لم يكن وضع الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل يوماً، صعباً ومعقداً ومحفوفاً بالأخطار كما هو اليوم. وحتى لا يظن أحد أننا نُطلق تقييمات عامة، فإننا ندخل إلى التفاصيل مباشرة.
العرب في إسرائيل ازدادوا، خلال الستين سنة الأخيرة من 150 ألفاً إلى مليون وربع المليون. ونحن نشكِّل 20 بالمائة من سكان دولة إسرائيل.
نحن اقتصادياً واجتماعياً، على هامش المجتمع الإسرائيلي، البطالة في الدولة عموماً 8 بالمائة الآن، وبين العرب أكثر من 25 بالمائة. وليست هناك احصائيات دقيقة.
الفقر الشرس يُمْسك بخناق المجتمع العربي، وحسب الإحصائيات الرسمية هناك 58 بالمائة من العرب تحت “خط الفقر”.
منذ قيام إسرائيل إلى اليوم لم تقم قرية عربية جديدة أو مدينة عربية جديدة في الجليل والمثلث، وأقيمت بعض القرى “الغيتوات” في إطار خطة نهب الأراضي العربية في النقب وليس تجاوباً مع التزايد السكاني لعرب النقب.
الأوساط الحاكمة لم تعترف منذ قيام الدولة إلى الآن بالعرب “أقلية قومية” بالمعنى القانوني والعملي. السلطات تتحدث عن “الأقليات” وتارة عن “غير اليهود” وتارة عن “المسلمين والمسيحيين والدروز والبدو” (مع أن البدو كلهم مسلمون) وأحياناً “العرب والدروز” (وكأن الدروز ليسوا عرباً!).
خلال الأزمة العاصفة، عشية، يوم الأرض الخالد (30 آذار 1976)، قال اسحق رابين رئيس الحكومة آنذاك “إن أية حكومة ليست مخوَّلة أن تعترف بالأقليات في إسرائيل أقلية قومية”.
نحن نعيش على أرضنا، أرض آبائنا وأجدادنا عبر القرون، ومع هذا هناك علامة سؤال شبه رسمية على بقائنا في وطننا.
وتتزايد الأصوات العنصرية الفاشية التي تدعو إلى “الترانسفير” للعرب، كما هناك مَن يقول إن “إعادة المستوطنين العنصريين من الضفة إلى إسرائيل ممكن أن يكون بترحيل العرب من إسرائيل إلى الضفة الغربية، بالمقابل!!
ومع أن شعبنا حقق إنجازات هامة في مجال التعليم، وحطمنا المؤامرة لتحويلنا إلى “حطابين وسقاة ماء” ومع أن المنطقي هو أن يقود التعليم إلى العصرنة الاجتماعية الشاملة وإلى التطور السياسي وإلى التعددية الفكرية والثقافية والاجتماعية، وإلى انصهار شعبنا كله كياناً واحداً، مع رابطة قومية قوية وديمقراطية وعصرية، فإننا نلاحظ، بقلق شديد التشرذم الطائفي والتعصب العائلي (الذي يأخذ بعداً سياسياً حاداً خصوصاً في انتخابات السلطات المحلية العربية) كما أن الأصولية الدينية المسيَّسة تُمزِّق وحدتنا القومية العصرية تمزيقاً.
وللأسف الشديد فإن عندنا فيضاً من “الأحزاب” ولكنها كلها أحزاب “شخصية” (أحزاب الزعيم ) وتفتقد إلى رؤية سياسية وحلم سياسي وأيديولوجيا.
وقد قاد الانحسار الحاد للحزب الشيوعي (الجبهة الديمقراطية) إلى اتساع التمزق والتشرذم وصارت الأحزاب التي “على الورق” أكثر من دكاكين الخضار!!
هناك أمر واحد مقلق، وهو أن نضال الحزب الشيوعي وقوى وطنية أخرى، (مثل الحزب الديمقراطي العربي برئاسة عبد الوهاب دراوشة) للتأثير على المجتمع اليهودي، لكسب أنصار وحلفاء ومؤيدين لنا في نضالنا العادل والديمقراطي، تراجع تراجعاً حاداً، وتصاعدت الانعزالية القومية بشكل حاد، مما أضعف النضال العربي وأيضاً أضعف معسكر السلام والقوى الديمقراطية اليهودية، وأضعف تجنيد واسع عربي يهودي لقضايانا العادلة.
وللأسف ،نلاحظ في السنوات الأخيرة، مع تعاظم الأصولية الدينية (الانعزالية بطبيعتها) تدهوراً نحو الانعزالية بين ما يُسمى الأحزاب “القومية”. وصاروا يعتقدون أن مهمتنا ليست “اختراق” المجتمع اليهودي، بل “العنترية” في مواجهة المجتمع اليهودي.والهرولة إلى موائد الإفطار في الدول العربية!
وصار بعض المنظرين المعزولين عن هموم الشعب ومتابعه ومشاكله يصدرون “الوثيقة” بعد “الوثيقة” للمطالبة بإلغاء “يهودية” دولة إسرائيل وطبعاً إلغاء صهيونية دولة إسرائيل ويطالبون “بدولة كل مواطنيها”، وهناك مَن يقول عندما نذكره بموقف منظمة التحرير “دولتان لشعبين-فلسطين وإسرائيل” إن الزمن تجاوز هذا الشعار!!
علام يعتمد أصحاب هذا الموقف؟ العالم العربي، في مؤتمر القمة الأخير قرر بالإجماع الاستعداد للسلام مع إسرائيل في حدود 4 حزيران 1967 وهناك دولتان عربيتان أساسيتان، مصر والأردن، تقيمان علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وهناك ثماني دول عربية تقيم علاقات اقتصادية (وغيرها) مع إسرائيل.
إن كل الاستطلاعات التي جرت بين العرب في إسرائيل تؤكد أن الأكثرية الساحقة (71 بالمائة) مستعدة لقبول وتأييد سلام بين إسرائيل وفلسطين وبقاء العرب في إسرائيل أقلية قومية مع مساواة، مع استمرار طابع الدولة اليهودي.
ما من يوم كانت هنالك هوة عميقة بين تفكير ما يسمى “القيادة” وتفكير الشعب، كما هي الآن،لا لأن الشعب “انهزامي” والقيادة “أبطال”، بل لأن القيادة تقول الشعارات التي ليس لها رصيد، غير قادرة على تحقيق أي إنجاز سياسي أو اقتصادي، وكلما زاد هزالها وإفلاسها زادت تصعيداً للشعارات “القومية”!.
إن أي حزب مسؤول وأي سياسي مسؤول يجب أن يضع تصوراً سياسياً عاماً، قابلاً للتنفيذ، وأن يكون قادراً أن يجند لمشروعه، وأن يسعى لمخاطبة المجتمع اليهودي لتجنيد بعضه على الأقل. نقول لهؤلاء الساسة: لم يلْغ الحكم العسكري بأصوات النواب العرب، فقط. بل بأصوات 68 نائباً أكثرهم من اليهود، ولم يُلْغ التمييز العنصري ضد الأطفال العرب في مخصصات “التأمين الوطني” إلاّ عبر ائتلاف عربي- يهودي شكَّل الأغلبية في الكنيست.
إذا كنا نريد جعجعة قومية وسباقاً في سوق الشعارات، بإمكاننا أن نستعيد الأندلس، وحدنا، بلا تحالف مع اليهود، ولكن إذا كنا نريد تغيير السياسة في إسرائيل، إذا كنا نريد تعميق مشاركتنا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقليص الهوة باستمرار وبعناد، فلسنا قادرين أن نحقق ذلك إلاّ بشراكة عربية-يهودية.
ومَن يزعم أنه لا يوجد يهود ديمقراطيون وأنصار سلام ومساواة هو إمّا كاذب عن قصد وإمّا كاذب عن استخفاف بعقل شعبنا!
النزاع القومي اليهودي-الفلسطيني-والإسرائيلي-العربي عموماً هو نزاع دامٍ وقاسٍ ومدمِّر ويحتاج إلى حل مقبول على الطرفين. الموقف العنصري اليهودي الذي يتجاهل الحق الفلسطيني في الاستقلال مرفوض. ولكن أيضاً الموقف القومجي العربي الذي ينكر حق الشعب اليهودي في الحياة وحق إسرائيل في البقاء، يُهَرِّج في قطيعة عن الواقع.
فلسطين التاريخية لم تعد بلاداً عربية فقط، أحادية القومية، ففي فلسطين التاريخية شعب عربي فلسطيني وشعب يهودي- إسرائيلي، وكل حل يجب أن يأخذ الجانبين بعين الاعتبار. كما أن المجتمع الدولي كله لا يقبل غير ذلك.
إن بعض الساسة العرب عندنا، داخل إسرائيل، عندما يطرحون الشعارات المكسمالية، المتطرفة يعرفون أنهم لن يصابوا بأذى، ويظهرون أمام العالم العربي “قوميين راديكاليين” ويأخذون التبرعات لجمعياتهم من أوروبا، ويحققون ربحاً، وربما غنىً فاحشاً، من خلال التجارة الدنسة بأقدس قضايانا، قضايا مصير شعبنا الفلسطيني ومصيرنا كأقلية فلسطينية داخل دولة إسرائيل.
إننا نلاحظ بقلق شديد أن القيادة التي تطلق الشعارات الطنانة الرنانة ليست قادرة أن تحرك الشعب في أية معركة أو مظاهرة أو اعتصام ، لا لأن الشعب “انهزامي”، بل بالأساس لأنه لا يثق بهكذا قيادة ليست قادرة على شن أية معركة سياسية نضالية حقيقية، وتكتفي بإطلاق الشعارات. رحم الله إميل حبيبي فقد قال مرة عن هكذا “زعماء” إنهم مثل الناس العاجزين جنسياً الذين يتحدثون باستمرار عن “مغامراتهم الجنسية” الكاذبة. الوهمية!
أعرف أن كلامي هذا يزعج رؤساء “دكاكين” السياسة ومقاولي الشعارات. ولكني أعرف أيضاً أن شعبنا بقطاعاته الواسعة ملَّ رؤساء “دكاكين السياسة” وملَّ مقاولي الشعارات ويحتقر من يحاولون صنع الغنى باستغلال عذاب شعبنا. بإمكان سياسي محترف، إذا “ضاقت به الأمور”، أو إذا واجه خطر المحاكمة على فعلة فعلها، أن “يهاجر”!
أما شعبنا البسيط، الفقير، المعذب، والشهم والشجاع والصامد، فهو يبني كل تخطيطه على أنه باقٍ هنا، في أرضه، لا لكي تتحدث وكالات الأنباء عنه بل لأنه بالغريزة الوطنية ملتصق بأرضه الوطنية. وخيار البقاء في الوطن هو الأفضل دائماً.
وكل التاريخ القومي لكل الشعوب يؤكد أن القومي حقاً لا يجعجع ولا يكذب ولا يزايد ولا يقامر ولا يغامر، بل يناضل لتحقيق أهداف ممكنة ويدفع كل تضحية مطلوبة لتحقيق الأهداف الممكنة، ملتصق بالأرض وأحلامه إنسانية قابلة للتحقيق.
لست متشائماً ولا غاضباً، ولكني أعترف بصوت عالٍ، أنني مفعم بالقلق وأخشى ما أخشاه أن تكون المزايدات القومية الفارغة وغير الواقعية ذريعة لجرائم ضد شعبنا، من القوى العنصرية.
هناك حاجة قومية وإنسانية وديمقراطية وبقائية لشعبنا، الذي لم يرحل في ليل نكبة 1948 أن يأخذ مصيره بيده وان يضرب على أيدي الدجالين والمقامرين والمزايدين، الذين يختفون عندما تقع الواقعة!
نعم، لا أحد يحق له أن يزايد على منظمة التحرير الفلسطينية التي بعثت القضية الفلسطينية، من قلب الرماد، بدماء عشرات ألوف المقاتلين. لا أحد أكثر وطنية من ياسر عرفات ومحمود عباس، والاقتراح التاريخي بالمصالحة بين الشعب اليهودي والشعب الفلسطيني على أساس “دولتان لشعبين” يبهجنا مرتين، مرة لأن دولة فلسطينية تقوم في مجتمع الأمم المستقلة، وثانياً لأن إنهاء النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يعطينا فرصة لتصعيد نوعي لنضالنا لإلغاء التمييز القومي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويعطينا الإمكانية للمشاركة، من خلال شراكة عربية-يهودية أوسع.
لا مجال في عصرنا لأي حل قومي ليس حلاً إنسانياً. والقومي والإنساني والديمقراطي والواقعي هو مَن يحقق لشعبه النصر، بينما الدجالون والمقامرون والمغتنون من عذاب الشعب يقودون قضيتنا العادلة إلى القبر.
نريد النصر لا القبر، نريد الحياة لشعبنا، وللشعب الآخر ولكل شعوب المنطقة والعالم، وفي مقدمتهم جميعاً شعبنا العربي الفلسطيني الذي يحترف العذاب والتشرد منذ ستة عقود.!
salim_jubran@yahoo.com