نشهد حاليا فصلا آخر من المعركة المؤجلة في العراق. عاجلا أم آجلا، لا بدّ من حسم للمعركة التي في أساسها استحالة تعايش الدولة العراقية، في حال كان مطلوبا ان تكون هناك دولة، مع مجموعة من الميليشيات المذهبيّة تسمّى “الحشد الشعبي”.
استطاع “الحشد” ايجاد وضع قانوني لنفسه وتحويل نفسه الى مؤسسة رسميّة عراقيّة. معنى ذلك خلق وضع غير طبيعي في العراق وتكريس للسيطرة الإيرانية عليه وذلك في ضوء الحرب الأميركية – الإيرانية التي اسفرت في العام 2003 عن سقوط النظام الذي كان على رأسه صدّام حسين. كان سقوط نظام صدّام طبيعيا. كان مفترضا به ان يسقط وانّما في ظروف مختلفة تأخذ في الاعتبار الحاجة الى البحث عن بديل معقول له من جهة والطموحات والاطماع الإيرانية في العراق من جهة أخرى.
ما حدث قد حدث في العام 2003 وفي السنوات التي تلته. في ربيع 2003 عادت الميليشيات العراقية الموالية لإيران، ومنها من شارك الى جانب “الجمهوريّة الاسلاميّة” في حرب السنوات الثماني، على دبابة أميركية الى بغداد. ما يحصل اليوم نتيجة طبيعية لاصرار تلك الميليشيات على لعب دور “الحرس الثوري” في ايران، أي تحوّلها الى السلطة الحقيقية.
تلك هي المدرسة الإيرانية في التعاطي مع دول المنطقة. تقوم هذه المدرسة على انشاء ميليشيات تابعة لها في هذه الدولة العربيّة او تلك على ان تصبح السلطة الحقيقية في يد هذه الميليشيات لا اكثر ولا اقلّ. يظل لبنان، حيث مؤسسات الدولة في حال احتضار، افضل مثل على مدى النجاح الإيراني في إدارة بلدان أخرى عن طريق ميليشيا مذهبيّة.
تبدو المعركة الدائرة في العراق في غاية الوضوح، خصوصا بعد اعتقال السلطات الرسميّة لقاسم مصلح قائد عمليات “الحشد الشعبي” في الانبار.
انقسم البلد بين داعم للحكومة برئاسة مصطفى الكاظمي من جهة وداعم لـ”الحشد” من جهة أخرى. اكّد هادي العامري، احد قادة “الحشد” وصاحب اكبر ميليشيا تعمل في ظلّه (منظمة بدر) الى اطلاق قاسم مصلح. اخذ العامري، زعيم “تحالف الفتح” في مجلس النواب المبادرة واعتبر ان اعتقال قائد عمليات “الحشد الشعبي” في الانبار مخالف للقانون. رفض ان يأخذ في الاعتبار الاتهامات الموجّهة الى قاسم مصلح وهي اتهامات تدينه بالصوت والصورة. ليس معروفا بعد هل اطلق الرجل المتّهم في قضايا مرتبطة بقتل مواطنين عراقيين، ام لا. الأكيد انّ “الحشد” قام بعراضة مسلّحة في “المنطقة الخضراء” في بغداد ليثبت انّه القوّة الأساسية في العراق وان على مؤسسات الدولة الانصياع لارادته… أي ان يكون العراق تابعا لإيران لا اكثر وان يكون “الحشد الشعبي” النسخة العراقيّة لـ”الحرس الثوري” في نظام الوليّ الفقيه!$ثمّة رأيان مختلفان في تقويم الحدث العراقي. هناك من يعتبر انّ “الحشد الشعبي” فرض رأيه واجبر الحكومة على اطلاق قاسم مصلح وان مستقبل مصطفى الكاظمي وحكومته في مهبّ الريح… وثمّة من يقول ان قوات الامن التابعة للحكومة والتي هي في امرة رئيس الوزراء استطاعت استيعاب الموقف في “المنطقة الخضراء” في بغداد واجبرت “الحشد” على التراجع.
في الواقع، هناك ما هو ابعد من قضيّة قاسم مصلح والمعركة الدائرة بين الجيش العراقي والقوى الامنيّة الاخرى وميليشيات “الحشد الشعبي” من جهة اخرى. هناكّ اوّلا معركة موقع العراق في المنطقة. يتحرّك “الحشد الشعبي”، عن طريق رموزه، مثل هادي العامري وقيس الخزعلي وغيرهما، ليردّ على التقارب الحاصل بين العراق ومحيطه العربي. ليس سرّا ان تقاربا حصل منذ اصبح الكاظمي رئيسا للوزراء في السابع من ايّار – مايو 2020، بين بغداد وكلّ من الرياض وابوظبي والكويت والقاهرة وعمّان وعواصم عربيّة أخرى. اعيد فتح معبر عرعر بين السعوديّة والعراق وذلك للمرّة الأولى منذ ثلاثة عقود. عملت الحكومة العراقيّة على إيجاد علاقات متوازنة بين العراق من جهة ومحيطه العربي و”الجمهوريّة الاسلاميّة” من جهة أخرى. هذا ما لا يمكن ان تقبل به ايران التي تعتبر انّ العراق مجرّد تابع لها وانّها المنتصر الوحيد في الحرب الأميركية على العراق في العام 2003. في الواقع، كانت “الجمهوريّة الاسلاميّة” الطرف الإقليمي الوحيد الذي قدّم الى الاميركيين في عهد جورج بوش الابن كلّ التسهيلات المطلوبة في حملة اجتياح العراق وصولا الى التفاهم مع إدارة باراك أوباما على القبول بان يكون رئيس الوزراء العراقي مجرّد موظف تفرضه طهران ويلتزم تعليماتها.
في النهاية، من الصعب على ايران القبول بعراق مستقلّ يلعب دورا خاصا به على الصعيد الإقليمي. من الصعب عليها القبول بذلك، حتّى لو كانت بغداد تحوّلت الى المكان الذي يلتقي فيه امنيون من السعوديّة وايران للبحث في امكان إقامة علاقات طبيعيّة بين البلدين.
كلّ ما هو مطلوب في الوقت الحاضر ان يكون العراق ورقة ايرانيّة، على غرار ما هو لبنان ومناطق سيطرة الحوثيين في اليمن. يحصل ذلك في وقت تستخدم ايران كلّ اوراقها من اجل الضغط على الإدارة الأميركية الجديدة لاجبارها على رفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على “الجمهوريّة الاسلاميّة”.
من الواضح، انّ المفاوضات غير المباشرة والمباشرة الدائرة في فيينا وغير فيينا بين الإيرانيين والأميركيين لم تؤد الى النتائج التي تطمح اليها طهران. الى اين سيؤدي ذلك؟ الجواب، بكل بساطة، انّ العراق عند مفترق طرق. ما قد يساعد مصطفى الكاظمي ان الجيش العراقي والقوات الأخرى، مثل جهاز مكافحة الإرهاب، لا تزال صامدة ومتماسكه. الاهمّ من ذلك كلّه ان الشعب العراقي يرفض، بأكثريته، ان يكون بلده تابعا لإيران. هذا ما كشفته سلسلة الاحداث التي شهدها العراق بمدنه المختلفة، بما في ذلك النجف وكربلاء والناصريّة، في العامين الماضيين. لم يتردّد شيعة عراقيون في القول علنا انّهم يرفضون الرضوخ لإيران وان العراق هو العراق بينما ايران هي ايران.
من هذا المنطلق تبدو المعركة مؤجلة في العراق. في نتيجة هذه المعركة سيتبيّن هل العراق عاد العراق… ام ان نتائج الاجتياح الأميركي ما زالت تتفاعل على ارض بلاد الرافدين؟