في مكالمة تلفونية لأحد الأصدقاء من منفاه مع أهله في مدينة النجف، شكا صديقنا العزيز لأهله من ظاهرة الفساد والنهب التي تعم الأجهزة الإدارية في عراقنا العزيز باعتبارها ظاهرة تمس مستقبل البلاد واقتصاده وتهز القيم الأخلاقية. وهنا انبرى له الأهل في مدينة النجف قائلين: دعوهم يسرقون، ولكن لا أن تعود السيطرات ومداهمات الأمن والمخابرات والاعتقالات الكيفية وسلسلة المحرمات إلى سابق عهدها!!. إن جواب الأهل في هذه المدينة المقدسة التي تعرضت كسائر مدن العراق إلى الضيم وكبت الحريات، ينم عن ما يرنو إليه العراقيون من الوضع الجديد بأن يحفظ ويحمي الحريات الفردية والعامة ويلتزم المسؤولون في المركز أو في المحافظات بما نص عليه الدستور العراقي. وفي الحقيقة أن المواطن العادي البعيد عن ساحة الصراعات العبثية التي يخوضها العديد من النخب السياسية على الجاه والمنصب ليس له هاجس سوى الخوف من عودة “حزب العودة” أو ممارساته وبلباس جديد أو بأيادي أخرى إلى المشهد العراقي. ففي وقت سابق وفي عام 1992 وبعد تراجع سلطة البعث عن إقليم كردستان قام فريق من مكتب الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي، وكان كاتب السطور أحدهم، بتصوير فلم وثائقي عن الخراب الواسع الذي أحدثه الحكم السابق في الإقليم والذي أدى إلى تدمير 5 آلاف قرية وتعطيل الزراعة فيه.
وعند تجوالنا في سفح جبل سفين وتحديداً في قصبة هيران التي تعرضت إلى القصف الكيمياوي والخراب عدة مرات، التقينا بمواطن من فلاحي المنطقة وسألناه ضمن أسئلة أخرى عن رأيه بالنظام الفدرالي للعراق والذي كان مثار جدل آنذاك. وأجاب هذا الفلاح النجيب على سؤالنا بالآتي:”والله كاكا آني مو مثلكم أنتم السياسيون وما أعرف فدرالية ولا حكم ذاتي ولا أمر آخر، كل ما أتمنى أن تزال السيطرات على طريق بغداد والمدن الأخرى كي أستطيع أن أبيع محصولي بدون وجع راس وأن يزال الظل الثقيل لرجال الأمن والمخابرات ومداهماتهم، وهذا كل ما أتمناه”. أي أنه يسعى إلى ضمان حريته الفردية بعيداً عن الوصايات والإكراه.
أسرد هذه المشاهد كي أصف هذا النزوع لدى الفرد العراقي البسيط وتمسكه بالحريات الفردية، والذي تراكم نتيجة لعقود من كبت الحريات الفردية والديمقراطية وخاصة في فترة عهدي حكم البعث الذي فاق جميع العهود في كبت الحريات والتضييق على حياة الناس وممارساتهم للطقوس المدنية والدينية، وفرض الحكم سلوكاً محدداً حتى في بيوتهم.
فالحاكم السابق صدام حسين كان يعرج على بيوت المواطنين ويفتح ثلاجاتهم أو يعلمهم كيفية تناول الشاي!!!. وفي بداية عهدهم كان الحكام يحرّمون على الناس الذهاب إلى المساجد، وبمن فيهم قادة حزب البعث. وقد سجل ذلك في شريط تلفزيوني شاهده العراقيون حيث حاكم فيه صدام حسين طاهر توفيق العاني عضو القيادة القطرية لأن الأخير شوهد وهو يذهب إلى الجامع لأداء الصلاة وعد ذلك انتهاكاً لفكر حزب البعث. ولكن سرعان ما دار هذا الحاكم 180 درجة ليعلن بشكل مفاجئ “حملته الايمانية”. وبدأت حملة لبناء مؤسسات دينية ضخمة في وقت كان المواطن يعاني الفاقة والفقر والعوز. وتحول قادة البعث إلى ملالي ودراويش مثل عزة الدوري، يمارسون الدرباشة والتخريفات في تكايا الدراويش والملالي. وسرعان ما فرض على النساء ارتداء الحجاب ورفعت راية “الصحوة الدينية” وكأن العراقيين البسطاء كانوا قبلئذ من المشركين والكفرة، وهم المعروفين جميعاً مؤمنين وعلمانيين ومن شتى المذاهب باحترامهم للمعتقدات الدينية والمذهبية.
وبعد انهيار الطغيان بدأ العراقيون يتمتعون بقدر من الحريات، ولكن نغصتها وعرقلتها أسراب الإرهابيين القادمين من خارج الحدود وأنصارهم العراقيين ومن فلول النظام المنهار، إضافة إلى الميليشيات “الدينية والمذهبية” التي خلقت الرعب لدى الناس، وخلقت أجواء إرهابية للحد من الحريات العامة وبقوة السلاح. وفرضت على العامة ممارسات عنفية مخالفة للدستور وبكامل الحرية مثل اللطم وضرب القامات والزناجيل والبكائيات، تلك الممارسات والبدع التي حرمها كبار رجال الدين لكونها تسئ أبلغ الإساءة إلى رموزنا الدينية والتاريخية وملاحمهم البطولية من أجل إحقاق الحق والعدل. كما منعت كل مظاهر الفرحة واللهو البرئ وبما فيها الغناء والسيرك. فالحلاق أصبح من وجهة نظرهم جزءاً من “الطابور الخامس الأمريكي” مما يستحق إزهاق روحه، وتقليعة الشعر أصبحت اتهاماً بالزندقة يعرض صاحبها إلى “القصاص الشرعي”، ولعبة البليارد وتدخين الغليون ممنوع شرعياً، والأغاني رجس من عمل الشيطان وتميت القلب وتضعف الايمان، وعرض الملابس النسائية في محلات بيعها خدش للحياء العام. وهكذا سُجلت قوائم طويلة عريضة من المحرمات المخالفة حتى لشرع الخالق الذي يدّعون الإيمان به والانصياع لارادته. إن أصحاب هذه الفتاوى الذين زاد عددهم وانتشروا كالفطر يفسرون النصوص الدينية طبقاً لجهلهم بالدين، ويحولون القرآن، كما يشير الأمام علي بن أبي طالب، إلى “حمالة أوجه” كل يفسره ويمطّه حسبما يشاء وحسب مصالحه وضيق أفقه وجهله.
إن أي تحريم يسعى المتطرفون إلى فرضه على المواطن العراقي لا يؤدي إلاّ إلى العكس من هدفه. فتحريم الخمور مثلاً في إيران بعد الثورة عام 1979 من قبل أقران المتطرفين عندنا لم يؤدي إلاّ إلى زيادة أجهزة التقطير وانتاج الكحول في البيوت وخارجها. كما انتعشت تجارة التهريب والسوق السوداء على طول الحدود الإيرانية شرقها وغربها. فكل ممنوع يثر لعاب البعض، ويشجع مافيات التهريب على انتعاش تجارتهم وما ؤدي ذلك إلى المزيد من الفساد الإداري والانحراف الاجتماعي والاقتصادي خلافاً لما ينتظره أرباب هذه التحريمات. إن هذا التحريم ما هو إلاّ دعوة لعصابات تجار السوق السوداء للعمل كي تزدهر تجارتهم. كما أن هذا التحريم يعني خروج هذه التجارة عن سيطرة الدولة والرقابة عليها وما لذلك من آثار صحية واقتصادية واجتماعية. وحبذا لو يرسل هؤلاء السادة وفوداً استطلاعية إلى الدول التي حرمت الكحول مثلاً لترى نتائج التحريم المدمرة على المجتمع. لقد حكى لي الصحفي الفرنسي أريك رولو لجريدة لومند في عام 1980 وبعد حضوره أول مؤتمر للقمة الأسلامية في جدة، إن أفضل وأكبر بارات الخمور موجودة في بيوت المتنفذين في السعودية وبشكل لا مثيل لها في الغرب. مما أثار الدهشة والاستغراب لديه وكتب عن ذلك في جريدة اللوموند وفي ثلاث حلقات عن خفايا الأمور. إن علاج الادمان على الكحول وتقليص واستهلاكه له طرقه التي يسير عليها الآن العالم المتمدن. ولا شك أن الاسراف فيه له عواقبه الصحية والاجتماعية ولا يحل بالتحريمات.
إن هذا النزوع إلى كبح وقمع الحريات العامة والفردية يتناقض مع حرية الاختيار ونبذ الإكراه الواردة في نصوص كتب الديانات السماوية، والدين الإسلامي على وجه الخصوص حيث جاء: ” لا إكراه في الدين قد تبّين الرشد من الغيّ – سورة البقرة آية 256″، و”لكم دينكم ولي ديني”، “وجادلهم بالتي هي أحسن” و” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر- سورة الكهف، الآية 29″، و”ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين- سورة يونس: الآية 99″.
هذا كلام خالقهم، ولكن فريق من عباده يصر على التجاوز على الخالق والإمعان في التعدي على الحريات المدنية والحريات العامة. هذا الإصرار المريب سرعان ما بان هدفه الشرير مما دفع الحكومة في 2008 إلى القيام بحملة لتصفية بؤر هذه التجمعات في البصرة تحت عنوان صولة الفرسان، ومدينة الثورة ومناطق أخرى من بغداد والمحافظات. وشم المواطنون قدراً من نسيم الحريات العامة وشرعوا بممارسة حياتهم وخاصة المرأة العراقية التي نكبت بهذه التخاريف. ولكن كما يبدو أن أنصار التخلف وخرق الدستور وانتهاك الحريات العامة خطوا خطوة إلى الوراء من أجل أن يتقدموا خطوتين إلى الأمام. وهكذا بدأ “سلاطين” بعض المحافظات بالهجوم من جديد على الحريات المدنية التي كفلها الدستور وشرعة حقوق الإنسان، وكأنهم يسعون إلى إقامة دولة لا قانون ثيوقراطية دينية على غرار دولة الطالبان. وهكذا تمت عرقلة مهرجان بابل السنوي واقتحام سيرك مونتي كارلو في البصرة، وفصل التلميذات عن التلاميذ في المدارس الابتدائية واقتحام النوادي في بغداد وغيرها بذرائع غير قانونية.
إن العراق الذي بدأ أولى خطواته الجادة نحو بناء دولة القانون يواجه مساعي محمومة من قبل متطرفين من نوع ثان، بعد أن بدأ التطرف التكفيري يتلقى ضربات جدية على يد قواتنا المسلحة. وهدف هذا المسعى ردع تراكم الوعي والتجربة عند العراقيين الذين أخذوا يفتحون عيونهم على زيف الدعوات والوعود التي سمعوها خلال السنوات التي تلت انهيار الطغيان دون أن تحل المشاكل المتراكمة في حياتهم اليومية على يد من أنغمر في التجارة بالدين. وهنا لم يجد هؤلاء المتطرفون من وسيلة لكبح هذا الوعي المتراكم وحرف الرأي العام عن مطالباته بتحسين الأوضاع سوى فتح الباب على مصراعيه لزج المواطن العراقي في نفق لا يختلف من حيث الجوهر عن ذلك النفق الموحش الذي أراده أقطاب دولة العراق الإسلامية وزمر القاعدة للعراقيين. وتكمن خطورة هذه الإجراءات التي تتخذها بعض العناصر المتطرفة في دوائر المحافظات في أنها تؤسس لعراق متشرذم غير موحد في إدارته وقوانينه، مما يعرض البلد إلى حالة من الاغتراب بين مواطنيه مما يسهل أن يتحول إلى لقمة سائغة للتدخلات الخارجية.
إن من واجب رئاسات السلطات الثلاث، رئاسة مجلس النواب ورئاسة السلطة التنفيذية والسلطة القضائية الذين أقسموا على حماية الدستور، أن تقول كلمتها في هذه الانتهاكات وأن لا تلتزم الصمت وتقف متفرجة على هذه الانتهاكات للدستور والتلاعب بمصائر العراقيين وتهديد العملية الديمقراطية الفتية. فعلى الرئاسات الثلاث أن تقول كلمتها وتردع كل من يحاول إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء، والوقوف بوجه كل من يحاول فرض قرارات متخلفة من شأنها وقف كل جهود العراق نحو الخروج من القيود والعقوبات الدولية المفروضة عليه، قرارات تعرقل وتوقف جهود الحكومة نحو دخول الاستثمارات إلى العراق وتحريك عجلة الاقتصاد العراقي، قرارات تسد الأبواب أمام انفتاح العراق على العالم الخارجي وتعرف أبنائه على آخر ما قدمته البشرية من منجزات علمية وتكنولوجية وثقافية. إن المواطن العراقي الحريص على الديمقراطية وحريته بانتظار كلمة حق من مجلس النواب ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والمحكمة الاتحادية لردع هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان العراقي التي كفلها الدستور والمواثيق الدولية التي وقع عليها العراق.
adelmhaba@yahoo.co.uk
* كاتب عراقي
العراق: عودة إلى ممارسة مدانة لانتهاك الحريات العامة
abody — abody_1963@yahoo.com
يا اخوان تطرق الكاتب الئ كل شئ في قلبي. فقط اريد ان اقول يريدون العراق ان يصبح ايران الثانية .شكرا