء أو الطرق أو مياه الشفة أو دعم المحروقات، الذريعة أو المسوغ. وكان الحرمان من تمثيل الحرمان والمحرومين بواسطة طاقم سياسي وإداري “مناسب”، ذريعة مدوية. فبدا أن الهوية الاجتماعية تتقدم الهوية السياسية الوطنية، وتواريها. واضطلعت الجماعات الاهلية، الطائفية والمحلية (وأممها المضمرة والمفترضة)، بالمطالبة الاجتماعية، واستثمرت انجازاتها، في هذا المضمار، في تقوية رابطة “أممها” ومشروعيتها.
“أمة” موسى الصدر
كانت حركة موسى الصدر- وهي صدرت عن التقريب بين المذاهب الاسلامية (وفيها العلويون، على ما ذهب اليه عبد الحسين شرف الدين، “عم” الصدر) وعن العلاقة الوثيقة باللواء محمد ناصيف، جمعاً للشيعة اللبنانيين في كتلة تتخطى الانقسام العصبي والاهلي وتحصيل مصالحهم المشتركة بما هم جماعة – معاً وفي وقت واحد.
والحق ان هذه المحاولة التي فهمها معاصروها، وفهمها صاحبها وبعض المقربين ربما، تمهيداً لدخول شيعة لبنان نداً مساوياً للجماعات الأخرى المتصدرة ومكتمل العدة القيادية والمؤسسية، تقهقرت وتصدعت، وأسلمت الجماعة تدريجاً الى الاقتصار على دور الوسيلة المطواعة. وأدت مخاطبة الصدر “جماعته” على صفة الكتلة المتحدة والمجتمعة، الى تغليب مذهبيتها “الإمامية” والأهلية على وجوهها الأخرى، السياسية والاجتماعية. وقوّى دمج الهويات الاجتماعية (“الحرمان، والطرفية السكنية والجغرافية: “حزام البؤس”) في الهوية المذهبية، وحمل الهويات الاجتماعية والسياسية (“المظلومية” والخروج عليها) على الهوية المذهبية، اللحمةَ العصبية. فالتقت في “الحركة” روافد متباينة، مثل أسر الأعيان والوجهاء القدماء والجدد، وأثرياء المهاجر وأولها الافريقي، و”قمم” الطاقم الإداري والتقني، وأصحاب المهن الحرة والمتعلمين “المثقفين” من مدرسين وأساتذة وصحافيين، الى قاعدة عريضة من العامة و “الشعب”. والتقت الروافد هذه تحت عمائم “العلماء”، وأولهم الصدر نفسه. وعوض بلورة “مجلس” أو “مجمع” ملي يأتلف من منازع سياسية وأهلية واجتماعية وثقافية مختلفة، ويقر الجماعات الجزئية وأصحاب المنازع هذه، على تباينهم وعلاقاتهم بأقرانهم، ويقتصر هو على فيديرالية رخوة، تصدت “الحركة” الصدرية الى دمج الجماعة المذهبية في جسم مرصوص، وافترضته متجانساً. ويستحيل التجانس المنشود على غير العصبية المذهبية الواحدة، وعلى غير نفي الروابط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الأخرى، والحط منها قبل محاربتها والعمل على إضعافها واستئصالها. واقتضت السيطرة على الجسم الشيعي، المفترض واحداً ومرصوصاً، حصر الجماعات والنخب الجزئية، الأهلية والسياسية والاجتماعية المهنية والثقافية، وإقصاءها عن المنافسة والمزاحمة على القيادة السياسية. فتربع موسى الصدر وحده، من طريق المبايعة والاستفتاء المباشر، وعلى صفته “العلمية” والنسبية (“السيد” و”الإمام”)، في سدة القيادة الملهمة.
القيادة “المهدوية”
على مثال استفتائي صارم، نصب الصدر “المحرومين” و”المستضعفين” الشيعة والذين “لا صوت لهم”، مصدراً لقيادته هو، وركناً. فسحق “المحرومون” المفترضون، وهذه حالهم السياسية “التنظيمية” والقيادية، الجماعات والنخب الجزئية الأخرى. وأسكتوا، من طريق “الإمام” و “روح الحركة”، الأصوات الكثيرة المحتملة. و “برنامج” الصدر لم يتح له هو إنجازه. فتولت “أمل” (أفواج المقاومة – العسكرية – اللبنانية)، وتولى “حزب الله” الإنجاز. ولربما كان الإنجاز هذا استحال لولا حوادث التاريخ المدمر الذي ناء بثقله على الجماعات الشيعية اللنبانية في اثناء الحروب الملبننة وفصولها المتعاقبة والمتناسلة، فصدعها وقطع أوصالها، وناط توحيدها بفعل مركزي صارم (تولاه المرشد الإيراني)؛ ولولا تراث ثقافي إمامي تضافر مع ركاكة قوام النخب الأهلية الاجتماعي والنفسي على جعل القيادة “هداية” أو “ولاية” محصورة في سلك، وفي نخبة ملهمة ومصطفاة. فالتراث الثقافي والتاريخي الإمامي ينزع المشروعية السياسية عمن ليس مهدياً بـ”الكينونة”، على قول روح الله خميني. وليس لكيان سياسي غير إمامي، نسباً وصلباً و”علماً”، ولاء ولا ولاية. ولا تزن قيادة مكتسبة من طرق التعلم والخبرة والدراية، في ميزان هذا التراث، شيئاً.
وشبت النخبة الشيعية اللبنانية في كنف طاقم اهلي موروث وخالص الأهلية. فلم تستقوِ مرتبته، إلا لماماً، بعوامل السلطة الاجتماعية المستحدثة من انتاج وعمل وتعلم وإدارة وروابط “صناعية” وتمثيل ناجم عن أدوار وحوادث وليس عن أصلاب وأنساب. فانقلب تحصيل عوامل السلطة الاجتماعية – ولو على سبيل الاضطرار والضرورة في مجتمع ينهض على الكسب – الى منافسة على اسباب الوجاهة والمرتبة والصدارة. وماشت النخبة المحدثة، والناشئة عن العمل والهجرة والتعلم والوساطة، تأويل كسبها على هذا النحو. وحملت مكاسبها المهنية والاقتصادية والثقافية والتنظيمية على مكانة ومرتبة، وعلى عصبية. ومعظم أهل النخبة المحدثة ينتسبون الى عصبيات “ضعيفة”، في الميزان الأهلي الغالب. فألحق أهل النخب المحدثة تحصيلهم وكسبهم الاجتماعيين بالعصبية ومراتبها وشاراتها، وبمرجع العصبية الأهلي والمذهبي. ولم يسعوا في بناء لحمات جديدة، ولا في بناء مراجع مختلفة.
فخلف الأمران، التراث الثقافي الإمامي ومثال المكانة الأهلي والعصبي، نخباً اقتصادية – اجتماعية رأسمالية، ومهنية وسياسية وثقافية، مهلهلة وركيكة، تقدم مسرح المكانة وريعها واختيالها على المراكمة المجزية والدؤوبة، وتحسب المرتبة اصطفاء وعلامة وليس دوراً. ونخب على هذه الشاكلة، ضعيفة الروابط الداخلية بين أجزائها وأفرادها، سريعة التصدع حال “ظهور الولي الحقيقي”، المذهبي والطائفي.
فإذا “ظهر” هذا في سياق حوادث تاريخ مدمر، شأن تاريخ اللبنانيين في أطواره الأخيرة، لم تطق النخب المفترضة تحمّل أعباء مقارعة سياسية صريحة وشاقة.
وفي ضوء الاطوار هذه، وآخرها وأقواها أثراً وأطولها وقتاً هو الطور الفلسطيني – السوري وتعمده تحطيم الدولة والسلطة والهيئات والاجتماع والادارة اللبنانية، يبدو “حزب الله”، والجماعة الشيعية من ورائه وبين يديه، تتويجاً لانحرافات التاريخ السياسي اللبناني ومضمراته. فهو يُخرج الى العلن ما تواضع اللبنانيون على التستر عليه، ونمضي على التستر هذا. وهو يجهر صنعته أمة، ويطلب لها السيادة العسكرية والامنية على جماعتها وأرضها. وهو يرعى مجتمعها، ويقدس موارد رعايته، ويقدس افرادها ومستجيبي نداءها ويرتبهم على مرتبة أعلى و”أشرف” من مراتب غيرهم. وهو ينيط “ميثاق” جماعته، وتعاقدها مع الجماعات الاخرى، ووحدة الدولة والشعب تالياً، بما يراه ويرتئيه. فلا يدور بخلده أن أمره وزراء الشيعة بترك الحكومة، ومنعه شيعيين آخرين من تولي الوزارة، هو أفظع نقض للميثاق الوطني المفترض، وتصديع له وللدولة الدستورية والسياسية. فهذا الامر، وهذا المنع، يخولهما انتصاب الجماعة الاهلية فوق الجماعة الوطنية ودولتها.
ويدل الحزب الخميني بالانتصاب هذا، وبتقدم الجماعة الاهلية الدولة الوطنية، من غير حياء ولا خجل. فهو وليد ذهنية وأعراف أهلية وعشائرية ترث، من طرق متعرجة، “ثوار” العصابات الوطنية” وطياحتها، ويرث الاحزاب العروبية وولاءها الامني والاستخباراتي، والحركة الاهلية والاجتماعية الصدرية وطلبها إعالة الدولة والادارة، على قدر ما يرث أولاً الفتات الاجتماعي والانساني المتخلف عن العنف الفلسطيني والسوري والاسرائيلي الذي استشرى في لبنان طوال ثلاثة عقود، ولما يزل.
(النهار)