أغوت الاستهانة بالطائفية مثقفي سوريا وأبرز معارضيها، و تغاضى بيان إعلان دمشق التأسيسي عن التعرّض لها، ويتحاشى أكثر من تلتقيهم الصحف والمنتديات والقنوات الفضائية من شخصيات المعارضة السورية البارزين الحديث عنها، بل إن لطرق التمويه التي يسلكونها هربا حكايا تفطر القلوب حزنا من الواقع المرير الذي يجعلهم يتدفقون في تحليل كل شيء، وينكصون على أعقابهم أمامها.
ولأن هذا الموضوع يتصل بصميم ما يعانيه السوريون، فلا يتصورنّ أحد أنّه يسدي إليهم معروفا عندما يحرّك كتفيه مستهينا و مخاطبا محدّثيه بمفردات بليغة: نحن شعب واحد، ولم نعرف الطائفية في تاريخنا، وليس في إرثنا الاجتماعي والسياسي ما هو طائفيّ! ولن يقوى على شطب هواجسهم بجرّة فصاحة مثقّف ينظر في عيني محاوره قائلا: الطائفية مرض، دعوها فإنّها نتنة!
لا مناص من طرح المشكلة الطائفية في سوريا، ما دمنا في صلب مشروع تغييري، وما دامت الرياح تعصف حقا من كل حدب وصوب بالنظام، ولا يمكن تصوّر رطب الكلام كافيا للمعالجة السويّة، فلم ينفع التبسّط، والتذكير بوحدة الشعب العراقيّ، والقلوب المتآلفة، وحديث العيش المشترك والعريق، الذي سبق سقوط نظام صدّام حسين في تجاوز المشكلة أو تفادي الدماء التي أريقت حولها وفي مضمارها.
ولا مفرّ من صكّ عقد اجتماعي جديد، يعيد بلورة الشخصية السورية على أسس لم تعرفها البلاد منذ الاستقلال حتى اليوم، فلا قيم البرجوازية الوطنية التي حكمت البلاد بعيد الاستقلال تعاملت مع التنوّع الغنيّ الذي يميز سوريا بما يستحقّه هذا التنوع من: احتفاء، وتشديد على الهويّة التي تجمع وتبلور وتعكس حقيقة العيش المشترك والمصير الواحد والقيم السورية الراسخة والوجدان الجمعي، ولا الاستبداد التالي الذي كتب في بند دستوري إقصائي بالغ الوضوح: إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع، استطاع أن يفقه المشارب المتنوعة التي يمكنها أن تصوغ هوية مؤكدة للشخصية السورية، دون أن تحفر لرؤى السوريين مجرى واحدا.
كلتاهما، سلطتا ما بعد الاستقلال، عجزتا عن تحويل الفسيفساء السورية إلى هوية، ولذلك فإنّ الصراخ علنا بأن المجتمع يتألم؛ قسم لمخاوفه، وشطر لأحزان أبنائه، وبعض لحقده، ومن غلواء التكوّر ذلا لبعض آخر، ولعجرفة مكوّن، و يأس مكوّن ثان، وتربّص مجموعة، ولرهبة فئة، صراخ لا بدّ، بل حان الجهر به.
فالسوريون كالعراقيين واللبنانيين في تنوّعهم الطائفي والعرقيّ، ولا تتلخّص المشكلة العرقية بالموقف الكرديّ ومنه فقط، وإن كان الأبرز. فالتركمان والشركس والآشوريون والكلدان والسريان والأرمن وغيرهم من الأعراق السورية، تهمس بمشكلاتها، وتزفر وحدها، والتهميش والتعريب القسريّ، وعدم الاعتراف بالخصوصية العرقية، تفاقمت جميعا في النفوس إلى مستويات خطرة، ولا ريب أنّها ستمثل بعزم في وجه القوى التي ستخلف النظام، عندما تلوح بوارق التغيير، إن لم تضع هذه القوى في حسبانها، ووثائقها، برامج محددة لمعالجتها.
وحدها المعارضة، تتحمل مسؤولية التقدّم بطروحات حكيمة ومعلنة وتقديم حلول لمعاناة الذين أنهكهم نفي قومياتهم الأمّ؛ فمن الواضح أنّ الديكتاتورية لم يعد بمستطاعها إقامة أدنى التحالفات البراغماتية مع مكونات السوريين القومية المتعددة، مهما وعدت بإعادة النظر والإصلاح. ولعل المثال الكرديّ الذي تلا أحداث القامشلي، ووعود الرئيس بشار الأسد بدراسة أوضاع مجرّدي الجنسية منهم، وبقاء أزمتهم على حالها، خير دليل على عجز النظام عن إصلاح ما أفسدته يداه عن سابق إصرار وتعمّد. ومما لا شك فيه، أنّ انكباب الديكتاتورية على البحث عن سبل لحماية نفسها داخليا وخارجيا، أخذ يوقعها في الخطأ تلو الخطأ، ويسد عليها المنافذ تباعا، حتى ضاق هامش قدرتها على المناورة إلى حدود محرجة حقّا.
ولكنّ ما تعانيه الطوائف في ظل استبداد وقهر أربعين سنة، يبقى أخطر وأسوأ، خصوصا إذا واظبت قوى المعارضة السوريّة على ممانعة حضوره، وطرحه عاريا من الرتوش الأخلاقية وقواعد اللياقة، التي لا يستشعر المجتمع تجاهها طمأنينته التي يبحث عنها، ولن يستطيع أدب العبارة، وألفاظ المحبة، والتغنّي بمعاني وقيم الاعتراف بالآخر،مهما توفر له من سبل الفصاحة أن يبدد سحب الهواجس، ولم يعد ثمّة مفرّ من الإسراع بوضع النقاط فوق الحروف، للحؤول دون تحوّل المشكلات العابرة إلى أزمات مستعصية ومفخخة.
قبل صياغة العقد الاجتماعي الجديد، لا بدّ من الإقرار أن الاستبداد فاقم المشاعر الطائفية، وأجج الغلواء، وأسهم في توفيز أحاسيس خطرة، لا تنتمي بأي حال إلى حسّ المواطنة، وقاد المجموعات المختلفة إلى الاستمساك بغرائز رعوية تنتمي إلى الماضي، ولا تمت بأدنى صلة إلى واقع عولميّ جعل من الانتماءات البيولوجية والقبلية سخفا معيقا لكل تقدم بشريّ. ولقد
لعب النظام دورا احترافيا في شدّ المكونات الاجتماعية المختلفة إلى مشاعر بائسة.
فالسنّة الذين يشكّلون قوام الشعب السوريّ شعروا أمام السطوة الأمنية للنظام، وحقيقة كون أغلب عناصره الاستخباراتية من العلويين، أنّ ثمة تهميشا لأكثريتهم، وانتابت بعضهم رغبة طائفية متخلّفة بالانتقام لعهود سطوتهم السابقة؛ تلك العهود التي تنتمي في حقيقتها إلى فترتين تاريخيتين هما: قرون ما قبل الاستقلال، الخاوية على عروشها من أي بعد سوري، والتي لم يحتكر صلافة الإحساس بالهيمنة السنّية فيها السوريون من السنّة وحدهم بطبيعة الحال. فقد شاركهم حس الهيمنة هذا، عرب آخرون، لأن هذه الفترة واحدة من فترات خيّم عليها عربيا، بؤس افتقاد الهوية، وركون مريع إلى شخصية زائفة قوامها الإسلام بوجهه المكّيّ فحسب، الأشعريّ فقط، السنّيّ خصوصا. وهذا الزيف في رؤية الذات معزولة عن الجغرافيا، والتاريخ المشترك، والديموغرافيا التفاعلية بين السنّة وغيرهم، كانت تسانده تصورات ضخّها العثمانيون في هذه الشخصية فأبعدتها عن حقيقة انتمائها الوطني، وسلبتها معايير المواطنة التي لعبت وتلعب على الدوام أهم الأدوار في بناء الدول.
أما الفترة التاريخية الثانية التي شعر السنّة أنها عهدهم الذهبيّ، فهي الفترة الأولى من عمر الاستقلال، التي حملت إلى سدّة السلطة شكري القوتلي الذي ينتمي إلى واحدة من كبريات الأسر السورية، الدمشقية، فتلك الفترة عنت للسنّة وحدهم أن الاستئثارية السنّية التركية لم تغادر بلادهم حتى أورثت السنّية الدمشقية عباءتها، فراحوا يستعيدون أيامها بمرارة من يرونها وجها طائفيا لهويتهم، وقلّ للمستعيدين أن يدافعوا عن برلمانيتها، ومساحات حرياتها، فغفل القوم بطائفية فجّة عن أبهى ما فيها. ولذلك، لم يكن غريبا على هؤلاء الذين أشعرهم النظام الحالي باليتم والعوز والصّغار، أن يحسّوا بآلام فقدان السلطة، عندما باغتتهم بيئة غلب عليها حضور عسكريّ وأمني واستخباراتي جديد تماما في انتماءات معظمه إلى طائفة وقر في الوعي السني منذ زمن أنها ليست إلا أقلية قرويّة لا وزن لها ولا مقدرة، وأن كفاءة أبنائها موضع شك وجدل، لأنّ من عومل باستخفاف طوال عقود سيعجز لا محالة عن إدارة الهيمنة السابقة، بل إنه – وفق هذا الوعي- سيمتنع حتى عن تقديم نموذج يرعى المساواة على أقل تقدير!
وبطبيعة الحال فإنّ الاستبداد لم يبادر إلى تبديد هذا الإحساس الذي طغى على فكر وحسابات السنّة السوريين انسجاما مع علمانية تشدّق بها طوال أربعين عاما، بل راح يفاقمه من جهتين. فعزز أحاسيس مواطنية الدرجة الثانية عند السنّة، وراح يوهم الأقليات أن التفافها حول حسن إدارته الأحاسيس الطائفية، خير ضمانة لمستتقبلها، ولم يفض هذا كله إلا إلى تباينات عند الأقليات، وغصص لدى الأكثرية.
فأما التباينات فانعكست جلية في انعزال مسيحيّ لا تخطئه الأعين، وعزوف شبه كامل لأبنائهم عن الانخراط في المشهد السياسي والشأن العام، وفي إمعان في النأي عن المؤسستين العسكرية والأمنية، حتى ليخال السوريون من غير المسيحيين أن هؤلاء قد قنعوا بمكانتهم العالمية ولم يعودوا يأبهون بتهميشهم الواضح في مجمل المشهد السوريّ.
ولم يكن الدروز أوفر حظا في الإحساس بالمشاركة والفاعلية المحدودتين؛ فتجرعوا آلامهم بصمت كئيب.
أما العلويون، الذين أمعن، ويمعن النظام في إيهامهم بأنّ السلطة بأيديهم، فينظرون في غالبيتهم الساحقة إلى ما في أيديهم من مكاسب وفرص وثروات ويتألمون؛ لأنّ ما يواظب النظام على إشعارهم به ليس إلا سرابا محضا. فهم يدركون في قرارة نفوسهم، وفي تصريحاتهم، والاتساع الملحوظ في عديد معارضي النظام بينهم، أنّ خدعة امتلاكهم السلطة أضحت بائسة ومكشوفة، وأنّ سلطة الأجهزة والاستبداد، لم يعد بمقدورها أن تخاطبهم إلا بمنطق التخويف وبثّ الهلع من أكثرية متربّصة، وراع نخبهم حقّا أنّ الشعور السنّي بالغصّة، قدّم وما زال يقدّم، خدمة للسلطة ساعدتها في إبقاء هيمنة مخادعة على بعض أبناء الطائفة العلوية، خصوصا أولئك الذين شدّ النظام وثاقهم ببعض عملياته الأمنية، واستخدمهم لتنفيذها، والذين أضحت مخاوفهم توترات نارية، ما إن تبدأ بالترمّد، حتى يعيد النظام إشعالها من جديد.
فما الذي فعله النظام طوال أربعين عاما إذن؟؟
الحقّ أنّه استلّ من الشعب عموما، ومن طوائفه جميعا، مرتزقة أمعنوا في امتهان كرامة السوريين، وسلبهم أرزاقهم، وجعلهم حاشيته المتعبدة، وحصنه الحصين. فراح هؤلاء الزبانية المقرّبون يغذّون حزن السنّيّ، وهامشية المسيحيّ، وعزلة الدرزيّ والشيعيّ، وقلق وهواجس العلويّ، وعملوا على إقناع الجميع أنّ زوال هذا النظام لن يفضي إلا إلى عراق آخر غارق في الدم، وتناسى المرتزقة هؤلاء، الذين يعملون بدأب هذه الأيام، أنّ إخافة المجتمع من التغيير لم تكن، وليست، إلا استهانة وقحة بوعي غالبيته الساحقة.
فالسوريون يفهمون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أنّ انتماء معتقلي النظام إلى مكوناتهم جميعا، إنما يعني أنهم في حضرة سلطة ينتمي أفرادها إلى الجميع من جهة، وأنّهم أمام معارضة متنوعة المكونات العرقية والطائفية، لم يستطع الاستبداد إلا أن يوحّد بعسفه شملها من جهة أخرى.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن فسيفساء الشعب السوري بأمس الحاجة اليوم إلى عقد اجتماعي جديد، ولا بد أن تبدأ قوى المعارضة السورية بوضع ملامحه المقترحة، وإن لم تستطع بسبب ظروفها الأمنية القاسية، التي تحدّ من تحركات كوادرها، فلا أقلّ من أن تصمم هيكلية آمنة للعملية برمتها، بحيث تقضي بضرورة انعقاد مؤتمر سوري شامل يجمع الممثلين الذين ترضى عنهم مجموعات الشعب وتختارهم بحرية تامة، فلا تستثنى مجموعة عرقية أو طائفية، ولا تلتئم طاولة المؤتمر إلا بحضور الممثلين المنتخبين للمجموعات العلمانية المكونة من اليساريين والقوميين والليبرالليين. وعلى عاتق هذه الهيكلية- الواجب الإسراع بإخراج مسودتها إلى العلن السوري- أن تنظم الأعداد الملائمة، وجدول الأعمال الذي يفترض أن يشتمل على نقطتين جوهريتين هما: إقامة دولة مدنية حديثة، و استيلاد ميثاق يصوغ هوية سورية تلحظ التنوع الغنيّ، وتؤسس للمواطنة العصرية. وعلى المشروع أيضا أن يتضمّن ضرورة اقتصار عمل هذا المؤتمر على صياغة هذين البندين، بحيث يغدوان ميثاق تعايش، فعيش مشترك، يتساوى فيه الجميع، حقوقا وواجبات.
أما الدستور، فيضعه بعيد ذلك، وفق رؤية مدنية، حقوقيون منتخبون من المجموعات العرقية والطائفية جميعا، ووفق مساواة شاملة في الاقتراح والاعتراض والإقرار. بل إن محاذير الرضى التام والإجماع الكامل، يفترض أن تتحكّم بصرامة في بنيان أعمال صياغته، ولعلّ تجارب المجتمعات التي صاغت الوحدة من خلال الإقرار بالتنوع، واحترام خصوصيات مكوّناتها، ووفق مبادئ ترفض المحاصصة اللبنانية والعراقية، أكثر من أن تحصى. و لا أرى خرقا للهوية في الاستئناس بخبراتها، والاستفادة من طرق تغلبها على المصاعب المحتملة في عملية ضخمة كهذه.
وعلى قوى المعارضة السورية أن تلحظ باهتمام أنّ الشأن الطائفي السوري ليس موضوعا عابرا، ولا يمكن عبر الاستهانة فيه أن يضمن السوريون تفادي عواقبه، وأنّ تعمل انطلاقا من أنّ أمن المجتمع؛ مبدأه العقد الصالح، وعماده سلطة مدنية: ترعى الناس، وتؤمن بحقوقهم فتؤمّنها لهم، ولا تتوانى في الضرب بعنف على يد كلّ متربص لم يعرف عدوّه، فاستسلم لجاهلية مغروزة في صلبه وتفاصيله، وتحترم خوف مخدوع بسيط، فتعوّده الثقة بشركائه في الوطن، وتأخذ بيد المهمّش إلى صلب الحركة والفاعلية، وتشجّع المنعزل على فكّ عزلته.
وليس ذلك بعسير. فمقاومة البطش، والسعي الجاد للتغيير وسط القهر والخوف، وبمحاذاة جنازير الجلادين، أشد صعوبة من تصميم خارطة طريق آمنة لمجتمع يكمن جوهر ثروته في تنوعه الإثنيّ والعرقي، وفي شخصيته التي ستبدأ حتما مسيرة صعودها نحو صلب العالم عندما تعبّ غناها، وتهضمه.
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري